كَسر الكلمة - الرسائل -50- عيد إنتقال مريم العذراء

كَسر الكلمة - الرسائل -50- عيد إنتقال مريم العذراء

عيد انتقال مريم العذراء
الآيات (روم 12: 9-15)
9 وَلْتَكُنْ مَحَبَّتُكُم بِلا رِيَاء: تَجَنَّبُوا الشَّرّ، ولازِمُوا الخَيْر.
10 أَحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا مَحَبَّةً أَخَوِيَّة، وبَادِرُوا بَعْضُكُم بَعْضًا بِالإِكْرَام.
11 كُونُوا في الإجْتِهَادِ غَيْرَ مُتَكَاسِلِين، وبالرُّوحِ حَارِّين، ولِلرَّبِّ عَابِدِين،
12 وبالرَّجَاءِ فَرِحِين، وفي الضِّيقِ ثَابِتِين، وعَلى الصَّلاةِ مُوَاظِبِين،
13 وفي حَاجَاتِ القَدِّيسِينَ مُشَارِكِين، وإِلى ضِيَافَةِ الغُرَبَاءِ سَاعِين.
14 بَارِكُوا الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُم، بَارِكُوا ولا تَلْعَنُوا.
15 إِفْرَحُوا مَعَ الفَرِحِين، وَإبْكُوا مَعَ البَاكِين.

مقدّمة
في هذا العيد الَّذي نذكر فيه انتقال أمّنا مريم بالنَّفس والجسد إلى السماء، يكلّمنا بولس الرسول (روم 12: 9-15) على جملة نصائح تحدّد لنا درب السماء، الَّتي هي عملٌ دؤوبٌ على الأرض. قد نتساءل حول سبب اختيار هذا المقطع تحديدًا في هذا العيد، ولكنَّ الجواب ينطلق من المغزى العمليّ لهذا العيد. ليس الهدف من تحديد عقيدة انتقال العذراء، تكريم أمِّنا مريم وحسب، بل هو، وبالدرجة الأولى، دعوةٌ لكلّ إنسان ليهيئ، أثناء حياته على الأرض، السبل الأفضل لتأمين انتقاله إلى الحياة الأبديَّة. 

شرح الآيات
9 وَلْتَكُنْ مَحَبَّتُكُم بِلا رِيَاء: تَجَنَّبُوا الشَّرّ، ولازِمُوا الخَيْر.
الكلمة اليونانيَّة agápe، الـمُترجَمة هنا إلى "محبَّة"، هي أرقى أنواع المحبَّة، الَّتي تصف الله نفسه (راجع 1 يو 4: 8). استُخدمت، كلمة agápe، في الرسالة إلى أهل روما، بمعنى "محبَّة الله لنا"، إلى هذه النقطة من الرسالة (راجع روم 5: 5، 8؛ 8: 35، 39)، حيث أرشد بولس أهل روما إلى أن يكون لهم هذا النوع من المحبَّة (agápe) لبعضهم البعض.
قال بولس أوَّلًا: "لتكن محبَّتكم بلا رياء". كانت الكلمة اليونانيَّة anupókrisis، الـمُترجمة هنا بعبارة "بلا رياء"، تُستخدَم في زمان بولس لوصف الممثّل على المسرح، الَّذي يرتدي قناعًا، ويمثّل كما لو كان شخصًا آخر. فاستخدام بولس الكلمة اليونانيَّة يعني "المحبَّة المزيَّفة"، مثل يهوذا الَّذي خان يسوع بقبلةٍ على خدّه (راجع لو 22: 47، 48). لذا ناشد بولس أهل روما ألَّا يكونوا كذلك.
"تجنَّبوا الشرَّ ولازموا الخير"، عبارةٌ اقتبسها بولس من النبيّ عاموس: "أبغضوا الشرَّ وأحبُّوا الخير" (عا 5: 15). قد يستغرب القارئ لماذا أتبَعَ بولس وصيَّة المحبَّة بوصيَّة تجنُّب الشرّ. وما ذلك، إلَّا لأنَّه لا تكون المحبَّة حقيقيَّةً إن لم يُبغض الانسان ما يعاكسها. لأنَّ المحبَّة الصادقة تكره الشرّ وتلتصق بالخير.
بالعودة إلى النصّ اليونانيّ، من المستحسن ترجمة عبارة "تجنَّبوا الشرّ ولازموا الخير" بــ"أبغضوا الشرَّ والتصقوا بالخير". فالفعل اليونانيّ apostugéô، الـمُترجَم هنا بــ"تجنَّبوا"، يعني "أبغضوا، إكرهوا، إشمئزُّوا مِن"؛ لأنَّه من الممكن أن يصبح الشَّرُّ مألوفًا عندهم بحيث لا يعود يُدهشهم. لذا ينبغي أن يُبغضوا الشرّ لأنَّه ضدَّ الله ومشيئته. علاوةً على ذلك، يجب أن "يلتصقوا بالخير"؛ فكلمة "التصقوا" هي من اليونانيَّة kollômenoi، ومعناها "الالتصاق معًا كالصمغ". 

10 أَحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا مَحَبَّةً أَخَوِيَّة، وبَادِرُوا بَعْضُكُم بَعْضًا بِالإِكْرَام.
وردت في الآيتَين التاسعة والعاشرة الكلمات الثلاث للـ"محبَّة" المستخدمة باللغة اليونانيَّة في العهد الجديد: agápe، و filía، و storgê. استخدم بولس كلمة agápe في الآية التاسعة، وأمَّا filía، و storgê فاستخدمهما في كلمتَين مركَّبتَين في الآية العاشرة. لكلمة filía علاقة بالعواطف الجيَّاشة، بينما تشير storgê إلى محبَّة أفراد الأسرة الواحدة.
فعل "أحبُّوا"، الـمُترجم من الصفة اليونانيَّة filóstorgoi يعني "الحبّ بمودَّة". بمعنى آخر، من المستحسن ترجمة الصفة بــ "وادّين". و"المحبَّة الأخويَّة" هي ترجمة الاسم اليونانيّ المركَّب filadelfía. والكلمتان اليونانيَّتان تركّزان على الناحية العائليَّة للكنيسة. أراد بولس للمسيحيّين، سواء أكانوا من أصل يهوديّ أم أمميّ، أن يعتبروا بعضهم بعضًا كعائلة واحدة. وبصفتهم إخوة في المسيح، عليهم أن يكونوا "وادّين بعضهم بعضًا بمحبَّةٍ أخويَّة"، أي أن يطلبوا ما هو أفضل لبعضهم البعض. 
يُعبَّر عن المحبَّة المتبادلة "بالإكرام" المتبادل. كلمة "كرامة" هنا هي من اليونانيَّة timê الَّتي قد تحمل معنى "التقييم والتقدير"، ولكنَّها هنا تُشير إلى معنىً أعمق: "الثَّمن"، أي إكرام الأخ "الَّذي دُفع فيه ثمن المسيح"، وهي الكلمة نفسها الَّتي استعملها بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس قائلًا: "قد اشتُريتُم بثمنٍ كريم" (1 قور 6: 20). هذا يعني أنَّ أقلّ واحد من الإخوة قيمته أو ثمنه دم المسيح.
لا يتكلَّم بولس على الكرامة وحسب، بل "مقدِّمين بعضكم بعضًا في الكرامة". ففعل proegéomai يُترجَم بـــ "مقدِّمين"، عوضًا عن "بادروا"، لأنَّه فعلٌ يونانيّ يعني أن "أقدِّم القريب عليَّ حاسبًا إيَّاه أفضل منِّي". وهذا الفعل بصيغته في روم 12: 10، لا يستعمله بولس في كلّ رسائله إلَّا مرَّةً واحدة هنا. في مقدِّمة نشيد إخلاء المسيح، يستخدم بولس قسمًا من هذا الفعل، ويكتب في رسالته إلى أهل فيليبّي ما يلي: "لا تفعلوا شيئًا عن خصامٍ ولا بمجدٍ باطل، بل باتضِّاع، وليحسب كلُّ واحدٍ منكم غيره أفضل منه (hegoúmenoi)". فإن كان ثمن أخي "دم المسيح"، كما رأينا أعلاه، فكم يجب بالحريّ أن أعيش معنى الاتِّضاع الحقيقيّ الَّذي يعطيه بولس تعريفًا: "أن أحسب غيري أفضل منِّي". من هنا نرى في فكر القدِّيس بولس تدرُّجًا من التَّواضع "أن يحسب الانسان نفسه لا شيء" إلى الاتِّضاع "أن يحسب غيره أفضل منه". في التواضع، يبقى الانسان معرَّضًا لخطر صغر النفس والحزن، أمَّا في الاتِّضاع فيلازمه الفرح.

11 كُونُوا في الإجْتِهَادِ غَيْرَ مُتَكَاسِلِين، وبالرُّوحِ حَارِّين، ولِلرَّبِّ عَابِدِين،
انتقل بولس، في هذه الآية، إلى الكيفيَّة الَّتي تؤثّر بها المحبَّة على خدمة الرَّبّ، فقال: "في الاجتهاد غير متكاسلين، وبالرُّوح حارّين، وللرَّبّ عابدين". يدلُّ هذا على ميزةٍ ثالثة للمحبَّة (agápe)، وهي الحماس.
ناشد بولس أهل روما أن لا يكونوا "متكاسلين". يجب أن لا يكون المسيحيّ كسولًا في ما يختصُّ بخدمة الرَّبّ؛ بل ينبغي أن يكون غيورًا. استمرَّ بولس قائلًا: "بالرُّوح حارّين". الكلمة اليونانيَّة الـمُترجَمة إلى "حارّين" هي zéô، ومعناها أن "يكون حارًّا أو يغلي"؛ أي إن لم يبقَ المؤمن قريبًا من الله و"عابدًا له"، يقلّ حماسه. 

12 وبالرَّجَاءِ فَرِحِين، وفي الضِّيقِ ثَابِتِين، وعَلى الصَّلاةِ مُوَاظِبِين،
من السَّهل أن يكون الانسان متحمِّسًا عندما يسير كلُّ شيءٍ على ما يُرام. لكن تكون الحالة صعبة عندما لا يسير شيءٌ على ما يُرام. لذلك، ذكر بولس في روم 12: 12 ثلاث صفات للمحبَّة (agápe) تجعلها ثابتة في الأيَّام المشرقة وفي الأيَّام القاتمة.
تكون المحبَّة مُفعَمة بالرجاء في المقام الأوَّل بغضّ النظر عمَّا يحدث. ولأنَّ المحبَّة تفرح بالرجاء، تصبر في الضيق وتثبت. الكلمة اليونانيَّة thlípsis، الـمُترجَمة هنا إلى "ضيق"، تعني بصفةٍ أساسيَّة "ضغط"؛ الضغط الَّذي يكون عبئًا على الانسان. كان المسيحيّون في زمان بولس يشكّلون نسبةً ضئيلةً جدًّا من السكان، وكانوا معرَّضين لأوامر السلطات. كان الضيق بالنسبة إليهم حقيقة واقعيَّة ضاغطة. ووسط هذا "الضيق"، استطاعوا أن يصبروا ويثبتوا تحت الضغط الَّذي لا يُطاق.
الصلاة عاملٌ مهمّ يدلّ على رجاء الانسان وصبره. لذا يوصي بولس قائلًا: "على الصلاة مواظبين". فالصلاة بالنسبة إلى المحبَّة ليست مسألة خيار، بل ضرورة.

13 وفي حَاجَاتِ القَدِّيسِينَ مُشَارِكِين، وإِلى ضِيَافَةِ الغُرَبَاءِ سَاعِين.
يذكر بولس في هذا الآية طريقَتَين يمكن بهما التعبير عن المحبَّة الأخويَّة: الأولى، "المشاركة في حاجات القدّيسين"، أي بالمسيحيّين المعوزين. تشمل المحبَّة الاهتمام بكلّ شخص. ولكن هناك اهتمامٌ خاصّ بالمحتاجين. وتشمل "الحاجات" ضروريَّات الحياة كالطعام والملبس والمسكن؛ والثَّانية، "ساعين إلى ضيافة الغرباء". إنَّ عبارة "ضيافة الغرباء" هنا مُترجَمة من اليونانيَّة filoxenía، ومعناها "محبَّة الغرباء". لا تعني هذه العبارة دعوة الأصدقاء إلى البيت لقضاء أوقاتٍ ممتعة معًا؛ بل المقصود بها هو دعوة الغرباء. 

14 بَارِكُوا الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُم، بَارِكُوا ولا تَلْعَنُوا.
فعل "باركوا" هنا هو من الفعل اليونانيّ eulogéô، ومعناه "كلام جيّد" أو "مديح". في هذه الحالة، يعني "المدح" الكلام الجيّد الموجّه إلى الله نيابةً عن الَّذين يسيئون إلينا. فعل "تلعنوا"، لا يعني "الشتيمة"، بل عكس "باركوا". وهذا هو بالتحديد ما أوصى به الرَّبّ يسوع: "باركوا لاعنيكم، وصلُّوا لأجل الَّذين يسيئون إليكم" (لو 6: 28).
هذا أمرٌ صعب، ولكنَّه غير مستحيل. تركّز هذه الآية، بصفةٍ أساسيَّة، على اضطهاد المسيحيّين، ولكن يمكن تطبيقها أيضًا على حالاتٍ أخرى من سوء المعاملة. 

15 إِفْرَحُوا مَعَ الفَرِحِين، وَإبْكُوا مَعَ البَاكِين.
صفةٌ أخرى لِمن يتبع المسيح، هي أنَّه يجب أن يكون فرحًا وعطوفًا. ما ورد في هذه الآية يقتضي ضمنًا علاقة حميمة بين أعضاء الكنيسة. وهذه العلاقة الحميمة لا يمكن بلوغها بمجَّرد تناول جسد الرَّبّ معًا كلّ أسبوع، بل بالارتفاع إلى ما فوق الميول الطبيعيَّة للجسد بعون الله.

خلاصة روحيَّة
توضح رسالة عيد انتقال العذراء مريم (روم 12: 9-15)، أنَّ بولس يريد لأهل روما أن يحيوا حياةً مختلفة عن منطق العالم. لذا يدعو جميع المسيحيّين ليكونوا محبّين وغير أنانيّين، متحمّسين وثابتين على المبدأ، ومتواضعين، وعطوفين.
هذه الخطوط، الَّتي رسمها القدّيس بولس، لم تكن وليدة اجتهاده الشخصيّ؛ بل هي دستور حياة كلّ مسيحيٍّ مؤمن، منذ التلامذة الأوائل، الَّذين تبعوا المسيح، حيث كانت العذراء مريم "التلميذة الأولى"، الَّتي "كانت تحفظ هذه الأمور كلّها، وتتأمَّلها في قلبها" (لو 2: 19)، فمشت وفق هذه الخارطة بصورةٍ تلقائيَّة.
لعلّنا أضعنا الطريق، حين انزلقنا في متاهة الفوضى، والأصوات المحرّضة والهادمة، وسط تراكم الفساد. لذا نحن بحاجة اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى قراءة خارطة القدّيس بولس هذه، للسير على نور كلمة الرَّبّ، بإيمانٍ، ورجاءٍ، ومحبَّة، على مثال العذراء مريم، الأمّ والمعلّمة.


تحميل المنشور