كَسر الكلمة - الرسائل - 3 - أحد بشارة العذراء

كَسر الكلمة - الرسائل - 3 - أحد بشارة العذراء

أحد بشارة العذراء
(غل 3: 15-22)
15 أَيُّهَا الإِخْوَة، كَبَشَرٍ أَقُول: إِنَّ الوَصِيَّة، وإِنْ كَانَتْ مِنْ إِنْسَان، إِذَا أُقِرَّتْ، لا أَحَدَ يُبْطِلُهَا أَو يَزِيدُ عَلَيْهَا.
16 فالوُعُودُ قِيْلَتْ لإِبْراهِيمَ وَلِنَسْلِهِ. ومَا قِيْلَتْ: "ولأَنْسَالِهِ"، كأَنَّهُ لِكَثِيرِين، بَلْ "وَلِنَسْلِكَ"، كَأَنَّهُ لِوَاحِد، وهُوَ الـمَسِيح!
17 فأَقُولُ هـذَا: إِنَّ وَصِيَّةً سَبَقَ اللهُ فأَقَرَّهَا، لا تُلْغِيهَا شَرِيعَةٌ جَاءَتْ بَعْدَ أَرْبَعِ مِئَةٍ وثَلاثِينَ سَنَة، فَتُبْطِلُ الوَعْد.
18 وإِذَا كَانَ الـمِيرَاثُ مِنَ الشَّرِيعَة، فَهُوَ لَمْ يَعُدْ مِنَ الوَعْد؛ والـحَالُ أَنَّ اللهَ بِوَعْدٍ أَنْعَمَ بِالـمِيرَاثِ على إِبرَاهِيم.
19 إِذًا فَلِمَاذَا الشَّرِيعَة؟ إِنَّهَا أُضِيفَتْ بَسَبَبِ الْمَعَاصِي، حَتَّى مَجيءِ النَّسْلِ الَّذي جُعِلَ الوَعْدُ لَهُ. وقَدْ أَعْلَنَهَا مَلائِكَةٌ على يَدِ وَسِيطٍ، هُوَ مُوسى.
20 غيرَ أَنَّ الوَاحِدَ لا وَسيطَ لَهُ، واللهُ واحِد!
21 إِذًا فَهَلْ تَكُونُ الشَّرِيعَةُ ضِدَّ وُعُودِ الله؟ حاشَا! فَلَو أُعْطِيَتْ شَرِيعَةٌ قَادِرَةٌ أَنْ تُحْيي، لَكَانَ التَّبْرِيرُ حَقًّا بِالشَّرِيعَة.
22 ولـكِنَّ الكِتَابَ حَبَسَ الكُلَّ تَحْتَ الـخَطِيئَة، لِكَيْمَا بالإِيْمَانِ بيَسُوعَ الـمَسِيحِ يُعْطَى الوَعْدُ للَّذِينَ يُؤْمِنُون.

مقدّمة
أحدُ بشارةِ العذراءِ هو الأحدُ الثَّاني من زمنِ الميلادِ، وتدعونا فيه الكنيسةِ، من خلالِ نصِّ الرّسالةِ إلى أهلِ غلاطية (غل 3: 15-22)، إلى تأمُّلِ سرِّ الخلاصِ الَّذي يتخطَّى كلَّ الشَّرائع، وكلَّ الاعتباراتِ البشريَّةِ، ليبقى فقط تصميمُ اللهِ الخلاصيِّ النَّابعِ من محبَّتِه المطلقةِ للإنسانِ. في هذا المقطعِ من الرِّسالةِ إلى أهلِ غلاطيةِ، يدعونا القدّيسُ بولسُ إلى تجاوزِ منطقِ "الشَّريعة" نحو منطقِ "الإيمانِ" الَّذي لا يُحدُّ بقوانينَ أو أُطُرٍ أو نُظُمٍ، مهما علا شأنُها أو نجحَ تطبيقُها. إنَّه يدعونا إلى ما يتخطَّى حدودَ الزَّمانِ والمكانِ، للتأمُّلِ بتواصلٍ مع الأحدِ السَّابقِ (أحد بشارة زكريَّا)، بــــ "قدرة العليّ" (لو 1: 35) الَّتي بواسطتِها نالَتْ مريمُ السَّلامَ وأعطَتْه للعالمِ، فأصبحَ: "السلَّاُم في الأرضِ مزروعٌ، يشدو العلوُ والعمقُ: ربّي يسوعُ!" (نشيد الدُّخول في قدّاس أحدِ بشارةِ العذراءِ).

شرح الآيات
15 أَيُّهَا الإِخْوَة، كَبَشَرٍ أَقُول: إِنَّ الوَصِيَّة، وإِنْ كَانَتْ مِنْ إِنْسَان، إِذَا أُقِرَّتْ، لا أَحَدَ يُبْطِلُهَا أَو يَزِيدُ عَلَيْهَا.

على الرّغم من أنّ بولسَ خاطبَ أهلَ غلاطية في بداية الفصل الثَّالث قائلًا: "أيُّها الغلاطيُّون الأغبياء" (غل 3: 1)، إلَّا أنَّه استخدم هنا التعبير الأكثر إيجابيَّة "أيُّها الإخوة". كان بولس يأملُ بأنْ يتفاعلَ قرَّاؤه بإيجابٍ مع رسالتِه، ويرجعوا إلى الإنجيلِ الحقيقيّ. قبل (غل 3: 15)، استخدم بولس اختبار أهل غلاطية الروحيّ (غل 3: 1-5) فضلًا عن نصّ من نصوص العهد القديم (غل 3: 6-14) للوصول إلى خلاصتِه المرجوَّة. في الآية 15 يقول "من إنسانٍ"، أي طبقًا لمبادئ العلاقات الإنسانيَّة، بمعنى أنَّه عندما يتمُّ إقرارُ عهدٍ أو التصديق عليه بمنطقِ البشرِ، يثبت حتَّى يتمَّ الوفاءُ به. وهذه الحقيقةُ تُطبَّقُ على وعدِ اللهِ لإبراهيمَ. فلا شيءَ يمكنُه أن "يُبطِلَ الوصيَّة" أو أنْ "يزيدَ عليها".

16 فالوُعُودُ قِيْلَتْ لإِبْراهِيمَ وَلِنَسْلِهِ. ومَا قِيْلَتْ: "ولأَنْسَالِهِ"، كأَنَّهُ لِكَثِيرِين، بَلْ "وَلِنَسْلِكَ"، كَأَنَّهُ لِوَاحِد، وهُوَ الـمَسِيح!
يؤكّدُ بولسُ في هذه الآية أنَّ بركاتِ الله لا يمكنُ كسبُها، بل هي نتيجةٌ لوعودِه. رأى بولسُ أهميَّةَ المصطلحِ "نسلُكَ" بالمفرد الَّذي ساواه مع "يسوعَ المسيحِ". من خلال هذا "النَّسلِ الواحدِ" (في المسيح) "تتبارك جميعُ الأممِ" (غل 3: 8)، وجميعُ الَّذين هم "أبناءُ اللهَ" من خلالِ هذا "النَّسلِ الواحدِ" هم "وارثون بحَسَبِ الوعدِ" (غل 3: 26، 29).

17 فأَقُولُ هـذَا: إِنَّ وَصِيَّةً سَبَقَ اللهُ فأَقَرَّهَا، لا تُلْغِيهَا شَرِيعَةٌ جَاءَتْ بَعْدَ أَرْبَعِ مِئَةٍ وثَلاثِينَ سَنَة، فَتُبْطِلُ الوَعْد.
يقدّمُ القدّيسُ بولسُ، هنا، مثلًا توضيحيًّا لما قاله في الآية 15 عن العلاقاتِ الإنسانيَّةِ. إذا كان لا يمكنُ تغييرُ الوصايا الأخيرةِ بعد التَّصديقِ عليها، فبالأحرى أن تكونَ عهودُ اللهِ مع النَّاسِ غيرَ قابلةٍ للتَّغييرِ! وما يؤكّدُ هذا الكلامَ هو أنَّ إعطاءَ اللهِ النَّاموسِ لموسى على جبلِ سيناء لم يُلغِ، بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، العهدَ الَّذي قطعَهُ اللهُ مع إبراهيمَ سابقًا قبل عدَّةِ قرونٍ. فالوعدُ له الأسبقيَّةُ على الشَّريعةِ. وهذا ما يعطي عزاءً ورجاءً لقارئِ الرّسالةِ.

18 وإِذَا كَانَ الـمِيرَاثُ مِنَ الشَّرِيعَة، فَهُوَ لَمْ يَعُدْ مِنَ الوَعْد؛ والـحَالُ أَنَّ اللهَ بِوَعْدٍ أَنْعَمَ بِالـمِيرَاثِ على إِبرَاهِيم.
استنادًا إلى ما سبق من آيات، استخلصَ بولس أنَّ "وعد" الله لإبراهيم كان كافيًا بحدّ ذاته؛ لم تستطعِ "الشَّريعةُ" أن تُضيف شيئًا إليه. كان "ميراث" شعب الله في ظلِّ العهد الجديد، ويستند إلى وعد الله لإبراهيم. وإذا كانت الشَّريعة تملك شيئًا إضافيًّا ضروريًّا للخلاصِ، فمؤدّى ذلك أنَّ وعدَ الله لم يفِ بالغرضِ. فنستخلصُ من الآيةِ 18 أنَّه مُنذ بدايةِ العلاقةِ بين اللهِ والانسانِ، كان الإيمانُ دائمًا جوهرَ كلِّ ما طلبه الله. 

19 إِذًا فَلِمَاذَا الشَّرِيعَة؟ إِنَّهَا أُضِيفَتْ بَسَبَبِ الْمَعَاصِي، حَتَّى مَجيءِ النَّسْلِ الَّذي جُعِلَ الوَعْدُ لَهُ. وقَدْ أَعْلَنَهَا مَلائِكَةٌ على يَدِ وَسِيطٍ، هُوَ مُوسى.
بعد الّذي قاله بولسُ سابقًا، يبدو وكأنَّ الشَّريعةَ ليس لها أيُّ غرضٍ. من هنا يأتي السُّؤالُ: "فلماذا الشَّريعةُ"؟ يجيب بولس "أنَّها أُضيفَتْ بسببِ المعاصي، حتَّى مجيءِ النَّسلِ الَّذي جُعِلَ الوعدُ له". إلى ماذا أضيفَتِ الشَّريعةُ؟ يتكلَّم بولس هنا على العهدَين (عهد الشَّريعة المعطى لموسى، وعهد الوعد السَّابق المعطى لإبراهيم). لم تكنِ الشَّريعةُ سوى فترةٍ فاصلةٍ بعد إعطاءِ الوعدِ لإبراهيمَ (روم 3: 17) حتَّى مجيءِ "النَّسلِ" الَّذي هو المسيحُ (روم 3: 16). كانَتِ الشَّريعةُ تشيرُ إلى المسيحِ، وفيه تمَّ الوفاءُ بالوعدِ. عندما انتهتْ تلك الفترةُ الفاصلةُ عندَ موتِ المسيحِ، انتهتْ مدَّةُ صلاحيَّةَ الشَّريعةِ، وأُبرِم العهدُ الجديدِ بدمِ المسيحِ (راجع عب 9: 17-28).
لماذا الشَّريعةُ إذًا، طالما الخلاصُ بالمسيحِ وليسَ بالشَّريعةِ؟ فهذه الأخيرةُ جاءَتْ كــ "مؤدِّبٍ" (غل 3: 24). وحين كان الانسانُ تحت "المؤدّب"، فقد كان القصدُ من الشَّريعة هو التأديبُ عندَ التمرُّدِ. فكانَ دورُها،إذًا، حِفْظِ شعبِ اللهِ في توازنٍ حتَّى مجيءِ المسيحِ. "وقَدْ أَعْلَنَهَا مَلائِكَةٌ على يَدِ وَسِيطٍ، هُوَ مُوسى": جاءَتِ الشَّريعةُ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ، بينما وعدُ اللهِ لإبراهيمِ قُطِعَ بطريقةٍ مباشرةٍ. لم ينكرْ بولسُ الأصلَ الإلهيَّ للشَّريعةِ أو أنَّ "الوصيَّةَ مقدَّسةٌ وعادلةٌ وصالحةٌ" (روم 7: 12)، لكنَّ الوعدَ الَّذي خرجَ من فمِ اللهِ مباشرةً يفوقُها.

20 غيرَ أَنَّ الوَاحِدَ لا وَسيطَ لَهُ، واللهُ واحِد!
"غيرُ أنَّ الواحدَ لا وسيطَ له"، أي لا يمثّل طرفًا واحدًا فقط، بل طرفين: موسى يتوسَّطُ بين الملاك الَّذي كانَ على جبلِ سيناءِ وبين الشَّعبِ (راجع أعمال 7: 38)، بينما "اللهُ واحدٌ"، للتأكيدِ على وحدانيَّتِه وتفوُّقِه على وساطةِ موسى. 

21 إِذًا فَهَلْ تَكُونُ الشَّرِيعَةُ ضِدَّ وُعُودِ الله؟ حاشَا! فَلَو أُعْطِيَتْ شَرِيعَةٌ قَادِرَةٌ أَنْ تُحْيي، لَكَانَ التَّبْرِيرُ حَقًّا بِالشَّرِيعَة.
ربَّما كانَ من الممكنِ لمنطقِ بولسَ هذا أن يدفعَ بعضَ المسيحيّين إلى الاعتقادِ بأنَّ شريعةَ موسى والوعدَ لإبراهيمَ كانا يتعارضان مع بعضهِما البعضِ. لذا كتَبَ بولسُ ليعالجَ سوءَ الفهمِ المحتمَلِ قائلًا: "فهل تكونُ الشَّريعةُ ضدَّ وعودِ اللهِ؟ حاشا"! أكَّد بولس أنَّ القصدَ من الشَّريعةِ لم يكنْ "أن تُحيي"، أي أن تبرّرَ الخطأةَ، لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يتبرّرَ بالشَّريعةِ. بل التبريرُ هو تتميمٌ لوعدِ الله بأنَّه يُبارِكَ جميعَ الأممِ بنسلِ إبراهيمَ، أي المسيحُ. لم يخدمِ الاثنان (الشَّريعةُ والوعدُ) القصدُ نفسُه، ولكنَّهما مكمّلان لبعضهما.

22 ولـكِنَّ الكِتَابَ حَبَسَ الكُلَّ تَحْتَ الـخَطِيئَة، لِكَيْمَا بالإِيْمَانِ بيَسُوعَ الـمَسِيحِ يُعْطَى الوَعْدُ للَّذِينَ يُؤْمِنُون.
إنَّها النتيجةُ الَّتي أراد بولس الوصولَ إليها، فمقابلَ إثباتِ حالةِ الانسانِ الخاطئِ، أعدَّ الطَّريقَ لمبدأ الإيمانِ: يأتي وعدُ اللهِ "بالإيمانِ بيسوعَ المسيحِ"، وليسَ بأعمالِ الشَّريعةِ، ولكن تقعُ على الانسانِ مسؤوليَّةُ قبولِ المسيحِ والإيمانِ بهِ.

خلاصة روحيَّة
في الأحدِ الماضي، تطرَّقتِ الرسالةُ إلى موضوعِ "الشَّريعةِ والإيمانِ"، وفي الإطارِ نفسِهِ، نتأمَّلُ هذا الأحدَ في موضوعِ "الشَّريعةِ والوعدِ". يَعتَبَرُ مار بولس في رسالة اليوم أنَّ علاقةَ إبراهيم باللهِ تأسَّسَتْ على وعدِ اللهِ. لكنَّ هذا الوعدَ لم ينحصرْ بالذُّريَّةِ البشريَّةِ الَّتي أمَّنَتْها ولادةُ كلٍّ من إسماعيلَ وإسحقَ لإبراهيمَ، بل تجاوزَها إلى الهدفِ الأسمى وهو يسوعُ المسيحِ. فوعدُ اللهِ لإبراهيمَ تحقَّقَ بشريًّا بولديه، ولكنَّه تحقَّق لاهوتيًّا وتاريخيًّا لنَسلِهِ في شخصِ يسوعَ المسيحِ.
استندَتْ الشَّريعةُ إلى هذا الوعدِ بالخلاصِ، وشكَّلتْ إطارًا عمليًّا يُنظّمُ مسيرةَ الشَّعبِ، أثناءَ انتظارهِ لتحقُّقِ هذا الوعدِ. ولكنّ اليهودَ غرقوا في تفاصيلِها على حسابِ جوهرِها، ألأمرُ الّذي أدَّى إلى جعلِها أداةَ تحجُّرٍ، بدلَ أن تكونَ أداةَ تحضيرٍ للقلبِ، لاستقبالِ المخلّصِ الآتي.
هذا الوعد لإبراهيم جدَّده الله لداود: "إذا تمَّت أيَّامُك واضطجعتَ مع آبائكَ، أقيمُ من يخلفُك من نسلِكَ الَّذي يخرجُ من صُلْبِكَ، وأنا أُثــبِّتُ ملكَه للأبدِ" (2 صم 7: 12). وهذا ما ذَكَّر به الملاكُ جبرائيلُ مريمَ العذراءِ أثناءَ البشارةِ بيسوعَ في (لو 1: 31- 33)، وننشِدُه في قدَّاسِ هذا الأحد: "ابنكِ الطّفل المولود، وراثٌ عرش داود، مالكٌ على يعقوب، مُلْكًا حدُّه الخُلود، تشدوهُ كُلُّ الشَّعوب" (لحن البخور في قدَّاس أحد بشارة العذراء). وعندما أتى يسوعُ، قالَ في عظتِه على الجبلِ: "لا تظنُّوا أنّي جئتُ لأُبطلَ التَّوراةَ أو الأنبياءَ، ما جئتُ لأُبطِلَ، بل لأكمّلَ... قبلَ أنْ تزولَ السَّماءُ والأرضُ، لن يزولَ من التَّوراةِ ياءٌ أو نقطةٌ، حتَّى يتمَّ كلُّ شيءٍ... إن لم يزِدْ برُّكُم على برِّ الكتبةِ والفرّيسيّين، فلن تدخلوا ملكوتَ السّماوات" (متَّى 5: 17، 18، 20)، ليؤكّدَ أنَّ الخلَلَ لم يكنْ في الشَّريعةِ، بل في الَّذين طبَّقوها، وفي طريقةِ تطبيقِهم إيّاها، بحيثُ أدّى هذا الخلَلُ إلى تشويهِ انتظارِهِم وتحجيمِه إلى مستوًى سياسيٍّ أرضيٍّ.


تحميل المنشور