كَسر الكلمة - الرسائل -52- الأحد الثالث عشر من زمن العنصرة

كَسر الكلمة - الرسائل -52- الأحد الثالث عشر من زمن العنصرة

مثل الزارع 
الآيات (1 قور 3: 1-13)
1 وأَنَا، أَيُّهَا الإِخْوَة، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُم كَأُنَاسٍ رُوحَانيِّينَ بَلْ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين، كَأَطْفَالٍ في الـمَسِيح.
2 قَدْ غَذَوْتُكُم بِالـحَليبِ لا بِالطَّعَام، لأَنَّكُم لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ قَادِرِين، ولا حَتَّى الآنَ أَنْتُم قَادِرُون.
3 فَأَنْتُم لا تَزَالُونَ أُنَاسًا جَسَدِيِّين: فَمَا دَامَ بَيْنَكُم حَسَدٌ وَخِصَام، أَفَلا تَكُونُونَ جَسَدِيِّين، وسُلُوكًا جَسَدِيًّا تَسْلُكُون؟
4 فإِذَا كَانَ أَحَدُكُم يَقُول: أَنَا لِبُولُس! وآخَر: أَنَا لأَبُلُّوس! أَفَلا تَكُونُونَ جَسَدِيِّين؟
5 فمَا هوَ أَبُلُّوس؟ ومَا هوَ بُولُس؟ هُمَا خَادِمَانِ آمَنْتُم عَلى أَيْدِيهِمَا، عَلى قَدْرِ مَا أَعْطَى الرَّبُّ كُلاًّ مِنْهُمَا.
6 أَنَا غَرَسْتُ، وأَبُلُّوسُ سَقَى، ولـكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذي كَانَ يُنْمِي.
7 فلا الغَارِسُ بِشَيءٍ ولا السَّاقِي، بَلِ اللهُ الَّذي يُنْمِي!
8 لـكِنَّ الغَارِسَ والسَّاقِي وَاحِد، وكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْخُذُ أَجْرَهُ عَلى قَدْرِ تَعَبِه.
9 فَنَحْنُ مُعَاوِنَانِ لله، وأَنْتُم حَقْلُ اللهِ وَبِنَاءُ الله.
10 وأَنَا بِنِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي، وَضَعْتُ الأَسَاسَ كَبَنَّاءٍ حَكِيم، لـكِنَّ آخَرَ يَبْنِي عَلَيْه: فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْه!
11 فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الأَسَاسِ الـمَوْضُوع، وهُوَ يَسُوعُ الـمَسِيح.
12 فَإِنْ بَنَى أَحَدٌ عَلى هـذَا الأَسَاسِ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، أَوْ حِجَارَةً كَرِيْمَةً، أَوْ خَشَبًا، أَوْ تِبْنًا، أَوْ قَشًّا،
13 فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَكُونُ ظَاهِرًا، وَيَوْمُ الرَّبِّ سَيُبَيِّنُهُ، لأَنَّ يَومَ الرَّبِّ سَيُعْلَنُ بِالنَّار، والنَّارُ سَتَمْتَحِنُ مَا قِيمَةُ عَمَلِ كُلِّ وَاحِد.

مقدّمة
في رسالة الأحد الثَّالث عشر من زمن العنصرة (1 قور 3: 1-13)، يوبّخ بولس أهل قورنتس، لأنَّ التحزُّب أعماهم عن محبَّة بعضهم البعض، فأتت الخلافات تأكل البذار الطيّب، وصخور التصلُّب تُميتُ فعل الكلمة فيهم، وأشواك البُغض تخنق البشارة الطيّبة.
تؤكّد الانشقاقات بين المسيحيّين في قورنتس على الثقة الموضوعة في غير محلّها في الحكمة الدنيويَّة. فالحكمة السخيفة، الَّتي سادت في قورنتس، كانت تناقض حكمة الله. لذلك، يشير الاضطراب، الَّذي كان في تلك الكنيسة، إلى المشاكل الَّتي أصبحت أعمق من الافتتان بالحكمة الدنيويَّة؛ إذ كان روح التحزُّب، الَّذي يقودهم، منبثقًا من القيم الدنيويَّة. لقد فشل بعض أولئك المسيحيّين في السماح لروح المسيح بأن يسود على قلوبهم. كان إيواء الغيرة التافهة، والتنافس على السلطة، واختيار الفرقاء، يحدث استنادًا إلى المعلّمين المفضَّلين.
هذا النَّهج الخاطئ للحياة المسيحيَّة، حوَّل الانتباه، والطاقات، عن ثوابت الإنجيل. فالولاء للتحزُّبات، لم يترك مجالًا يُذكَر للتأمُّل بنعمة الله، كما تتَّضح في صليب المسيح. هذا ما أضرَّ بممارسة الطهارة الأخلاقيَّة، وأدَّى إلى إهمال المحبَّة الأخويَّة. 

شرح الآيات
1 وأَنَا، أَيُّهَا الإِخْوَة، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُم كَأُنَاسٍ رُوحَانيِّينَ بَلْ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين، كَأَطْفَالٍ في الـمَسِيح.
قال بولس لأهل قورنتس: "لم أستطع أن أكلّمكم كأناسٍ روحانيّين بل كأناسٍ جسديّين" لأنهم كانوا "أطفالًا في المسيح". لكن، مع كلّ انشقاقاتهم، وصراعاتهم، كانوا "في المسيح". فبالرغم من التحزُّبات، والافتتان الشديد بالحكمة الدنيويَّة، كان أهل قورنتس، إلى حدٍّ ما، أناسًا صالحين. استمرَّ الروح القدس يوجّههم ويمكّنهم؛ لكن بعدما نالوا الرُّوح، سمحوا للجسد بأن يقوى على حياتهم الروحيَّة. 

2 قَدْ غَذَوْتُكُم بِالـحَليبِ لا بِالطَّعَام، لأَنَّكُم لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ قَادِرِين، ولا حَتَّى الآنَ أَنْتُم قَادِرُون.
استخدم بولس التشبيه الأمومي للحديث عن نفسه. كان بالنسبة إلى أهل قورنتس مثل أمٍّ تغذّي المؤمنين "بالحليب". ربَّما كانت قد مضت ثلاث سنوات، منذ انتهاء الثمانية عشر شهرًا الَّتي قضاها بولس في قورنتس (راجع أعمال 18: 11). كان قد وضع حجر أساسٍ للتعليم المسيحيّ خلال الفترة الَّتي قضاها هناك. وكان قد عرَّف أهل قورنتس بالإيمان بــ"المسيح وإيَّاه مصلوبًا" (1 قور 2: 2). لذا كانوا أطفالًا في الإيمان في بداية مسيرتهم الروحيَّة، وأطفالًا رُضَّعًا في المسيح، غذاؤهم "حليب" الإنجيل. كان لهم مجالٌ للنموّ، لكنَّهم لم يعطوا أنفسهم مجالًا لهضم طعام الإيمان. فقد جعلتهم طرائقهم الجسديَّة غير قادرين على النموّ والنضوج في المسيح.

3 فَأَنْتُم لا تَزَالُونَ أُنَاسًا جَسَدِيِّين: فَمَا دَامَ بَيْنَكُم حَسَدٌ وَخِصَام، أَفَلا تَكُونُونَ جَسَدِيِّين، وسُلُوكًا جَسَدِيًّا تَسْلُكُون؟
بدلًا من أن يتصرَّف أهل قورنتس كأناسٍ يحكمهم الروح (pneumatikoí؛ 1 قور 3: 1)، اتَّهمهم بولس بأنَّهم كانوا يتصرَّفون مثل الَّذين يحكمهم الجسد (sarkikoí ؛ 1 قور 3: 3). من المحتمَل أنَّ الأعضاء المفتَتَنين بالمعرفة السريَّة، والحكمة، قد استاؤوا من هذا الاتّهام. إذ كانوا يعتبرون أنفسهم "روحانيّين"، ويدَّعون النضوج. غير أنَّ بولس قدَّم دليلًا على أنَّهم لا يزالون "جسديّين". فعلامة عدم نضوجهم هي "الحسدُ والخصام"، اللَّذان كانا بينهم.
استخدم بولس كلمة "جسد" (sarkx) أكثر من أيّ كاتبٍ آخر من كتَّاب العهد الجديد، كرمزٍ للرغبات الخاطئة المخفيَّة في قلب الانسان. قد تظهر هذه الرغبات نفسها بطرائق خفيَّةٍ أو واضحة. فطالما أنّ أهل قورنتس يتدافعون ويتنافسون مع بعضهم البعض، ويجادلون عمَّن اكتشف الحكمة، فسيكون من الصَّعب على بولس أن يقرّبهم إلى الرَّبّ.

4 فإِذَا كَانَ أَحَدُكُم يَقُول: أَنَا لِبُولُس! وآخَر: أَنَا لأَبُلُّوس! أَفَلا تَكُونُونَ جَسَدِيِّين؟
واجه بولس أهل قورنتس بحقائق: لم تكن هناك قيمةٌ في السَّعي إلى الحكمة والتعلُّم إلَّا إذا كان ذلك متجذّرًا في الله (راجع 1 قور 2: 6). طالما كانت التحزُّبات تتشكَّل حول مزاعم مثل "أنا لبولس" و"أنا لأبلُّوس"، فهذا يعني أنَّ أهل قورنتس كانوا أطفالًا من الناحية الروحيَّة. كان بولس قد قدَّم سابقًا أربعة أسماء، وهي "بولس"، و"أبلُّوس"، و"كيفا"، و"المسيح" (1 قور 1: 12). يشير تخفيض تلك القائمة إلى شخصين، إلى أنَّ الانشقاق في كنيسة قورنتس كان يرتكز حول تفضيل بولس أو أبلُّوس. كان بولس، برأيهم، يفتقر إلى الفصاحة في الكلام (راجع 2 قور 11: 6)، وكان أبلُّوس رجلًا متعلّمًا وفصيحًا، مقتدرًا في الأسفار المقدَّسة (راجع أعمال 18: 24). والفكرة بأنَّ "كيفا" كان قد زار قورنتس، غير محتمَلَة مثل الفكرة بأنَّ المسيح كان قد وصل إلى تلك المدينة. ورد ذكر "كيفا" لاحقًا في الرسالة (راجع 1 قور 3: 22)، ولكن ليس كممثّل لفئة.
السؤال الَّذي يُنهي هذه الآية: "أفلا تكونون جسديّين؟"، هو سؤالٌ خفيّ في اللغة اليونانيَّة. ويبدو أنَّ بولس كان يقصد بهذا السؤال، أنَّهم بولائهم للمعلّمين البشر، يتصرّفون كأهل العالم الَّذين لم يعرفوا المسيح. وسلوكهم هذا، يُشير إلى أنَّهم ليسوا "روحانيّين" على الإطلاق؛ بل كانوا تمامًا أسرى الجسد، ولم يُظهِروا أيَّ تقديرٍ للوحدة الأساسيَّة لجسد المسيح (راجع 1 قور 1: 10).

5 فمَا هوَ أَبُلُّوس؟ ومَا هوَ بُولُس؟ هُمَا خَادِمَانِ آمَنْتُم عَلى أَيْدِيهِمَا، عَلى قَدْرِ مَا أَعْطَى الرَّبُّ كُلاًّ مِنْهُمَا.
يتداخل اسم الاستفهام المذكَّر في اللغة اليونانيَّة tís -الـمُترجَم هنا "فما؟"- بشكلٍ عام مع اسم الاستفهام الـمُحَايِد tí، الـمُترجم عادةً بــ"ماذا؟". قد يتوقَّع القارئ أن يستخدم بولس اسم استفهام عن العاقل، ويسأل: "فمن هو أبلُّوس؟ ومن هو بولس؟". لكن عوضًا عن ذلك، استخدم اسم استفهام لغير العاقل: "فما هو أبلُّوس؟ وما هو بولس؟". إذا كان بولس يقصد إيصال أيّ شيءٍ باستخدام اسم الاستفهام لغير العاقل، فربما رغب في لفت الانتباه إلى مُجمَل العمل الَّذي قام به هذان الرَّسولان. الأمر المؤكّد هو أنَّ أهل قورنتس كانوا يركّزون كثيرًا على الَّذين كانوا قد بشَّروا في المدينة، على حساب من كانوا يُبشّرون به، أي المسيح. فالمسألة إذًا، هي تصوُّرهم المضلّل جذريًّا لطبيعة الكنيسة وقيادتها.
شدَّد بولس على أنَّه هو وأبلُّوس "خادمان"، لا أكثر ولا أقلّ، "آمنتم على أيديهما". خدمة المسيح وشعبه، من خلال التبشير بالحقّ هي شرفٌ. لكن عندما يضع المسيحيّون المعلّمين على ركائز عالية، ويشكّلون تحزّباتٍ من حولهم، فإنَّهم بذلك يشوّشون على الَّذين هدفهم أن يكونوا خدَّامًا للرَّبّ. وقد انطبق ذلك حتَّى على معلّمين عظماء أمثال بولس وأبلُّوس.
أوضح بولس أنَّه لا هو ولا أبلُّوس وضعا أنفسهما كمعلَّمَين؛ فقد "أعطى الرَّبُّ كلًّا منهما" فرصةً ليخدم بطريقته الخاصَّة. لم يرغب أيٌّ منهما في ولاءٍ تحزُّبيٍّ لنفسه. وكما كان بولس وأبلُّوس معاونَين، كذلك كان ينبغي لمسيحيّي قورنتس أن يتَّحدوا في الخدمة، وبذلك يُظهرون نضوجهم المسيحيّ.

6 أَنَا غَرَسْتُ، وأَبُلُّوسُ سَقَى، ولـكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذي كَانَ يُنْمِي.
لتوضيح دور المعلّمين في الكنيسة، قدَّم بولس تشبيهًا  زراعيًّا. كان هو الَّذي بشَّر أوَّلًا بالمسيح في قورنتس، وأبلُّوس "سقى" الإيمان الَّذي نبت، من دون تنافس، و"الله هو الَّذي كان يُنمي" لخلاص النفوس.   

7 فلا الغَارِسُ بِشَيءٍ ولا السَّاقِي، بَلِ اللهُ الَّذي يُنْمِي!
كان بولس وأبلُّوس عاملَين في حقل الكنيسة الَّتي في قورنتس. كلُّ ما استطاعا القيام به، هو إعداد التربة و"غرس" البذور، و"السقي"، والتسميد. تضاءلت هذه الجهود بالمقارنة مع إنبات البذور، وبزوغ النبتة الخضراء من التربة. دخل بولس وأبلُّوس في الظلال، "والله الَّذي يُنمي".

8 لـكِنَّ الغَارِسَ والسَّاقِي وَاحِد، وكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْخُذُ أَجْرَهُ عَلى قَدْرِ تَعَبِهِ.
بمفهومٍ ما، كان بولس وأبلُّوس، "واحدًا" في الفكر، والقلب، والجهود الَّتي كانا يبذلانها. وفي الوقت نفسه، فإنَّ لكلّ واحدٍ قدراته الفريدة من نوعها، ويُساهم كلُّ واحدٍ بطريقته الخاصَّة في نموّ الكنيسة. في النهاية، سيفرز الله قلوب جميع النَّاس، و"كلٌّ منهما يأخذ أجرَه على قدر تعبه". أحسن المسيحيّون في قورنتس حين قدَّروا جهود بولس وأبلُّوس، اللَّذَين علَّماهم بالحقّ؛ ولكنَّ القيام بمقارناتٍ تحزُّبيَّة لم يكن مناسبًا. فلا مبرّر لتقسيم وحدة جسد المسيح، من أجل التفضيلات الشخصيَّة.
كان بولس يرى نفسه كخادمٍ لا يستحقُّ أجرةً، ولا يستطيع أن يكفَّ عن التبشير بالإنجيل (راجع 1 قور 4: 1؛ 9: 16؛ 1 طيم 1: 15). فالأجرة الَّتي كان بولس يقصدها، هي من النَّوع الَّذي ناله العبيد الَّذين كافأهم الرَّبُّ للعمل لمدَّة ساعةٍ واحدة فقط في اليوم (راجع متَّى 20: 8)، أي إنَّها ليست أجرة الاستحقاق، إنَّما هي نتيجة الإيمان المعبَّر عنه بالسُّلوك (راجع روم 2: 13).

9 فَنَحْنُ مُعَاوِنَانِ لله، وأَنْتُم حَقْلُ اللهِ وَبِنَاءُ الله.
كان بولس وأبلُّوس "معاونان لله"، حتَّى وإن كانا بصفتهما هذه مجرَّد خادمان. لأنَّ الله هو محور كلّ الجهود المسيحيَّة. يتلقَّى خادم المسيح أهميَّته من علاقته بالله. ليس هناك مجالٌ للكبرياء، أو السَّعي إلى تمجيد الذَّات. فالجسد بطبيعته واحد. انتقل بولس من التشبيه الزراعي إلى نموذج البناء (راجع 1 قور 3: 10-17)، ليقول بأنّ أهل قورنتس هم "حقل الله وبناء الله". لم تكن الفكرة الَّتي أراد بولس توضيحها، متعلّقة بالمهام المحدَّدة لخدَّام الله، إنَّما بمركزيَّة عمل الله في ما يخصّ وحدة الجسد.

10 وأَنَا بِنِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي، وَضَعْتُ الأَسَاسَ كَبَنَّاءٍ حَكِيم، لـكِنَّ آخَرَ يَبْنِي عَلَيْه: فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْه!
يسلّط بولس الضوء على "نعمة الله الَّتي وُهبَت له"، وما يترتّب عليه من مسؤوليَّة لـ"بناء" الجسد ونضوجه ووحدته. كذلك، ينبغي على كلّ واحدٍ من المسيحيّين الَّذين في قورنتس أن يفحص دوره في البنيان ومساهمته الخاصَّة في سلامة هيكله. في النهاية، أراد لهم بولس أن يعرفوا أنَّ المقارنة بين الكنيسة والمبنى غير كافية. فكنيسة المسيح هي، في الواقع، هيكل الله.
من هذا المنطلق، استخدم بولس تشابيه الزراعة والبناء لمساعدة المسيحيّين على فهم، أنَّ بولس وأبلُّوس يخدمان المسيح وكنيسته. ولم يكن لأيٍّ منهما مكانةٌ مستقلَّة. لذلك، كلُّ ادّعاءٍ بالولاء الفئويّ لأيٍّ منهما هو إهانةٌ للرَّبّ.

11 فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الأَسَاسِ الـمَوْضُوع، وهُوَ يَسُوعُ الـمَسِيح.
كان الأساس الَّذي وضعه بولس في قورنتس هو "يسوع المسيح وإيَّاه مصلوبًا" (1 قور 2: 2). فأيَّة محاولةٍ لتشييد بناءٍ عظيمٍ غير ذلك، يستدعي انهيار البناء. كان الانشقاق، الَّذي يختبره أهل قورنتس، يُشير إلى البنية التحتيَّة الأصليَّة لهذه الجماعة. إذ "ما مِن أحدٍ" يريد الحصول على الحياة والخلاص، "يضع أساسًا آخر غير الأساس الموضوع، وهو يسوع المسيح". الاعتماد على الحكمة البشريَّة كان بمثابة تقسيم جسد المسيح وإنكار الأساس الَّذي وضعه بولس، أي رفض المسيح بالذَّات.

12 فَإِنْ بَنَى أَحَدٌ عَلى هـذَا الأَسَاسِ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، أَوْ حِجَارَةً كَرِيْمَةً، أَوْ خَشَبًا، أَوْ تِبْنًا، أَوْ قَشًّا،
"الذهب" و"الفضة" هما غير عمليَّين لبناء مبنىً سليم، كالــ"حجر" و"الخشب". تشبيه بولس هذا، يعود بالأكثر إلى جمال البناء وتكوينه الهيكليّ. لكن من غير المحتمَل أن يزيّن المهندس المعماريّ المبنى بــ"الذَّهب، والفضَّة، والحجارة الكريمة"، ما لم يكن مقتنعًا بأنَّ هيكل البناء نفسه سليم. يشير بولس هنا إلى أنَّ ما يُبنى على الأساس الَّذي هو المسيح، يستحقُّ أن يكون من أثمن المواد الَّتي يمكن للإنسان تقديمها. إنَّ البناء لمجد الله هو بناءٌ بـ"الذَّهب، والفضَّة، والحجارة الكريمة". ولكن بناء الولاءات على بولس أو أبلُّوس، بدلًا من المسيح، كان بمثابة اتَّخاذ طريق الحكمة البشريَّة المسبّبة لشقاق المبنى، أي باستخدام "الخشب، أو التبن، أو القشّ".
بنى المسيح كنيسته من مواد روحيَّة تمكّنها من أن تصمد أمام كلّ ما يجرّه عليها العالم. عندما يقوم الانسان بـ"تعديل" الكنيسة كما يحلو له، فإنَّ الهيكل الناتج، كما صرَّح بولس، يمكن هدمُه أو حرقُه. فموضوع بولس هو الكنيسة ككلّ، وليس الأفراد في داخلها.

13 فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَكُونُ ظَاهِرًا، وَيَوْمُ الرَّبِّ سَيُبَيِّنُهُ، لأَنَّ يَومَ الرَّبِّ سَيُعْلَنُ بِالنَّار، والنَّارُ سَتَمْتَحِنُ مَا قِيمَةُ عَمَلِ كُلِّ وَاحِد.
قد لا يظهر نوع العمل الَّذي يقوم به الباني، على الفور؛ ومع ذلك "فعمل كلّ واحدٍ سيكون ظاهرًا" في الوقت المناسب. في الواقع، كان المعلّمون الَّذين في قورنتس، قد بنَوا بطرائق مختلفة عن الأساس الَّذي وضعه بولس.
في "اليوم" الَّذي يختاره الله سيُمتحَن "عمل كلّ واحدٍ" في الوقت المناسب. وبما أنَّه من المتعارف عليه أنّ للنَّارِ صلةً بيوم الدينونة (راجع على سبيل المثال لا الحصر: 2 تس 1: 7؛ عب 10: 27)، فمن المرجّح أن َّ بولس كان يقول إنَّ يوم المجيء الثَّاني للرَّبّ، للدينونة، "سيُعلن بالنَّار". النَّار تزيل الشوائب وتترك ما هو حقيقيّ أكثر مجدًا وقوَّة.
من المحتمل أيضًا أن يكون بولس قد أشار هنا إلى الأوقات الَّتي تواجه فيها كنيسة قورنتس المحَن. فالنَّار هي أيضًا استعارةٌ للتجارب في هذه الحياة (راجع 1 بط 1: 7). قد تأتي التجربة من الاضطهاد الَّذي بدأه الأشرار، ومن التحدّيات الَّتي يجلبها المعلّمون الكذبة، أو من النزاعات الداخليَّة بين المسيحيّين. نوع البناء الَّذي يشيّده الانسان على أساس المسيح، ستكون له علاقة كبيرة مع قدرة المؤمنين على تحمُّل المحَن في هذه الحياة. 

خلاصة روحيَّة
عرفت كنيسة قورنتس انشقاقًا داخليًّا حيث إنّ البعض تعلَّق بشخص القدّيس بولس، الَّذي أسَّس الجماعة وبشَّرها على أساس يسوع المسيح، فيما تعلَّق البعض الآخر بشخص أبلُّوس، الَّذي بشّر هو أيضًا في قورنتس بأسلوبه الشيّق والجذَّاب، وقد التفَّ حوله عدد من المؤمنين الَّذين رأوا فيه مثال القائد الأوحد والكليم، منتقدين شخص القدّيس بولس حتَّى درجة التشكيك بتعاليمه.
اعتبر بولس الرسول هذا الانشقاق من قبيل النقص في النضج الروحيّ للجماعة، كما هي حال الطفل الرضيع، الَّذي يقتصر غذاؤه، في مراحل نموّه الأولى، على شرب الحليب، لعدم قدرته على هضم الركائز الغذائيَّة الأكثر دسامة. فالجماعة في قورنتس أحسنت في نيلها البشارة، لكنَّها لم تبلغ مرحلة النضج الروحيّ الكافي لتتمكَّن من استيعاب جوهر إيمانها، شخص يسوع المسيح، بمعزلٍ عن شخص المبشّر وأسلوبه التبشيريّ.
إرشاد بولس لأهل قورنتس، يُعيد تصويب البوصلة روحيًّا وعمليًّا حين يذكّر الجميع بأنَّه هو وأبلُّوس "خادمان"، بينما "الله هو الَّذي كان يُنمي".


تحميل المنشور