العلمانيّة التي أريد

العلمانيّة التي أريد

أضحكني قرارُ بعض المؤسّسات التي منعت الزينة الميلاديّة في مكاتبها باسم العلمانيّة. فهي إذا سمحت بشيءٍ منها، منعت المغارة مثلًا وحافظت على الشجرة. إنّه طبعًا قرارٌ غبيّ لأنّ الشجرة رمزٌ مسيحيٌّ أيضًا وقد دخلت تقليدنا قبل المغارة بكثير. في كلّ الأحوال، ما يهمّني هو تلك العلمانيّة الغبيّة التي يُطالب فيها الكثير من اللبنانيّين، وهي تقول بإلغاء الرموز الدينيّة من أجل احترام الشعور الديني لمن هم مختلفين، ومن ناحيةٍ أخرى للتشبّه بالفكر الأوروبيّ السائد.

في السنوات الأخيرة، منعت الكثير من المؤسّسات اللبنانيّة الصلبان عن صدور المسيحيّين، وأزالت صور القدّيسين عن مكاتبهم. كما مُنعت رموز الإسلام في كثيرٍ من مكاتب المؤسّسات في "المنطقة الشرقيّة"، وأثار حجاب النساء الجدالات الطويلة، وإن سكت عنها الإعلام، كما منعهنّ من العمل في مجالاتٍ كثيرة. ولا ننسى ما جرى من نقاشاتٍ حادّة في أوروبّا عقب منع الفتيات من إرتداء الحجاب في المدارس تارةً، ومنع الصلبان على حيطان الجامعات تارةً أخرى.

عذرًا، إذا كانت علمانيتكم قمعيّة فنحن لا نريدها. ليست العلمانيّة أن نلغي الدين، لأنّ كلّ مجتمع هو دينيّ، وإن أنكرَ المجتمع ذلك. إن كانت العلمانيّة هي لضمان حريّة المعتقد، فلا يُمكن أن تمنعني من الإعتقاد. فكلّ رمزٍ أستخدمه، مرتبط جوهريًّا بديني.

الفلسفة التافهة التي تنتهجون هي أمّ التطرّف. ففي أنظمتكم الكلّ مظلوم ويريدُ الإنصاف، كلّ طائفةٍ تشعرُ بعُنفِ قمعكم، وهي مستعدّة للدّفاع عن نفسها بالعنف نفسه. إذن، لسنا بحاجةٍ لممارساتكم التي تزيدُ الشحن الطائفي في نفوس اللبنانيّين.

العلمانيّة التي أًريد هي أن تستطيع رفيقتي الشيعيّة المحجّبة أن تحقّق حلمها وأن تعمل في مجال الإعلام وأن تقدّم البرامج دون أن يستفزّ حجابها أحد. العلمانيّة هي أن يستطيع جوزيف صديقي الماروني أن يتزوّج أخيرًا حبيبته غنوة الدرزيّة، أو أقلّه أن يصرّح بحبّه لها دون أن يُقتل في اليوم التالي. العلمانيّة هي أن أذهب أنا الكاهن إلى دائرة رسميّة وأقف بالصف مثل الجميع، دون أن يأتيني موظّفًا قائلًا لي : "ولو أبونا، تفضّل، إنت خطّ عسكري".

العلمانيّة التي أريد هي أن يبقى لكلٍّ منّا الحقّ بالإيمان، وأن يُعبّر عن إيمانه دون قمعٍ. العلمانيّة هي أن تسقط قيود الطائفيّة، دون استبدالها بسلاسل علمانيتكم الزائفة.

العلمانيّة التي أُريد هي أن يكون في لبنان قانون مدني للأحوال الشخصيّة! ألّا يُصنِّفَني القانون بحسب طائفتي، ويمنعني في المكتب من التعبير عن إيماني. 

العلمانيّة التي أُريد هي أن نربّي أجيال الغدّ على الاحترام. أن نبني جيلًا مسيحيًّا لا يستفزّه الحجاب أو صوتُ الأذآن. أن نصنع مستقبلًا مسلمًا يقبل الصليب على حائط المدرسة الكاثوليكيّة ويرحّب بصوت الأجراس في شوارع بيروت وصيدا وطرابلس.

أنا أريدُ العلمانيّة، لكن تلك التي تحرّر، لا التي تأسر. أنا أُريدها في العمق لا في القشور.