الخوري جورج كامل
مقالات/ 2016-12-08
مقـدمـة
بدأ تكريم العذراء مريم أمّ الربّ منذ «هتفت لها إليصابات بأعلى صوتها وقالت: مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك! ومن أين لي هذا، أن تأتي إليّ أمّ ربّي؟» (لوقا 1: 42-43). ولما أخذها يوحنا الرسول إلى بيته عملاً بوصيّة يسوع على الصليب «يا امرأة هذا ابنك. وللتلميذ: هذه أمّك» ( يوحنا 19: 26-27 )، فرافقت الرسل في اجتماعاتهم وصلاتهم ورسالتهم ومعاناتهم وتشرّدهم. فكانت، وما زالت، تلك السفينة التي حملت يسوع في بحر هذا العالم، والكنيسة التي تلد المؤمنين.
بعد رقادها وانتقالها إلى السماء، مرّ تكريمها بمحطّات هامّة طبعت العبادة المسيحيّة بحضورها في كافة الاحتفالات الليتورجيّة والعبادات الخاصّة، منها مجمع أفسس الذي التأم عام 431 داعياً إيّاها «أمّ الله»، وما زال يتردّد صدى هذا الدعاء في زياح العذراء الذي دعي عن حقّ «النشيد الماروني».
إعلان عقيدة الحبل بلا دنس
في 8 كانون الأول 1854 «أعلن البابا بيوس التاسع وصرّح وحدّد كحقيقة موحاة أنّ الطوباويّة مريم العذراء حُفِظت مصونة من كلّ وصمة الخطيئة الأصليّة منذ أوّل لحظة من الحبل بها، وذلك بإنعام فريد ونعمة من لدن الله، وبالنظر إلى استحقاقات يسوع المسيح مخلّص الجنس البشري». تلا هذا الإعلان عام 1858 في لورد ظهور للعذراء مريم التي أكّدت العقيدة لبرناديت بأن دعت نفسها «التي حُبل بها بلا دنس».
لم يكن هذا الإعلان، إن من قبل الكنيسة أو من قبل العذراء، الأوّل في تاريخ الخلاص، فقد ورد وبأشكال متنوّعة على ألسنة بعض الآباء القدّيسين. «فقد ابتدأ الشرق يحتفل بالحبل البتولي منذ القرن السابع، وأدخل الغرب العيد منذ القرن الثاني عشر. وانتصر الاعتقاد المسيحي مع اللاهوتي الكبير "دنس سكوت" (Duns Scot) (1308+) الذي أبان أن العذراء عُصمت من الخطيئة الأصليّة بالكليّة، فلم يغشها الدنس دقيقة واحدة» (من كتاب العذراء القديسة، موسوعة مريميّة جامعة، السنة اليوبيلية المريميّة 1954، مطبعة دير المخلّص، صيدا، ص 26).
في أناشيد الآباء الشرقيين وصلواتهم: مار افرام السرياني:
في النشيد 27 من أناشيد نصيبين، تخاطب كنيسة الرها الربّ يسوع بدالّة وتقول: «إن كنتُ أنا بشعة فلا تطلّقني. أحببني أنا البشعة وعلّم هكذا؛ إنّ الرجل يحبّ زوجته (ولو كانت بشعة). أنت وحدك وأمّك بين الكلّ وفي كلّ شيء جميلان، لأنّه لا خطأ فيك يا ربّ ولا دنس في أمّك». وكأنّ أفرام يقول : كلّ الناس فيهم «بشاعة» الخطيئة إلاّ يسوع وأمّه «لا بشاعة فيهما».
صلاة الفرض الماروني (شحيما):
ترتقي بعض صلواته وأناشيده إلى مار يعقوب أسقف نصيبين (270-350) وتلميذه مار افرام (379+).
وفي سدر القومة الأولى من ليل الثلاثاء: «السلام عليك أيّتها المدينة المحصّنة التي لم تتسلّط الخطيئة عليها. السلام عليك يا مقصورة ملك الملوك».
وفي سدر القومة الأولى من ليل الخميس: «أيها الربّ الذي واضع نفسه وحلّ في الحشى البتولي الذي سبق فتقدّس بالروح القدس، حشى أمّه "الصبيّة التي لا عيب فيها" مريم القديسة المجيدة والدة الله حقّاً، تلك التي تفوق السماء علوّاً وارتفاعاً».
وفي القومة الأولى من ليل الجمعة، لحن البخور: «تعالوا يا جميع الشعوب والأمم نرتّل المجد للآب الذي أرسل ابنه إلى مريم، ونشكر الابن الذي اتّلد من نقاوتِها، ونسجد للروح الذي صانها بدون ضرر؛ وها هو يكرّم تذكارها في العلى وفي الأعماق، فلتكن صلاتُها عوناً لنا».
أمّا في السدر فتُرفَع الصلاة إلى المسيح الذي «حلّ حلولاً لا يوصف في حشى البتول التي سبقت فتقدّست بنفسها وجسمها بعطايا الروح القدس» لكي يعضد البيعة وأبناءها، بشفاعة أمّه. (تعود هذه الصلاة إلى ما قبل القرن العاشر وهي ترد في الشحيم 1908، صفحة 476-479).
أمّا في العهد القديم فهناك صور عديدة وأحداث اعتبرها الآباء القديسون تشير إلى مريم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: العلّيقة الملتهبة بالله ولا تحترق (خروج 3: 1-10)، عصا هارون تفرخ وتزهر
(عدد 17: 1-9)، تابوت العهد (تثنية 10: 1-5)، ذراع الربّ قوّة الخلاص الفاعلة (أيوب 26: 1-14)، ميراث الربّ المعطى للبنات لا للبنين فقط (يشوع 17: 3-4)، جزة جدعون عليها ندى وعلى الأرض جفاف (قضاة 6: 36-40)، نشيد حنّة الذي يشبه نشيد العذراء (ملوك 2: 1-10)، المنارة المضاءة في بيت الربّ (زكريا 4: 8-14)، العذراء مريم لا تعرف رجلاً (العذراء والكنيسة) (أمثال 30: 18-28)، باب المقدس المغلق الذي يدخل منه الربّ (حزقيال 44: 1-8)، الملكة إستير رمز العذراء (دانيال 5: 8-11)، مذبح للربّ في داخل أرض مصر (أشعيا 19: 18-25) …
مريم البريئة من الخطيئة الأصليّة في القرآن
« إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيمَ وآل عِمرانَ على العالمين (33) ذرّيّةً بعضُها من بعضٍ والله سميعٌ عليم (34) إذ قالت امْرَاَتُ عمرانَ ربِّ اِنّي نذرتُ لك ما في بطني مُحَرَّراً فتقبّلْ منّي اِنّكَ اَنتَ السَّميعُ العليم (35) فلمّا وضَعَتْها قالت ربِّ اِنّي وَضَعْتُها اُنْثى واللهُ اَعلَمُ بِما وَضَعَتْ وليس الذّكَرُ كالاُنثى واِنّي سمّيتُها مريم واِنّي اُعيذُها بكَ وذُرِّيَّتَها من الشيطان الرجيم ( (36)... واِذ قالت الملئكةُ يا مريمُ اِنّ الله اصطفكِ وطهّرَكِ واصطفكِ على نسَاءِ العالمين (42)» (سورة آل عمران 33-42).
ومن "تفسير الجلالين" للآية 36 «(من الشيطان الرجيم) المطرود. في الحديث ما من مولود يولد إلاّ مسّه الشيطان حين يولد فيستهلّ صارخاً إلاّ مريم وابنها رواه الشيخان». هذا ما قاله البيضاوي أيضاً. وقد رأى الحديث في هذه الآية عصمة مريم من الخطيئة في ولادتها. « ومعناه انّ الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثّر منه إلا مريم وابنها فإنّ الله تعالى عصمهما ببركة الاستعاذة (البيضاوي).
جاء في صحيح البخاري عن هذه الآية: «حدّثني عبد الله ابن محمد، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أنّ النبي قال: ما من مولود يولد إلاّ والشيطان يمسّه حين يولد فيستهل صارخاً من مسّ الشيطان إياه، إلاّ مريم وابنها». ويشرح صحيح البخاري ذلك بنقله عن قتادة: «كلّ آدميٍ يطعن الشيطانُ بجنبِهِ حين يولد إلاّ عيسى وأمّه عليهما السلام: جعل بينهما حجاب ولم ينفذ إليهما شيءٌ منه».
أمّا الآية 42 فتشير بوضوح أنّه لا يوجد امرأة بين الملائكة والبشر أشرف منها.
مريم مثالنا في الإيمان
- الفرح: قد يصدر عن نجاح، مال، علاقة حلوة، سهرة، طعام، شراء جديد، ولادة، الحصول على وظيفة، …
- الحزن: قد يأتي من موت، مرض، ألم، إعاقة، خلاف، فراق، فشل، …
هل من الضروري أن تقودنا الأمور التي تسبّب فرحاً إلى السعادة؟
وهل من الضروري أن تقودنا الأمور التي تسبّب حزناً إلى اليأس؟
قد نزور مريضاً، وبدل أن نعزّيه ونشدّده، نجده يعزّينا ويملأ قلبنا بالأمل. فحياة المؤمن ومواقفه ليست ردّات فعل على ما يعترضه من أحداث مفرحة كانت أو محزنة؛ فإن فرح لا يسكر ويشمخ ويضيع، وإن حزن لا ييأس ويكفر وينغلق. هذه هي طريق المجد، ومن طبعوا التاريخ هم رجال ونساء استطاعوا أن يتخطّوا أفراحهم وأحزانَهم لأهداف نبيلة سامية ملأت نفوسهم، فكانوا في التاريخ فاعلين لا منفعلين.
مرّت مريم في حياتِها بمحطّات فرح، فحين بشّرها الملاك بأنّها ستحبل بابن الله دون زرع رجل، لم تخسر تواضعها، بل قالت: أنا خادمة الربّ. وعندما زارت نسيبتها أليصابات ومدحتها هذه الأخيرة قائلة: من أين لي أن تأتي أمّ ربّي إليّ؟ رفعت المديح للربّ ذاكرة أنّها خادمته الوضيعة، وبدل أن تسجد أليصابات أمام مريم التي تحمل الله في أحشائها سجدت مريم عند قدمي هذه الشيخة تخدمها. وعندما سجد الملوك أمام مهد ابنها وأخبرها الرعاة بتسبحة الملائكة جلّلها صمت مهيب. ولمّا حمله سمعان الشيخ على ذراعيه قائلاً: عيناي رأتا الخلاص التفت إلى مريم الغارقة في دهشة المتأمّلين وقال لها: أمّا أنت، فسيف الأحزان سينفذ في قلبك. ولمّا أضاعت ابنها وبعد ثلاثة أيام وجدته في الهيكل عاتبته على غيابه بمحبة، وكانت تحفظ كلّ ذلك تتأمله في قلبها.
كذلك بالنسبة للحزن الذي خرق قلبها، فقد كان ابنها في البستان، حزيناً، يصلّي، فقد ابتعد عنه تلاميذه وخانه أحدهم، ولمّا رأت جسد ابنها كلّه ينـزف دماً على إثر جَلد عنيف وقد تكلّلت هامته بإكليل من شوك، رغم كلّ ذلك رافقته بخطوات ثابتة وهو يحمل خشببة العار على كتفيه، ولما رُفِعَ كانت واقفـة عند الصليب.
ما الذي جعل تلك الأمّ المفجوعة قادرة على الوقوف أمام ابنها المتألّم؟!
الرجـاء النابع من إيمــان عميق غرسته في قلبها كلمة الله التي كانت مصباح خطاها ونور سبيلها.
صحيح أنّ الله اختارها ونقّاها وهي بعد في أحشاء أمّها، غير أنّها استحقّت كلّ ذلك بجهادها الشخصيّ الذي أغنته من كلمة الله التي خزنتها في أعماق قلبها المتأمّل، وكأنّ ابنها يسوع تكلّم عنها حين امتدحته إحدى النساء قائلةً : «طوبى للمرأة التي ولدتك وأرضعتك»، فأجابها قائلاً: «بل طوبى لمن يسمع كلام الله ويعمل به» (لوقا 11: 27-28).