كَسر الكلمة - الرسائل -37- الأحد السابع من زمن القيامة

كَسر الكلمة - الرسائل -37- الأحد السابع من زمن القيامة

الأحد السابع من زمن القيامة: وصيَّة يسوع الجديدة
الآيات (أف 1: 15-23)
15 فَلِذلِكَ أَنَا أَيْضًا، وقَدْ سَمِعْتُ بإِيْمَانِكُم بِالرَّبِّ يَسُوع، ومَحَبَّتِكُم لِجَمِيعِ الإِخْوَةِ القِدِّيسِين،
16 لا أَزَالُ أَشْكُرُ اللهَ مِنْ أَجْلِكُم، وأَذْكُرُكُم في صَلَواتِي،
17 لِيُعْطِيَكُمْ إِلـهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيح، أَبُو الـمَجْد، رُوحَ الـحِكْمَةِ والوَحْيِ في مَعْرِفَتِكُم لَهُ،
18 فَيُنِيرَ عُيُونَ قُلُوبِكُم، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، ومَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيراثِهِ في القِدِّيسِين،
19 ومَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الفَائِقَةِ مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الـمُؤْمِنِين، بِحَسَبِ عَمَلِ عِزَّةِ قُوَّتِهِ،
20 الَّذي عَمِلَهُ في الـمَسِيح، إِذْ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وأَجْلَسَهُ إِلى يَمِينِهِ في السَّمَاوَات،
21 فَوقَ كُلِّ رِئَاسَةٍ وسُلْطَانٍ وقُوَّةٍ وسِيَادَة، وكُلِّ إسْمٍ مُسَمَّى، لا في هـذَا الدَّهْرِ وحَسْبُ، بَلْ في الآتي أَيْضًا؛
22 وأَخْضَعَ كُلَّ شَيءٍ تَحْتَ قَدَمَيْه، وجَعَلَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيء، رَأْسًا لِلكَنِيسَة،
23 وهِيَ جَسَدُهُ ومِلْؤُهُ، هُوَ الَّذي يَمْلأُ الكُلَّ في الكُلّ.

مقدّمة
في هذا الأحد السابع من زمن القيامة، نتأمَّل مع الكنيسة في هذه القراءة من الرسالة إلى أهل أفسس (1: 15-23)، حيث تنساب صلاة شكرٍ وتضرُّع يتلوها مار بولس على نيَّة أهلها، ومن خلالهم على نيَّة كلّ مؤمنٍ بالفداء الَّذي حقَّقه الله في شخص يسوع المسيح مخلّصنا، الَّذي نال المجد من خلال محبَّته وطاعته للآب، وهو المثال الَّذي يجب أن نقتدي به، "فوق كلّ رئاسة وسلطان، وقوَّة وسيادة، وكلّ اسمٍ مسمَّى، لا في هذا الدهر وحسب، بل في الآتي أيضًا" (أف 1: 21).

شرح الآيات
15 فَلِذلِكَ أَنَا أَيْضًا، وقَدْ سَمِعْتُ بإِيْمَانِكُم بِالرَّبِّ يَسُوع، ومَحَبَّتِكُم لِجَمِيعِ الإِخْوَةِ القِدِّيسِين،
16 لا أَزَالُ أَشْكُرُ اللهَ مِنْ أَجْلِكُم، وأَذْكُرُكُم في صَلَواتِي،

قد تشير كلمة "فلذلك" إمَّا إلى كلّ ما قاله القدّيس بولس قبلًا (أف 1: 3-14)، أو فقط إلى ما يكون قد قاله عن "الختم" (أف 1: 13) و"العربون" (أف 1: 14). في كلتا الحالتَين، بعد أن "سمع بولس بإيمان" الإخوة الَّذين في أفسس، و"بمحبَّتهم لجميع الإخوة القدّيسين" (أف 1: 15)، قدَّم "الشكر لله" و"ذكرهم دومًا في صلواته" (أف 1: 16).
قد تعني هذه العبارات أنَّه كان لأولئك الإخوة إيمانٌ بيسوع جديرٌ بالثَّناء. وصف عبارة "إيمانكم بالرَّبّ يسوع" يعني أنَّهم كانوا يعيشون فيه ولأجله، وهو هدف إيمانهم. ظهر هذا الإيمان بمحبَّتهم نحو "جميع الإخوة القدّيسين". وهذا ما يبيّن تضامن أهل أفسس مع جميع المسيحيّين الآخرين. مثل هذه المحبَّة تجاه الإخوة جديرة بالثناء، لأنَّ يسوع حدَّد المحبَّة كعلامة الهويَّة الَّتي بها يعرف النَّاس تلاميذه (راجع يو 13: 35). 

17 لِيُعْطِيَكُمْ إِلـهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيح، أَبُو الـمَجْد، رُوحَ الـحِكْمَةِ والوَحْيِ في مَعْرِفَتِكُم لَهُ،
إشارة بولس إلى "إله ربّنا يسوع المسيح" تذكّر القارئ بما ورد قبلًا في الرسالة (أف 1: 3). عبارة "أبو المجد" إشارةٌ إلى الله كمصدر المجد. لأنَّ كلمة "مجد" في كتابات القدّيس بولس تدلُّ على "البهاء الإلهيّ". ترتبط هذه الفكرة بقوَّة الله لاستنارة عقول أهل أفسس، وهي إحدى البركات الَّتي سيطلبها لهم بولس (راجع أف 1: 18).
أراد بولس لأهل أفسس أن ينالوا من الله "روح الحكمة والوحي في معرفتهم له" لكي تتحقَّق فيهم الطلبات الآتية في الآيتَين 18 و19. هناك نصٌّ موازٍ لهذا في الرسالة إلى أهل قولوسّي (1: 9-11)، يساعد على تفسير هذا الجزء من الرسالة إلى أهل أفسس. صلَّى بولس ليمتلئ أهل قولوسّي من "معرفة مشيئته (الله)، في كلّ حكمةٍ وفهمٍ روحيّ" (قول 1: 10)، وكانت النتيجة النهائيَّة المنشودة هي أن "ينموا بمعرفة الله" (قول 1: 10). فعندما صلَّى بولس من أجل أهل أفسس ليعطيهم الآب "روح الحكمة والوحي في معرفتهم له" (أف 1: 17)، فهو يعني أنَّ الله يمدّهم بالحكمة لمساعدتهم على الفهم والتطبيق الصحيحَين للحقائق الواردة في الرسالة الَّتي يُعلنها بولس. وكلَّما كانوا على علاقةٍ وثيقةٍ بالله، عرفوه بطريقةٍ أفضل. 

18 فَيُنِيرَ عُيُونَ قُلُوبِكُم، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، ومَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيراثِهِ في القِدِّيسِين،
"القلب" هو قاعدة العقل البشريّ، والعاطفة، وقوَّة الإرادة. على هذا الأساس، يمكننا أن نفهم لماذا يتحدَّث الكتاب المقدَّس عن الانسان أنَّه يفكّر في قلبه (راجع أم 23: 7؛ متَّى 9: 4)، ويحبُّ بقلبه (راجع متَّى 22: 37)، ويُطيع من القلب (راجع روم 6: 17). يتكلَّم بولس هنا على "عيون قلوبكم"، وقصد بها العقل البشريّ الَّذي يفهم ويتَّخذ القرارات ويعمل وفقًا للمعلومات الَّتي يتلقَّاها. عندما يسمع الانسان رسالة الله، قد يقبلها أو يرفضها. إن قبلها بفهمٍ، قد نقول إنَّ "عينيه انفتحتا" (لو 24: 31). وإن رفضها بسبب سوء الفهم أو الانحياز، قد نقول إنَّه أعمى أو "عينيه مُغمضتَين" (متَّى 13: 15). بهذا المفهوم يكون للقلب عيون.
أراد بولس لأهل أفسس أن "يتعلَّموا ما هو رجاء دعوته (الله). ذِكر كلمة "دعوة" يُعيد القارئ إلى بداية هذه الرسالة حيث تحدَّث بولس عن أنَّ الله "اختارنا" (أف 1: 4)، ويتطلَّع أيضًا إلى "الدعوة الَّتي دُعيتم إليها" (أف 4: 1)، و"رجاء دعوتكم الواحد" (أف 4: 4)، لأنَّ "الرجاء" (elpís) هو الثقة الأكيدة بأنَّ ما وعد الله به سينالونه.
صلَّى بولس أيضًا من أجل أن يعرف أهل أفسس "ما هو غنى مجد ميراثه في القدّيسين". استخدم بولس كلمة "ميراث"، في الفصل الأوَّل من الرسالة، بطريقَتَين: "اختارنا (نحن) ميراثًا له" (راجع أف 1: 11)، والروح القدس هو "عربون ميراثنا" (أف 1: 14). إذا كان المفهوم الأوَّل للميراث هو ما كان يفكّر به بولس، عندما تحدَّث عن "مجد ميراثه في القدّيسين" (أف 1: 18)، فهو يعني أنَّهم كانوا أعزَّاء في نظر الله. وأمَّا إن كان قد استخدم كلمة "ميراث" بالمفهوم الّثَاني، فذلك يعني أنَّه أراد من أهل أفسس أن يقدّروا غنى المجد الَّذي يخزّنه الله لهم في العالم الآتي. استنادًا إلى ما جاء في الآية 14، يبدو أنَّ بولس يقصد بمفهوم الرُّوح كــ"عربون ميراثنا".

19 ومَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الفَائِقَةِ مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الـمُؤْمِنِين، بِحَسَبِ عَمَلِ عِزَّةِ قُوَّتِهِ،
رغب بولس أيضًا في أن يعرف أهل أفسس "ما هي عظمة قدرته (الله) الفائقة من أجلنا، نحن المؤمنين". وردت عبارة "العظمة الفائقة" باللغة اليونانيَّة (huperbállon mégethos)، بمعنى "العظمة المتميِّزة"، أي النَّوع المتفوّق من العظمة الَّتي لا تُقاس، وهي أكثر من الكفاية. بمعنى آخر، عظمة قدرة الله لا حدود لها.
استخدم بولس الرسول أربعة مصطلحات لقوَّة الله في هذه الآية: "قدرته" (tês dúnamis autou)، أي القدرة الطبيعيَّة؛ "عمل" (tèn enérgeian)، أي الطاقة أو القوَّة العاملة؛ "عزَّة" (krátous)، أي هبة القوَّة؛ "قوَّته" (ischúos) وتشير إلى القوَّة البدنيَّة. بوضع هذه المفاهيم الأربعة معًا، وصف بولس قدرة الخالق اللَّامحدودة، المرتبطة برجاء أهل أفسس وميراثهم وبتتميم مواعيد الله.
"قدرة الله الفائقة" هي "من أجلنا، نحن المؤمنين"، أي إنَّ قوَّة الله واضحة للَّذين يثبتون في الإيمان، إذ تعطيهم الثقة في ما يتعلَّق برجائهم وميراثهم. 

20 الَّذي عَمِلَهُ في الـمَسِيح، إِذْ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وأَجْلَسَهُ إِلى يَمِينِهِ في السَّمَاوَات،
قدرة الله، الَّتي أراد بولس لأولئك الإخوة أن يقدّروها بشكلٍ أكبر، ظهرت في "قيامة المسيح من بين الأموات". فعل "عمله" هنا، ورد في اللغة اليونانيَّة (enérgêsen) بصيغة الماضي ممَّا يدل على حدوث العمل في وقتٍ مضى. والمفهوم هو أنَّ ما عمله الله في الماضي، يجب أن يكون ضمانةً على أنَّه سيعمل بقوَّة في المستقبل من أجل شعبه. قيامة المسيح هي الدليل القاطع على ألوهيَّة يسوع (راجع روم 1: 4)، وعلى عظمة قدرة الله الآب. في الرسالة إلى أهل قولوسّي، استخدم بولس الصيغة الاسميَّة للفعل (باللغة اليونانيَّة energeías) ليتكلَّم على قيامة المؤمن المرتبطة بمياه المعموديَّة. فقيامة الموتى تتطلَّب قوَّةً عظيمة، وهذه القوَّة هي الله.
يدلُّ فعل "أجلسه" هنا على أنَّ عمل الفداء قد اكتمل. كما ويدلُّ أيضًا على مكان الإكرام، والمجد، والعظمة، لأنَّ الجلوس هو "عن يمين الله في السماوات". يعتبر العهد القديم "يمين الله" كمكان النَّصر والقوَّة (راجع مز 80: 17؛ 20: 6؛ 89: 13).

21 فَوقَ كُلِّ رِئَاسَةٍ وسُلْطَانٍ وقُوَّةٍ وسِيَادَة، وكُلِّ إسْمٍ مُسَمَّى، لا في هـذَا الدَّهْرِ وحَسْبُ، بَلْ في الآتي أَيْضًا؛
أكَّد بولس أنَّ "جلوس المسيح عن يمين الله في السماوات" كان ممكنًا بقدرة الله العظيمة، وكذلك أعلن أنَّ المسيح فوق كلّ "رئاسةٍ" (archês) وسلطان (exousías) وقوَّة (dunámeôs) وسيادة (kuriótêtos). استخدم بولس في ما بعد كلمَتَي: رئاسةٍ وسلطان" (راجع أف 3: 10؛ 6: 12). ووفقًا لهذه النصوص، تجعل الكنيسة حكمة الله معروفة للـــ"رئاسات" و"السلاطين"، لأنَّ حرب المسيحيّين هي على "رئاسات" و"سلاطين". وردت هاتان الكلمتان اليونانيَّتان أيضًا في الرسالة إلى أهل قولوسّي (راجع قول 2: 10، 15). وهناك قِيل إنَّ المسيح هو رأسٌ فوق كلّ "رئاسةٍ" و"سلطان" بعدما جرَّد "الرئاسات" و"السلاطين". ووفقًا لِمَا ورد في الرسالة إلى أهل روما (راجع 8: 38، 39)، لا تقدر الرئاسات، ولا أيُّ شيءٍ آخر "أن يفصلنا عن محبَّة الله".
يبدو واضحًا من هذه المصطلحات الَّتي استخدمها بولس في رسائله، أنَّ المسيح هو فوق الكلّ في السماء وعلى الأرض، في كِلا العَالَمَين الروحيّ والماديّ. وعبارة "كلّ اسمٍ مُسمَّى" تذكّرنا بما ورد في الرسالة إلى أهل فيليبّي: "فلذلك رفعه الله جدًّا، ووهبه الاسم الَّذي يعلو كلَّ اسمٍ، لكي تجثو باسم يسوع كلُّ ركبةٍ، في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض" (فل 2: 9-10). لذلك، في النصّ هنا، الاسم الَّذي هو "فوق كلّ اسمٍ مسمَّى" هو الاسم "يسوع" الَّذي يسمو فوق كلّ شيءٍ، وفي كلّ مكان، واسمه فوق كلّ اسمٍ آخر من كلّ ما يُسمَّى.
هذا الكلام ينطبق "لا في هـذا الدَّهر وحسب، بل في الآتي أيضًا". الكلمة اليونانيَّة aiôni الـمُترجَمة هنا "الدَّهر"، ليست kósmos الَّتي تعني "العالم" أو الكون المخلوق، بل هي aión الَّتي تدلُّ على العصر أو المدَّة/الفترة الزمنيَّة، وتعني الوضع الحالي للأمور فضلًا عن وضعها المستقبليّ. 

22 وأَخْضَعَ كُلَّ شَيءٍ تَحْتَ قَدَمَيْه، وجَعَلَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيء، رَأْسًا لِلكَنِيسَة،
"أخضع" الله بقدرته العظيمة "كلَّ شيٍ تحت قدمي المسيح". عبارة "أخضع...تحت" هنا مُترجَمة من الكلمة اليونانيَّة الواحدة hupotássô، وهي مُصطلحٌ عسكريّ معناه "الخضوع لسلطان فلان" مثلما تخضع القوَّات العسكريَّة تحت سلطان القائد.
في هذه الآية أوَّل ذكرٍ للــ"كنيسة" في الرسالة إلى أهل أفسس. كلُّ هذه الرسالة هي عن الكنيسة، لكن أوَّل ذكرٍ لها هنا، يُبيّن المكانة الرفيعة للكنيسة في قصد الله. فالكلمة اليونانيَّة ekklêsía المترجمة إلى "كنيسة"، هي كلمة شائعة مركَّبة من حرف الجرّ ek، أي "مِن"، ومن الفعل kaléô ، أي "يدعو"، وتشير إلى جماعة من النَّاس الَّذين "تجمَّعوا". وقد استُخدمت في العهد الجديد للإشارة إلى جماعة إسرائيل (راجع أعمال 7: 38)، وأيّ محفلٍ آخر تمَّت دعوته (راجع أعمال 19: 32، 39، 41)، وجماعة محليَّة من شعب الله (راجع أعمال 8: 1)، وكنائس في منطقة معيَّنة (راجع 1 قور 16: 1؛ 2 قور 8: 1؛ غل 1: 2)، والكنيسة الجامعة، أو جميع المخلَّصين في المسيح عالميًّا (راجع أف 1: 22؛ قول 1: 18). الكنيسة هي شعب الله المدعو (راجع 1 بط 2: 9، 10)، المدعوّين بالإنجيل (2 تس 2: 14) وقبلوه بالطَّاعة (أعمال 2: 37-47).
أكَّد بولس لأهل أفسس أنَّ الله جعل المسيح "فوق كلّ شيء، رأسًا للكنيسة". كما أنَّ المسيح هو رأسٌ فوق كلّ شيء في الكون، قدَّمه الله كعطيَّته للكنيسة رأسًا لها. وبما أنَّ المسيح هو رأس الكنيسة، فالكنيسة ممجَّدة في عيني ذاك الَّذي هو فوق كلّ شيءٍ في الكون ويتوق إلى تقديمها لنفسه "كنيسةً مجيدة" (أف 5: 27). الكنيسة هي للمسيح لأنَّه "أسلم نفسه لأجلها" (أف 5: 25) وخلَّصها (أف 5: 23). فكلُّ إنسانٍ خُلّص من الخطيئة وتصالح مع الله، هو جزءٌ من الكنيسة (أف 2: 16).

23 وهِيَ جَسَدُهُ ومِلْؤُهُ، هُوَ الَّذي يَمْلأُ الكُلَّ في الكُلّ.
استخدم بولس هنا الصيغة الاسميَّة sôma الـمُترجمة هنا إلى "جسده"، في إشارةٍ إلى الكنيسة. المسيح هو الرأس الوحيد للجسد (للكنيسة)، والكنيسة هي جسد المسيح الواحد (راجع أف 4: 4). الكنيسة كجسد المسيح السرّيّ، هي كائنٌ حيٌّ يستمدُّ حياته من الرأس الحيّ، وهي "ملؤه، هو الَّذي يملأ الكلّ في الكلّ". لكن بأيّ مفهومٍ تكون الكنيسة "جسد" المسيح "وملؤه" في آنٍ معًا؟
استخدم بولس كلمة "ملء" في رسائله (راجع غل 4: 4؛ قول 1: 19؛ 2: 9؛ أف 1: 10، 23؛ 3: 19؛ 4: 13). كما جاءت في الرسالة إلى أهل غلاطية (4: 4)، تبدو أنَّها تعني "عندما اكتمل الوقت/عندما حان الوقت المحدَّد". ورد هذا المعنى نفسه في الرسالة إلى أهل أفسس (1: 10) حيث أشار بولس إلى "ملء الأزمنة". وفي مرجعٍ آخر (أف 3: 19) عندما وصف المسيحيّين بأنَّهم مملوئين بــ"ملء الله"، أو بكلّ ما هو الله. ويقول أيضًا إنّ الكنيسة عندما تنضج تختبر "ملء المسيح (أف 4: 13).
مفهوم "الملء" في كلّ هذه النصوص هو الامتلاء مثلما تمتلئ الكأس بالماء، الامتلاء بالكامل/تمامًا، أو الامتلاء لتكميل شيءٍ أو شخص. لذلك، نستخلص أنَّ الكنيسة هي ملء المسيح كما في الكأس الممتلئة: هو المخلّص، وهي الَّتي تمّ خلاصها.  

خلاصة روحيَّة
هناك ثلاثة مفاهيم لصلاة بولس في أفسس؛ وإنّ فهم هذه الحقائق بعمقها يجعلنا نكتشف مكانتنا أمام الله:
1. ما لدينا من توقُّعات: نقلنا القدّيس بولس في صلاته من الأزليَّة إلى الأبديَّة بعبارةٍ قصيرة "رجاء دعوته". دُعينا منذ الأزل إلى ما سنعيشه بالكامل في الأبديَّة؛ وهذا الرجاء الأكيد، لا يتأصَّل في ما قد فعلنا، بل بما عمل الله لنا في اختياره لنا وفي فدائه وغفرانه. فلا مجال للخوف والشكّ بشأن احتياجاتنا اليوميَّة، لأنَّ الله قادرٌ أن يهبنا الموارد الروحيَّة لنسير في موكب النصر.
2. الحياة الروحيَّة الَّتي تلقَّيناها: صلَّى بولس ليختبر المسيحيُّون بصفةٍ شخصيَّة قوَّة الله العاملة فيهم، واستخدم كلّ الكلمات الممكنة لوصف قدرة الله العظيمة المتاحة للمؤمنين. فهم مملوؤن بقوَّة الله الفعَّالة. هذه القوَّة نفسها الَّتي أقامت يسوع من بين الأموات، أعطت الحياة حيث كان الموت، وأعطت القدرة حيث كان الضعف، وأعطت النَّصر حيث كانت الغلبة، وأعطت الفرح حيث كانت خيبة الأمل.
3. تمجيد من نَخدمه: ما من "قوَّةٍ" أو "سلطانٍ" أو "رئاسة" أو "سيادة" لا يكون يسوع فوقها. عندما نرى كم هو عظيمٌ الرَّبّ الَّذي نخدمه، ونفهم أنَّ الله قد وضعنا فيه، فذلك يعطينا ثقةً كبيرة بما عمله الله لنا، لأنَّ جميع موارد السماء هي لنا.
وعليه، نجد في صلاة بولس عاطفةً أبويَّة تجاه أولاده الَّذين ولدهم في الإيمان. وهذه العاطفة القويَّة ترجمها بولس صلاةً وتعليمًا لكي يحصّن أبناءه تجاه صعوبات مسيرتهم المسيحيَّة. لذا، مع المفاهيم الثلاثة الَّتي بينَّاها أعلاه، ذكر بولس في رسالته الفضائل الإلهيَّة الثلاث: الإيمان، والمحبَّة، والرجاء.
"إيمانكم بالرَّبّ يسوع": الإيمان كنعمة من الله، والانسان بدوره يجيب على هذه النعمة بكلّ وعيٍ وحريَّة؛ "محبَّتكم لجميع الإخوة": لا يتوقَّف الإيمان عند الإعلان عنه. فعندما نعيش إيماننا في علاقتنا بالرَّبّ يسوع بعمقٍ حقيقيّ، يُثمر هذا الإيمان ثمار المحبَّة بين الإخوة. لذلك، فإنّ المحبَّة المتبادلة هي ثمرة الإيمان وعلامة لكلّ مسيحيّ؛ "رجاء دعوته": الإيمان والمحبَّة بحاجة إلى من يثبّتهم ويدعمهم. وهذا هو دور الرجاء في المسيرة الروحيَّة. رجاؤنا مرتكزٌ على شخص يسوع المسيح ودعوته، وهذا هو خلاصنا. فنحن نؤمن بأنَّه ابن الله المتجسّد، وبأنَّه مات لأنَّه "أحبَّ خاصَّته إلى الغاية" (يو 13: 1)؛ ولأنَّه قام من بين الأموات، فإنّ لنا كلّ الرجاء بالحياة الأبديَّة معه.


تحميل المنشور