قدّيسون على الموضة

قدّيسون على الموضة

لا يمكن أن يختلف إثنان في الرأي، حول موضوع القداسة في الإيمان المسيحي، على أنّها هدفٌ سامٍ ومسيرةٌ إيمانيّة يسعى كلّ إنسانٍ ليعيشها في حياته الأرضيّة كي يتّحد بالقدّوس وحده الله. وفي الكنيسة الكاثوليكيّة كمٌّ هائل من القدّيسين، رفعتهم الكنيسة، عقب تحقيقاتٍ طويلة ومكثّفة، قدّيسين على مذابحها حيث رأت في مسيرة حياتهم مثالاً للإقتداء به وكرّمتهم في كلّ مكانٍ وزمان.

وفي مجتمعنا المسيحي الشرقي، تطغى التقويّات والممارسات الشعبيّة على إيمان الكثير من المسيحيّين، فهناك تعلّقٌ كبير بالقدّيسين يصل أحيانًا إلى حدّ "تفضيلهم" عن جهل على الله، الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة عند المسيحيّين غير الكاثوليك. لذلك علينا فهم معنى القداسة بمعالجة السؤال التالي:

من هو القدّيس؟

هو سؤالٌ بحاجة إلى إجابةٍ كنسيّةٍ مُلحّة أكثر من أيّ وقتٍ مضى. لذا سأحاول أن أعرض في ما يلي بعض المفاهيم المغلوطة عند الشعب المسيحي الكاثوليكي عن هذا الموضوع:

- "نفتح ليلاً نهارًا"... تتعامل شريحة كبيرة من المؤمنين مع القدّيس كما لو أنّه متجر أو مطعم يفتح 24/24 طيلة أيّام حياتهم، وجُلّ ما عليهم هو أنّهم كلّما احتاجوا إلى غرضٍ ما أو ضاقت بهم الأحوال، يكفي أن يتّصلوا بالقدّيس الذي يعتبرونه الأفضل والمناسب لحاجاتهم وهو يلبّيها... إنّها علاقة المصلحة بإمتياز...

- "نعمل لأجلكم"... شعارٌ نقرؤه على الطرقات عندما يكون هناك أشغال صيانة أو حفريّات، يستعمله قسمٌ لا بأس به من المؤمنين في نظرتهم إلى القدّيسين: هم خدّامٌ للربّ في خدمتنا، يسهرون على تلبية حاجاتنا ويعملون لأجلنا! إنّه المفهوم المشوَّه للشفاعة...

- "شبّيك لبَّيك"... لطالما أبهرتنا في طفولتنا قصّة الفانوس السحريّ والجنّي الذي يخرج منه ليلبّي طلب مَن لمسَهُ. وفي الحياة المسيحيّة، يعيش معظم المؤمنين حياتهم، ويغرقون بالأمور السطحيّة وفي هموم الحياة التي تُبعدهم عن الله، وهم عالمين بأنّ في جعبتهم أداةً سحريّة يلجأون إليها كلّما اقتضت الحاجة أم وقعوا في ورطة إسمها القدّيس! إنّه الإستعباد للقدّيس...

- "جرّب حظّك مرّة أخرى"... أتذكّر جيدًّا عندما كنّا صغارًا، كنّا أنا وإخوتي نشتري المنتوجات الغذائيّة التي كانت تحتوي على فرصة للفوز بجائزة في داخلها. فكنّا مثلاً نفتح عبوات المشروبات الغازيّة الواحدة تلوى الأخرى لقراءة ما في داخل سدّاداتها، لعلّنا نربح. وإذا لم يحالفنا الحظّ في العبوة الأولى ننتقل إلى الأخرى... بهذه الطريقة تمامًا يتعامل بعض المؤمنين مع القدّيسين! فهناك لوائح معيّنة بالقدّيسين بحسب قدراتهم الخارقة للطبيعة. فيقفزون من قدّيس إلى آخر طالبين العجائب والتدخّلات، ولا بدّ من أن "تسلم الجرّة" مع أحدهم! إنّها قمّة الإهانة للقدّيسين...

- "نؤمّن كافّة الإختصاصات"... عبارةٌ نقرؤها أيضًا في إعلانات المؤسّسات التربويّة والتعليميّة. ولكن هل تعلمون بأنّ هذه العبارة أيضًا تنطبق على "مؤسّسة السماء" بنظر البعض؟ فالسماء مليئة بالقدّيسين ولكلٍّ مجاله الذي يبرع فيه. فإذا آلمتك عينك هناك رفقا، وإذا فقدت البصر هناك نوهرا، وإذا احتجت لأيّ أمر مستحيل فهناك دومًا ريتا، وطبعًا هناك شربل البارع في كلّ الإختصاصات... إنّه التحجيم للقدّيس... فإذا كانت الكنيسة قد وضعت لقب شفاعة لكلّ قدّيس، هذا لا يعني بأنّ الأخير أصبح طبيبًا مختصًّا في مجالٍ معيّن! فالقديسة ريتا مثلاً هي شفيعة الأمور المستحيلة، لأنّها جعلت من المستحيل ممكنًا في حياتها وهي مثالٌ لنا نقتدي به لمواجهة الأمور المستحيلة.

واللائحة تمتدّ وتطول وهناك أمورٌ غريبةٌ عجيبة نسمعها ونقرؤها كلّ يوم يَنسبها "قليلو الإيمان" إلى القدّيسين... ولكن يبقى السؤال: من هو القدّيس؟

القداسة هي دعوةٌ عامّةٌ لكّل إنسانٍ مسيحيّ. ونحن نقول في قانون الإيمان : "نؤمن بكنيسة مقدّسة"، وبالتالي نتكلّم عن مفهوم "شركة القداسة" في قلب الكنيسة وهذا يعني من ناحية أولى الشركة في الأشياء المقدّسة وأبرزها الأسرار، ومن ناحية ثانية، فهذا يعني شركة الأشخاص القدّيسين. (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد 954). وفي القدّاس الماروني يردّد الكاهن قبل المناولة: "الأقداس للقدّيسين" وهذه دعوة ٌ لكلّ المؤمنين المدعوّين إلى القداسة للتقدّم إلى الاشتراك في المناولة التي تجعلهم يتّحدون بالقدّوس فيصبحون قدّيسين. 

من هذا المنطلق، كلّ إنسانٍ عاش حياته بإيمانٍ في مخافة الله ومحبّة القريب، يصبح عندما ينتقل إلى الحياة الأخرى في اتّحادٍ كلّيٍ مع مَن خلقَه ويُمكِن أن يُدعى بالقدّيس. وكَمْ هو عدد القدّيسين غير المُعلَنين رسميًّا على مذابح الكنائس! أمّا القدّيسون المُعلنون فهُم مَن أشعّت حياتهم بمحبّة المسيح حتّى أنّ الله نفسه اختارهم، بعد مماتهم، ليشعّوا للعالم ويكونوا منارةً وقدوةً لكلّ مؤمنٍ يسعى إلى القداسة! لذا فَهُمْ مثالٌ للعيش. والكنيسة تكرّمهم ولكن لا تعبدهم، لأنّ العبادة هي لله وحده: "إنّنا لا نكرّم ذكر سكّان السماء لمجرّد مثالهم فقط، وإنّما نبغي من وراء ذلك توثيق الإتّحاد في الروح للكنيسة كلّها جمعاء، بممارسة المحّبة الأخوية. فإنّه كما أنّ الشركة بين المسيحيّين على الأرض تجعلنا أقرب إلى المسيح، كذلك اشتراكنا مع القدّيسين يربطنا بالمسيح الذي منه تفيض كلّ نعمةٍ وحياة شعب الله بالذات". (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد 957). يقول القدّيس بوليكاربس: "المسيح نعبده لأنّه ابن الله؛ أمّا سائر الشهداء فنحبّهم على أننّهم تلاميذ الرب وسائرون على خطاه، وهم جديرون بذلك بسبب تعبّدهم الفريد لملِكهم ومعلِّمهم؛ عسانا أن نكون نحن أيضًا معهم في المسيرة والتلمذة".

من هنا، القدّيس ليس هو صانع المعجزات، إنّما هي تفصيلٌ صغير من حياته، تمامًا كما كانت تفصيلاً صغيرًا منحياة المسيح. فلأنّهم متّحدين بالله، هم يفيضون من نوره. وتبقى أعظم أعجوبة حياتهم المعطّرة برائحة القداسة. ونحن نطلب شفاعتهم لدى الله لا لأنّنا بحاجةٍ إلى وسطاء إنّما لأنّهم متّحدين بالله، ونحن عمليًّا عندما نطلب شفاعتهم لا نصلّي طالبين منهم مباشرةً، إنّما نصلّي معهم طالبين بواسطتهم من الله، هم يصلّون من أجلنا إلى الله! فكما يقول سفر الرؤيا :"وجاءَ مَلاكٌ آخَر، فقامَ على المَذبَح ومعَه مِجمَرَةٌ مِن ذَهَب، فأُعطِيَ عُطورًا كَثيرَةً لِيُقَرِّبَها مع صَلَواتِ جَميعِ القِدِّيسينَ على المَذبَحِ الذَّهَبي الَّذي أَمامَ العَرْش. وتَصاعَدَ مِن يَدِ المَلاكِ دُخانُ العُطورِ مع صَلَواتِ القِدِّيسينَ أَمامَ اللّه."(رؤيا 8/3-4).

فلنصلِّ مع القدّيسين لله!