كَسر الكلمة - الرسائل -27- أحد شفاء الأعمى

كَسر الكلمة - الرسائل -27- أحد شفاء الأعمى

أحد شفاء الأعمى 
(2 قور 10: 1-7)
1 أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ الـمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا الـمُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والـجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا.
2 وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين.
3 أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الـجَسَد، ولـكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛
4 لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلى هَدْمِ الـحُصُونِ المَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الـخَاطِئَة،
5 وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ الله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ الـمَسِيح.
6 ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم.
7 إِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى الـمَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.

مقدّمة
في هذا الأحد السادس من الصوم الأربعينيّ المقدّس، نحن على مقربة من الوصول إلى ميناء الوعد، ميناء الخلاص والسلامة، الأمان والقيامة. يدعونا فيه أعمى أريحا إلى قفزةٍ نوعيّة معه باتّجاه المسيح، وليذكِّرنا بقصّة إيمان كلّ واحدٍ منّا حتّى نستطيع بدورنا، لا بل حتّى يحقّ لنا، أن ندخل معه في آلام مجده، لكي يضيء نوره قلوبنا، وتُشرق معرفة مجد الله، ذلك المجد الذي على وجه المسيح (2 قور 4: 6).
في رسالته الثانية إلى أهل قورنتس، ينبّه الرسول بولس إلى أنّ حياة الإيمان هي جهادٌ دائم وصراعٌ ضدَّ الأفكار الخاطئة، وعصيان الله، والتشامخ عليه وعلى معرفته. لذا، على المؤمن أن يجهِّز نفسه لا بقوَّة الشَّريعة، بل بقوَّة الإيمان، لأنَّ عيون جهاده "ليست أسلحة جسديَّة"، بل إلهيَّة "قادرة على هدم كلّ الحصون" (2 قور 10: 4) الَّتي تعيقه عن الوصول بها إلى المسيح. وكما ترك أعمى أريحا كلَّ شيءٍ وتبع المسيح، كذلك كلُّ مؤمنٍ تبعَ يسوع، لأنَّه أراد أن "ينظر لا إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى. فما يُرى هو موقَّت، وما لا يُرى أبديّ" (2 قور 4: 18).
يحذّر بولس أيضًا من عمى "الحكم على المظاهر" (2 قور 10: 7)، كي لا يتناقض عمل المؤمن مع صورة الله الَّتي فيه، فيُطلق العنان للأحكام ا لمسبقة وللأفكار السيّئة الَّتي لا تمتُّ للحقيقة بصلة. فالَّذي يدين على أساس المظهر الخارجيّ لا يستطيع مواجهة حقيقة الأمور. لذا، في هذا النصّ من الرسالة الثَّانية إلى أهل قورنتس (2 قور 10: 1-7)، دعوةٌ إلى تطهير النَّظر والسَّير على هَديِ البصيرة.

شرح الآيات
لقد اختارت اللجنة البطريركيَّة للشؤون الطقسيَّة أن تكون رسالة أحد شفاء الأعمى (2 قور 10: 1-7) جزءًا من الرسالة الَّتي شرحناها في الأحد الأوَّل بعد الدنح: إعتلان سرّ المسيح ليوحنَّا المعمدان (2 قور 10: 1-11). لذلك، نعود ونضع بين أيديكم الشَّرح نفسه للآيات، مع تغييرٍ في المقدّمة والخلاصة الروحيَّة اللَّتين تناسبان موضوع أحد شفاء الأعمى؛ وقد اقتضى التنويه والتوضيح، تفاديًا لأيّ تساؤلٍ عن تكرار آياتٍ سبق شرحها، لا سيّما وأنّ الشرح اللَّاهوتي هو نفسه، ولا يمكن أن يتبدَّل ويتعدَّل.  

1 أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ الـمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا الـمُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والـجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا.
الاتّهام الأوَّل الَّذي يطلقه معارضو بولس، يمكن استنتاجه من هذه الآية الأولى حيث كتب هو نفسه: "أنا المتواضع بينكم عندما أكون حاضرًا، والجريء عليكم عندما أكون غائبًا". بالطَّبع، من الممكن أن تُبنى الإشاعات على جرأة بولس في كتاباته إلى أهل قورنتس، خاصَّةً ما ذكره في رسالته الأولى لهم (1 قور 5: 9-11) حول مخالطة الفجَّار. مع ذلك، فإنَّ القَول بأنَّ رسائل بولس كانت شديدة اللَّهجة، فيه خبثٌ، واتَّهامه بأنَّه هزيل لا يدلُّ على صدق نوايا معارضيه: فالَّذين يحاولون تشويه سمعته، يعتبرون أنَّ بولس يقول شيئًا ويفعل شيئًا آخر، أو بالأحرى إنَّه غير منسجِمٍ مع نفسه. غير أنَّ تصرُّف بولس الَّذي يُعرف من بداية الرسالة (2 قور 1: 23–2: 11) كان دافعه الرغبة في التعاون مع أهل قورنتس بدلًا من أن يتكبَّر، ليترك بينه وبينهم مسافة حكيمة لحلّ مشاكلهم بدلًا من أن يزيدها.
وربّما يعود اتّهام بولس بأنَّه هزيل إلى ما قاله لهم قبلًا: "جئتُ إليكم بضعفٍ وخوفٍ ورعدةٍ شديدة" (1 قور 2: 3). زد على ذلك، أنَّه عندمَّا بشَّر قورنتس لأوَّل مرَّة كرز بالمسيح مصلوبًا (1 قور 1: 23؛ 2: 2) من دون اللجوء إلى خطابات الحكمة الدنيويَّة المقنعة (راجع 1 قور 2: 4). لكنَّ التفسير الَّذي عزاهُ خصوم بولس إلى أسلوبه هذا، فيه تحريف: كان بولس، بالنسبة إليهم، رجلًا ضعيفًا!
على الرغم من عِلمه بهذه الشائعات الَّتي رُوّجَت عنه من قِبَل منافسيه، بدأ بولس النصّ بــ "وداعة المسيح وحلمه" (2 قور 10: 1؛ راجع أيضًا فل 2: 1)؛ كلمتان مترادفتان، تحملان باللغة اليونانيَّة (praútetos kai epieikeías) معنى "التواضع والغفران". وبالتَّالي، فهو يُجيب ضمنيًّا على انتقادات خصومه مُتَّخذًا موقف المسيح نفسه الَّذي "أخلى ذاته" (فل 2: 8) و"افتقر من أجلهم" (2 قور 8: 9). ومع ذلك، حتَّى ولو كان تواضع بولس على مثال المسيح، فقد اعتبرَه المعارضون حقارةً. 

2 وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين.
3 أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الـجَسَد، ولـكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛
4 لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلى هَدْمِ الـحُصُونِ المَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الـخَاطِئَة،
5 وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ الله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ الـمَسِيح.
6 ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم.

هو اتّهامٌ آخر وجّهه البعض لبولس أنَّه "يسلك سلوكًا جسديًّا" (2 قور 10: 2)، أي وفق معاييرَ محض بشريّة، أساسها الأنانيَّة. يعترف بولس بأنَّه إنسانٌ ضعيف لا يزال "يعيش في الجسد" (2 قور 10: 3)، ولكنَّه يُبرهن لهم أنَّ الأساليب الراعويَّة الَّتي يستخدمها "ليست جسديَّة"، لأنَّها مبنيَّة على "قدرة الله" (2 قور 10: 4؛ راجع أيضًا فل 4: 13).
يصف بولس الخدمة الرسوليَّة كقتالٍ ضدَّ "حصون العدوّ" (2 قور 10: 4)، ويوضح أنَّ "أسلحته" تهدم وتبني في الوقت نفسه. فمن جهة أولى، إنّ الوسائل الراعويَّة الَّتي يستخدمها قادرة على كلّ ما يحول دون معرفة الله (2 قور 10: 4-5). ومن جهةٍ أخرى، تستطيع هذه الأسلحة أن "تأسر كلَّ فكرٍ لطاعة المسيح" (2 قور 10: 5). على أيّ حال، يدرك بولس أنَّ أسلحته فعَّالة بفضل "القدرة الإلهيَّة" (2 قور 10: 4؛ راجع أيضًا 1 قور 1: 18، 24)، لدرجةٍ أن "تهدم الأفكار الخاطئة" المتعارضة مع الوحي الإلهيّ، والَّتي يبثُّها المعارضون في كرازتهم بالإنجيل. وتزداد أهميَّة إعلان بولس هذا في مواجهة الوسط الثقافيّ اليونانيّ-الهلّينيّ في قورنتس، حيث كان بعض المسيحيّين مفتونين بالحكمة البشريَّة، ومتردّدين في قبول "حماقة" (moría) صليب المسيح (راجع 1 قور 1: 17-25) الَّذي يكرز به بولس.
من بين العوائق الَّتي اعترضت الكنيسة أيَّام بولس كان التبشير "بمسيحٍ مختلف" و"روحٍ مختلف" و"إنجيلٍ مختلف" مقارنةً بما بشَّر به بولس أثناء إقامته في قورنتس (راجع 2 قور 11: 4). من المحتمل أن يكون بولس قد لـمَّح في هذا الإطار إلى البدع الَّتي نشرها "الرسل الكذبة" (2 قور 11: 13)، وهو مستعدٌّ "لمعاقبة كلّ عصيان" (2 قور 10: 6). لذلك، يذكّر بولس كنيسة قورنتس بواجب طاعة المسيح (2 قور 10: 5)، وبالتَّالي، يذكّر نفسه كونه "رسول المسيح يسوع بمشيئة الله" (2 قور 1: 1). 

7 إِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى الـمَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.
بعد أن طلب بولس من أهل قورنتس الطاعة لله، اضطُرَّ إلى أن يُشير إلى سمَتَين أساسيَّتَين لسلطته الرَّسوليَّة: مصدرها الإلهيّ، "السلطان الَّذي وهبه الرَّبُّ لنا"، وغايتها الرَّسوليَّة "لبنيانكم لا لهدمكم" (2 قور 10: 8). فبإعادة التأكيد على سلطته الرَّسوليَّة يستبعد بولس كلَّ اجتهادٍ شخصيّ بشريّ. في الواقع، إذا كان بولس قد عرَّف عن ذاته في مستهلّ الرسالة، على أنَّه "رسول المسيح يسوع" (2 قور 1: 1)، فهو يؤكّد الآن أنَّه ينتمي إلى المسيح، على الأقلّ بالطَّريقة نفسها الَّتي يدَّعي بها الآخرون أنَّهم للمسيح (2 قور 10: 7). ليس هذا وحسب، بل بالعودة إلى ادّعاء خصومه أنَّهم "خدَّام المسيح"، يُعلن بولس تفوقّه عليهم: "أقول كمن فقد صوابه: أنا أكثر!" (2 قور 11: 23).
انطلاقًا من هذه التفاصيل الَّتي يعرضها بولس، فسَّر البعض أنَّ ادّعاء خصوم بولس بأنَّهم "واثقون بأنفسهم أنَّهم للمسيح" (2 قور 10: 7)، قد يكون مُستمدًّا من المعرفة المباشرة ليسوع التاريخي، وقد حُدّدوا بأتباع المسيح الَّذين عارضوا مجموعاتٍ أخرى في كنيسة قورنتس المشار إليها ببولس وأبلُّوس وكيفا (راجع 1 قور 1: 12).
علاوةً على ذلك، فقد أجاب بولس سابقًا على ما يخصّ أيَّ ادّعاء لخصومه مؤسَّسٍ على معرفتهم المباشرة ليسوع التاريخيّ، إذ قال: "منذ الآن لا نعرف أحدًا معرفةً بشريَّة، وإن كنَّا قد عرفنا المسيح معرفةً بشريَّة، فالآن ما عدنا نعرفه كذلك. إذًا، إن كان أحدٌ في المسيح فهو خلقٌ جديد" (2 قور 5: 16-17). بعبارةٍ أخرى، انتماء بولس للمسيح (2 قور 10: 7) وممارسته لرسالته المسيحيَّة (2 قور 11: 23) يؤسَّسان بالدرجة الأولى على لقائه بالمسيح القائم على طريق دمشق. لذلك، يمكنه أن يطالب بحقّ السلطان الَّذي منحه إيَّاه المسيح القائم من بين الأموات (2 قور 10: 8؛ راجع أيضًا 13: 10).

خلاصة روحيَّة
مع اقتراب نهاية مسيرة الصوم وبدء مسيرة جديدة مع الرَّب يسوع إلى أورشليم، حيث الآلام، والموت، والقيامة، يعطينا الرَّسول بولس نصائح عمليَّة تقينا من الوقوع في العمى:
1. لاستقبال يسوع، علينا التحلّي بــ"التواضع" (2 قور 10: 1)، الَّذي لا يُعتبر ضعفًا، بل قوَّةً لأنَّه بابٌ أمينٌ نأتي به إلى الرَّب يسوع؛
2. السُّلوك بحسب إرادة الله الَّتي تعطي "أسلحةً قادرة على هدم الحضون المنيعة" (2 قور 10: 4)، أي هدم: "الأفكار الخاطئة" (2 قور 10: 4)، الَّتي تضلّ المؤمن في مسيرته؛ و"الشموخ الَّذي يرتفع ضدَّ معرفة الله" (2 قور 10: 5)، الَّذي يحدُّ من انفتاح الانسان على الله والآخرين؛ و"الفكر الَّذي هو ضدَّ طاعة المسيح" (2 قور 10: 5)، ويجعل المؤمن يتمرَّد ويبقى على هامش الحياة؛ و"الحكم على المظاهر" (2 قور 10: 7)، وهي من أسوأ العادات.
وثبة الإيمان هي التخلّي والانطلاق خلف يسوع؛  التخلّي عن أفكارنا الخاطئة ومنطقنا المغلوط، التخلّي عن كبريائنا وحسدنا، حقدنا وكسلنا. فاتّباع المسيح يستلزم كيانًا قادرًا على الوثوب كما وثب ذلك الأعمى، كيانًا غير خائفٍ من التغيير، فإن لم نتخلَّ عن ثقل ما نملك، لا يمكننا التتلمذ ليسوع. لأنَّ النعمة الحقيقيَّة ليست استعادة البصر، بل رؤية يسوع مشعًّا في حياتنا، وذاك هو عمل البصيرة.


تحميل المنشور