الرجاء الصالح

الرجاء الصالح

* محاضرة ألقاها الأب إيلي قزي ضمن دورة التنشئة "نؤمن بكنيسة شابّة" من تنظيم راعويّة الشبيبة في الأبرشيّة.

مقدّمة
إنّ الموضوع الذي سأعالجه ليس جديد على مسامعكم، ولا على معرفتكم. لقد تناول المحاضرون السابقون بعض الأفكار التي سأعالجها الليلة، إنّما مقاربتي تختلف نوعًا، لأنّها ترتكز أساسًا على الكتاب المقدّس، دون أن تتجاهل الواقع وجوانبه. ويبدو أنّ كلّ الطرق تؤدّي إلى الطاحون، كما يعلّمنا المثل اللبنانيّ.

********

"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله". آية نقرأها في سفر تثنية الاشتراع الفصل الثامن، وفي الأناجيل الإزائيّة. أودّ أن أقرأ معكم هذه الآية ضمن إطارها الوارد في سفر تثنية الاشتراع:
 "واذكُر كلَّ الطريق التي سَيَّرَك فيها الربُّ إلهُك في البريّة هذه السنين الأربعين، ليُذلّلكَ، ويمتحنَكَ، فيعرف ما في قلبك، هل تحفظ وصاياه أم لا. فذلّلك وأجاعك وأطعمك المنّ الذي لم تعرفه أنت ولا عرفه آباؤك، لكي يعلّمك أنّه لا بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ ما يخرج من فم الربّ يحيا الإنسان... فاعلم في قلبك أنّه كما يؤدّب الرجل ابنه، يؤدّبك الربّ إلهك، فاحفظ وصايا الربّ إلهك لتسير في سبله وتَتّقيه." (تثنية 8/ 1-5).
العلاقة مع الله ليست آنيّة، بل لها تاريخ سابق، ولها حاضر قائم، ومستقبل آتٍ. فالإنسان لا يعيش في الآنيّة فحسب، لذلك فإنّ التذكير يُفَعِّل قيمة الماضي، ويُعطي معنىً للحاضر، ورجاء في المستقبل.
يُذكّر الربّ شعبه بقيمة إنسانيّته، فالحياة هي أسمى من الطعام واللباس، هي علاقة حبّ الله لشعبه، وتحريره من العبوديّة، والسير به نحو الحريّة، ويتّسم هذا السير بالانبساط إلى الأمام، إلى الذي يجهله الإنسان. والإنسان، بطبعه، يخاف من المجهول، لذلك فإنّ الالتزام بالمحبة وبالحريّة هو مغامرة في "المجهول"، إذ لا ضمانات لنتائج سارّة. وحدها كلمة الله يمكنها أن تكون ضمانة. لا تتوجّه كلمة الله إلى عقل الإنسان فحسب، بل إلى قلبه، مّما يولّد لديه صراعًا حقيقيًّا: إلى مَن يُصغي إلى العقل أم إلى القلب؟ يريد الله من الإنسان أن يصغي بعقله وأن يفهم بقلبه.
لا تُبنى المحبّة والحرية بشكل سليم إلّا على "كلمة الله"، لأنّ كلمة الله حياة، والحياة ليست مرهونة فقط بالخبز، بل ببعد نهيويّ، أي أبعد من الجوع والحاجة إلى الطعام، "فملكوت الله ليس أكلًا وشربًا، بل بِرٌّ وسلام وفرح في الروح القدس." (روما 14/ 17).
سأتناول في حديثي موضوع إيمانيّ مسيحيّ، ألا وهو الرجاء. وإن موضوع الرجاء هو نُهيويّ وليس آنيّ، فالإنسان لا يرجو الذي يراه، يقول بولس الرسول في هذا الصدد: "فإنّنا خُلّصنا بالرجاء. والرجاء الذي يُرى ليس رجاءً، فهل يرجو أحدٌ ما يراه؟ أمّا إذا كنّا نرجو ما لا نراه، فالبصبر ننتظره." (روما 8 /24-25). ويسوع نفسه يعلّم أنّ الذي يصبر إلى المنتهى، يخلص (متى 24/ 13).
فما الذي نرجوه لنتوقّعه بالصبر؟ أعود إلى بولس الذي يقول: "إن الخليقة نفسها ستتحرّر هي أيضًا من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله (روما 8 /21). ونحن نعيش في زمن نحتاج فيه إلى توطيد رجائنا بالمسيح الذي أعتقنا "من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله".
سأقسم حديثي إلى ثلاثة مسارات تصاعديّة: يبيّن المسار الأوّل الواقع، وذلك من خلال أعمال مسرحيّة، ويُظهر المسار الثاني بحث الإنسان عن أمل في حياته، وأختم في المسار الثالث: في الرجاء. تتقاطع مضامين هذه المسارات وتتكامل، فتُتَوَّج بفعل سامٍ وهو هبة الله للإنسان: الإيمان والرجاء والمحبّة.

**********

المسار الأوّل: قراءة مسرحيّة للواقع 
قدّم الأخوان عاصي ومنصور الرحباني أعمال مسرحيّة بين الخمسينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي. استقى الرحبانيّان مواضيع مسرحيّاتهما من ثقافة المجتمع وواقعه، وتناولت أكثر هذه المسرحيّات علاقة الحاكم بالشعب، وعلاقة الناس ببعضهم. يمكن التمتّع بالإصغاء إلى هذه المسرحيّات على مواقع التواصل. أنتقي من هذه المسرحيات اثنتين: بيّاع الخواتم، والشخص.
ففي مسرحيّة "بيّاع الخواتم (1964)، يقصّ المختار على الأهالي حكاية كاذبة يبيّن فيها بطولاته الوهميّة ضدّ مجرم اسمه راجح، وينقسم السامعون إلى مُشكّك بكلام المختار، وإلى موافق نافيًا عنه صفة الكذب. وتصاعدت المشادة بين الفريقين حول هذا الموضوع. بعد رحيل الأهالي برّر المختار كذبه أمام ريما ابنة شقيقته بالقول: "الأهالي بدّن حكاية، وأنا خلقتلن الحكاية، تيقولوا إنّي بحميهم من مجهول عليهم جايي."
في سياق المسرحيّة، يستغلّ المشكّكون الوضع ويقومون بسرقة الأهالي وتخريب ممتلكاتهم ويشيعون أن راجح هو الذي يقوم بهذه الأفعال. أدرك المختار أنّ ثمّة أشخاص يستغلّون هذه الكذبة، وإنّما لا هو ولا الـمُستغّلون يستطيعون فضح الأمر، فيعيش الجميع في كذبة بدت وكأنّها حقيقة.
وفي مسرحية الشخص (1968)، يضع الأخوان رحباني العدل على خشبة المسرح. إذ تُتّهم فتاة بريئة، أتت إلى سوق الخضار تجرّ عربة عليها بندروة لتبيعها وهي لا تعلم أنّ ثمّة قرار اتُخذ بإخلاء الساحة لاستقبال "الشخص". وبحكم وجودها في الساحة تقدّمت من الشخص وألقت عليه السلام، وغنّت له. لم يتفوّه الشخص بأي كلمة، إنّما قام مساعده بإعلام منظّمي الحفل أن الشخص مُضطرّ أن يرحل دون أن يتناول طعام الغداء الـمُعدّ له. هنا ألقى الجميع التهمة على البيّاعة، باعتبارها أنّها أفشلت حفل الاستقبال الذي أعِدَّ له بإتقان، ولا بدّ من أنّها تنتمي إلى جهة معيّنة تهدف إفشال الحفل لغاية ما.
تمّ توقيف البيّاعة، وأُخذت إفادتها، إنما عند تلاوة الإفادة تبيّن أنّ مضمونها غير مضمون الذي أدلت به الفتاة. فأوقفت وسيقت إلى السجن لتُحاكم أمام القضاء. وفي مشهد المحاكمة يتآمر الجميع على الفتاة ويحكم القاضي ببيع العربة التي تضع الفتاة عليها البندورة، ويشيد الجميع بالعدل وبالحكم الصادر. بيعت العربة في المزاد بمئة ليرة. وقال البيّاعة بعد ذلك، "لو معي ميّة ما كانوا حاكموني". وفي ختام هذا العمل المسرحي تلتقي البيّاعة صدفة بالشخص وتبيّن لها أنه هو أيضًا مُستهدَف ويخاف أن يخسر كرسيه، والخلاصة أنّ مشكلة الشخص أكبر من مشكلة البيّاعة...
خلاصة: ثمّة مسرحيّة أخرى للرحابنة تلخّص واقع المسرحيّتين اللتين أتيت على ذكرهما، وهي مسرحيّة هالة والملك (قُدّمت سنة 1967). التي تبيّن كيف الجيع يعيش في وجه آخر غير وجهه، والكلّ يكذب على الملك، والملك مخدوع من الجميع.
يبيّن العمل المسرحي محدوديّة الشعب في ضيعته أو في مملكته، إذ يستأنس بأكاذيب يعتبرها حقيقة ويعيش بموجب هذه "الحقيقة" الكاذبة، ويمدح صفات المختار الكاذب ويدافع عنه رافضًا التحقيق بصدق كلامه. كما يبيّن جشع المقتدرين في الحكم وعلى قدرتهم في سرقة حقوق الناس وظلمهم باسم القانون والعدالة، ويتبيّن أن "الشخص" نفسه يخشى على كرسيه، وليس على مصلحة والشعب، وعلى إحقاق العدل. فالحاكم جالس على كرسيّه إنّما يعجز عن الحكم.
يحاكي العمل المسرحي الرحبانيّ حياتنا اليوم. وقصدي من بدء حديثي عن مضمون هاتين المسرحيّتين لأؤكّد أن الذي نعيشه نحن اليوم ليس حديث العهد، بل هو نتيجة تراكم سنوات طويلة، ولا يزال راسخًا في ثقافة المجتمع. ضمن هذا الإطار، يلاحظ الباحث أنّ اللبنانيّين، عمومًا، عرفوا ضمن رقعة بلدهم الازدهار في مجالات عديدة: العلوم، الاقتصاد، التجارة، السياحة... كما يلاحظ أنّ في كلّ فترة يعود هؤلاء، ولأسباب معقّدة جدًّا، يهدمون كلّ ما بنوه ، ثمّ تأتي حقبة "نسيان" فيعاودوا العمران، وتستمرّ الكذبة، ويستمرّ استغلال العدل، وهكذا دواليك...
إنّما الذي يلفت الانتباه أيضًا هو معاناة الكثير من اللبنانيّين في ظلّ هذا الإطار الكبير. منهم مَن يبحث باستمرار عن أمل، ومنهم من يلجأ إلى الهجرة، ومنهم من يتوهّم أحلامًا مبنيّة على إيديولوجيّة واهية. وربّ سائل يسأل: كيف لهذا الشعب المتديّن، و "المتحضّر"، أن يغفل عن بناء ثقافة مبنيّة على أسس ثابتة ومتينة تعطيه أمل بمستقبل زاهر، ورجاء بحياة أفضل في محيط عربي يَحسدُ اللبنانيّين على كلّ ما هم عليه، وعلى كلّ ما عندهم؟ هل أمل اللبنانيّين مبنيّ على وَهْم، وموضوع رجائهم ليس إلّا خيبة؟
إن الأمل والرجاء لا يتحقّقان كأمنية يتمّناها المرء فيجدها، بل في بذل جهد للبحث عن وسائل تساعد في الوصول إليهما وتحقيقهما.
لغويًّا قد لا نفرّق بين الأمل والرجاء، وقد لا تختلف هاتان العبارتان في مضمونهما، إنّما بموجب الإيمان المسيحيّ إنّهما تختلفان في منهجيّتهما أكثر من مضمونهما. ففيما يقوم الأمل على مجهودنا كأشخاص وعلى قدراتنا النفسيّة والعقليّة والذهنيّة الخ... يقومُ الرجاء على هبة أو عطيّة الله للإنسان. يرتبط الرجاء بشكل مباشر بالإيمان، لذا نطلق على الرجاء صفة "الصالح"، لأنّ الرجاء دون الإيمان يكون رجاءًا مُخيّبًا.
إنّ الأمل والرجاء يحفذّان الإنسان، ويعطيانه جرعة قويّة لخوض مغامرات الحياة، فالواقع القائم ليس ما نرجوه، فالإنسان مشدود دائمًا إلى الأمام، إلى أبعد مّما يراه ويختبره هنا والآن. يُبنى الأمل على الأفضل، على الأحسن، لذلك يُعتَبَر الموت بمثابة صدمة تكبح ما نترقّبه وننتظره. بينما الرجاءُ يدعو المؤمنين بالمسيح أن يكونوا في هذا العالم دون أن يكونوا منه، حتّى ولو كان لهم في العالم ضيق (يوحنا 16/ 33)، لأنّ حزنهم سيتحوّل إلى فرح، ولا ينزعه أحدٌ منهم، ولأنهم يثقون أنّ المسيح غلب العالم (يوحنا 16/ 20، 22، 33)، لذلك فإن الرجاء هو فضيلة مُحفّزة للفرح الذي دُعيَ المؤمنون إليه، ومضمون هذا الرجاء يتخطّى حدود هذا العالم، فالموت لا يحدُّه، ولا يُقصيه، لهذا أعتبر أنّ الرجاء، هو أسمى من الأمل.
بالمختصر: إنّ الأمل والرجاء ضروريّان للحياة، يكمّل الواحد الآخر، وإنّ صلب مضمون الأمل والرجاء هو حياة أفضل، و "مُرتجى" أبعد من واقع الموت. لذلك فإنّ كلّ ثقافة تُبنى على هذا الـمُعطى، تكون ثقافة تسير في طريق سليم، مبنيّة على الحقّ، وتعمّ فيها الحياة. هذا ما علّمنا إيّاه يسوع، بحسب إنجيل يوحنّا: "أنا الطريق، الحقّ، والحياة".
سأتكلّم عن الأمل والرجاء كمُعطيين تُبنى عليهما ثقافة الإنسان، ورؤيته لذاته وللوجود. وسأقسم حديثي إلى قسمين أبدأ بخبرة شحصيّة لشخص سويسري (Alexandre Jollien) تعلّم معنى الوجود من بحث شخصيّ حثيث متحدّيًا كلّ نمطيّة المجتمع المتحضّر الذي يعيش فيه. وقسم ثاني أستقيه من الكتاب المقدّس بالأخصّ من تعاليم بولس الرسول.

**********

المسار الثاني: الأمل في حياة وكتابات أَلِكْسُنْدر جوليان Alexandre Jollien
لقد اخترت ألسكندر جوليان لسببين: أوّلًا: لأنّه ينتمي إلى مُجتمع أوروبّي مغاير لمجتمعنا الشرق أوسطيّ، ورغم ذلك سنلاحظ أنّ محدوديّة الإنسان وضعفه هما عابران للثقافات والأديان. وثانيًّا لأنّ جوليان وجد ذاته في الفلسفة وليس في الدين، ويُعرّف عن نفسه كفيلسوف، وله مؤلّفات عديدة موضوعة على صفحته الالكترونتيّة، إذ يعرض فيها فكره الفلسفيّ والوجوديّ.
ولا بدّ أن أنوّه أن لدينا في لبنان نماذج مماثلة لاختبار ألكسندر جوليان وهي ناجحة جدًّا. أذكر على سبيل المثال لا الحصر، أنطوني نحّول، وخبرة إيفون الشامي، والعديد من الشبّان والشابات، في مؤسّسة أنت أخي.
أبدأ بالتعريف بالكسندر جوليان أوّلًا: ولد جوليان سنة 1975، وهو يُعاني منذ ولادته بمرض يُعرف بالـ Athétose وهو مرضٌ عصبيّ، يمنع الـمُصاب التحكّم بأطرافه، وبحركاته العفويّة. أصيب ألكسندر بهذا المرض بسبب التفاف حبل الصرّة حول رقبته وهو بعد جنين، فقُطع الأوكسجين عن دماغه. نصح الأطباءُ والديه أن يضعوه في مؤسسّة خاصّة تُعنى بأطفال أمثاله، وهكذا صار، حيث قضى مدّة سبعة عشر عامًا يصفها جوليان بالتالي. منذ عمر الأربع سنوات وأنا أخضع لعلاجات: فيزيائيّة، حركيّة، ونطقيّة، تهدف كلّ هذه العلاجات لتصحيح المخلوق الغريب الذي أنا عليه.
نعم يُقرُّ ألكسندر جوليان أنّه مخلوق غريب وذلك بالنسبة إلى باقي الناس الذين يسمّيهم بالـ "طبيعيّين" أو "العاديّين"، إذ هو بالنسبة إليهم "غير طبيعيّ" أو "غير عاديّ". وتعريفه بالطبيعي أو العاديّ بالقول: هو ما يتوافق مع غالبية أو متوسط الحالات أو الاستخدامات؛ ما هو معتاد، مألوف".
نعم ألكسندر هو غير عاديّ لأنّ صبيًّا في عمر الثانية عشرة من عمره يتكلّم، ويسير ويتصرّف بشكل عاديّ، كذلك يستطيع تناول طعامه بشكل عاديّ، وهو الأمر الذي لم يكن هو عليه. وبحسب قوله: إنّ نظام حياتنا في المؤسّسة، يقوم على بذل جهود كبيرة، وأحيانًا مستحيلة، لنتقدّم ولنصبح عاديّين. وهذا أمر غير طبيعيّ لأشخاص مثلي.
بالمختصر إنّ حياة جوليان ومصيره هما رهن هذه المؤسّسة التي تُعنى به وبرفاقه باحتراف. فهي لم تعلّمه فقط أن يكون طبيعيًّا، بل ساعدته أن يمتهن حرفة تصنيع علب السيجار. وقد حُدّد مصير جوليان أنّه سيكون مُصنِّع علب سيجار، وأقنعه المسؤولون بقبول هذا الأمر كأفضل وسيلة له لكسب العيش ولو بشكل جزئيّ.
للوصول إلى هذا الهدف كان لا بدّ من تحفيز الإرادة لديه، ومن الكفاح المتسمرّ. نعم، يقول جوليان، لديّ الإرادة إنّما هذه الإرادة قد تخذلني وتمنعني من النظر إلى واقعيّة حالتي. يريدونني أن أنجح (في استعمال أعضائي وترويضها) ولكن غالبًا ما أرى ذاتي أفشل.
يقيّم جوليان الجهود التي بذلتها المؤسّسة بالقول: يقوم عمل المؤسّسة على جعلنا مثل الآخرين: طبيعيّين وعاديّين، لا لمساعدتنا في قبول إعاقتنا، والعيش معها بسلام، والتعبير عن أنفسنا بجرأة دون أن نكون مثل غيرنا. لا يسعنا أن نصف الجهود التي بذلها العاملون المحترفون معنا لنصبح أفضل، ولنتقدّم في أدائنا، إنّما لم نشعر معهم بإنسانيّتنا، ولا بإنسانيّتهم، فهم تعاطوا معنا بصفتهم المهنيّة الاحترافيّة فقط. بينما تعلّمتُ العطف، والصبر، والتضامن، والحبّ وباقي القيم الساميّة من ضعف رفاقي ومحدوديّتهم. تعلّمت قبول حالتي لأنّنا كلّنا نعاني من إعاقات مختلفة، بعضها يحاكي إعاقتي وبعضها أصعب منها.
يضيف جوليان: تلقّيت تربيتي من رفاقي، بالأخصّ من جيروم (الذي لا يستطيع النطق، ويعاني من محدودية الحركة)، ساهم رفاقي بطريقتهم الخاصة في الكشف عن عظمة الإنسان الذي أنا هو، وذلك ليس من خلال بعض أعمال جزئيّة قاموا بها، ولكن بحكم كونهم أنفسهم. بالمقابل سعى علماء النفس معي جهود كبيرة ليغرسوا فيَّ رؤيتهم للأمور من خلال خطب طويلة ومدروسة بإتقان، إنّما لم يُتقنوا ما فعله بي جيروم، من خلال وجوده فقط. أجبرني جيروم على التغلغل: في تاريخي، في نقاط ضعفي، في إنسانيتي. عندما كان يريد أن يسألني كيف حالي، أراد جيروم ببساطة أن يعبّر لي أنّه سعيد بوجودي، وأنه هو سعيد بوجوده، على الرغم من طبيعة حياتنا التالفة. جيروم نزل إلى أعماق الواقع، ليستوعبها بأكملها. وأظهر لي أنّه علينا أن نرتوي من اختبارنا المعيوش، من ضعفنا. لا أحد من المربّين علمّني ذلك.
مُلخّص القول: في حين أن ألكسندر جوليان يبحث عن ذاته كإنسان، وجد نفسه بين أيدي لا ترى فيه سوى جسدًا يجب ترويضه ليكون كالآخرين: طبيعيًّا وعاديًّا، فيعيش في المجتمع مثل جميع الناس. إنّما لا ينفي جوليان فضل المؤسّسة فيما توصّل إليه من النطق، والوقوف والسير، والتعلُّم، وغير ذلك...
يعيش ألكسندر جوليان صراعًا مزدوجًا: صراع ترويض الجسد وتحسين وضعه للعيش بشكل طبيعيّ، وصراع روحيّ، عقلانيّ لاكتشاف سَبْرَ غنى البعد الإنسانيّ الموجود في أعماق ذاته. وجد هذا الصراع المزدوج قيمته في الدروس الفلسفيّة التي تلقّاها بعد اكتشافه، صدفة، كتابات سقراط وبالأخص عبارته الشهيرة: "إعرف نفسك"، وهنا بدأت الرحلة الجديدة في حياته التي لم يتوقّعها أحد.
عرف جوليان من خلال الفلسفة أنّه يملك الجوهر، يقول: بطريقة ما، ساقتني إعاقتي إلى سلوك طريق الروحانيّة، إلى حتميّة البحث عن معنى، حتميّة الولوج إلى الأساس: إلى الجوهر. قد لا أحظى بحياة خالية من الهموم، أو حياة عاديّة مثاليّة، لكنّي حظيتُ بالجوهر، وهذا يكفي.
إنطلاقًا من هذا الأمر أصبحت الحياة اليوميّة بواقعها خزّانًا يغرف منه جوليان معانٍ لحياته مزوّدة بالفرح والحبّ. بعد دروسه تزوّج وأنجب ثلاثة أولاد. وهو يصف ذاته بالقول: أنا إنسان ذو حاجات خاصّة، متزوّح، وفيلسوف.
أعرض ناحية واحدة من فكره حول الفرح، يقول: "المقارنة" هي الأمر الذي يزيد الألم، ويزرع النقص في الذات. تتصّف طريقة حياتي أن أقبل، أو بالحري، أن أرحّب بكياني بأكمله، دون أي أرفض أي شيء منه. أن أتمسّك بالجمال، وبالفرح، حيث يتواجدان: في جسدي، في كياني، في هذه الحياة وليس في حياة وهميّة مثاليّة أحلم بها. يكمن الفرح في الحياة اليوميّة، في تفاهتها. اهتديتُ إلى هذا كلّه عندما توقّفت عن التساؤل: ما الذي أحتاجه لأكون فرحًا. وأصبحت أسأل نفسي كيف يمكن أن أكون فرحانًا هنا والآن؟ ساهم هذا التغيير الجذري رؤيتي للأمور، لأنّ الواقع بسيط للغاية، إنّما تحجبه بعض المقولات الرائجة. هذا ما تعلّمته من كتابات الفلاسفة، والتي ألجأ إليها باستمرار.
لكي يحبّ الحياة كما هي عليه، تعلّم الاستسلام، لا المقاومة. تعني المقاوة رفض الذات والهروب منها، وذلك بناءً على نماذج فكريّة نمطيّة paradigmes رائجة في المجتمع. ولاحظ أن متطلّبات العيش في الاستسلام أصعب بكثير من الجهد في المقاومة، فالاستسلام يجعل اإلإنسان أن يرى الأمور بواقعيّتها، وأن يقبلها كما هي عليه، لا كما يريد الآخرون أن نراها : "التحسّن الحقيقي لا يقوم على الجهد، ولكن على التخلي، ليس على نقاط قوتنا، ولكن على نقاط ضعفنا، وليس على التضحية، ولكن على الفرح."

الخلاصة
استعرضت بعض نقاط سريعة من كتابات ألكسندر جوليان لأستخلص التالي:
• لا يختار الإنسان حالته، صحّته، وضعه الاجتماعيّ... إنّما يستطيع أن يجد معنًى لحياته من خلال طُرق يجهلها أو يتجاهلها الآخرون.
• نظرة الآخرين النمطيّة لما يُسمّى "طبيعيّ، عادي" تحوي رفضيّة لكلّ ما هو مغاير ومختلف. وتفرض النمطيّة أن يُماثل الشخص ظاهريًّا باقي الناس.
• يحدّ المجتمع (أحيانًا) طموحات الشخص ومقدّراته، ضمن ثقافة نمطيّة باعتبار أنّ هذا الأفضل له وللمجتمع.
•  بينما يزرع الأمل في الإنسان قدرات هائلة، قد يُجهضها المجتمع بفعل جهل.
• الأمل يُحفّذ الإنسان في رؤية ذاته أبعد مّما هي عليه هنا والآن. فهو يرفض "كذب المجتمع"، إنّما لا يستغلّه، بل يذهب إلى جوهر الأمور بصدق وشفافيّة.
• الأمل الواهم هو ثقافة سائدة في مختلف أنحاء العالم، لا بدّ من بذل جهد مستدام في إعادة النظر في الثقافة الإنسانيّة.

**********

المسار الثالث: بالرجاء خُلِّصنا
وجد جوليان معنىً حقيقيًّا ونهائيًّا لحياته بعد معاناة جسديّة، وشخصيّة، ووجوديّة. بينما في الرجاء، هبة الله للذي يؤمن به وبكلامه، تبدأ معاناة المؤمن مع "الكلمة"، وفي استقراء مشيئة الله في مجريات الحياة اليوميّة، والمخاطرة الصامتة في هذا الاستقراء. هذا ما تُطلعنا عليه إناجيل الطفولة: بشارة زكريّا، وبشارة مريم، والبيان ليوسف،... فلا زكريّا ولا مريم ولا يوسف كانوا يستنظرون الذي حدث معهم، لذلك كان لا بدّ للملاك أن يقول لكلّ منهم: "لا تخف، لا تخافي"، وكذلك قالها للرعاة: "لا تخافوا". الخوف ينفي الأمل، يمحو الرجاء. الخوف يدمّر الحياة. والحياة كما يمنحها الله، تُبنى على هبة الذات بمجّانيّة، لأنّ المجانيّة هي ثمرة المحبّة.
ليس لكلّ إنسان استعداد كافٍ وناضج لخوض غمار الحياة كما يريدها الله، لأنّ هذه البشارة تخرج على مألوف الشرائع والقوانين القائمة والأعراف السائدة، والثقافة النمطيّة. إنّ الذين قبلوا بشارة الملاك، قبلوا في الوقت عينه الـمُجازفة بحياتهم، بسمعتهم، بمصيرهم... وذلك لخير الشعب كلّه. 
لا ضمانة لهؤلاء الأشخاص سوى الإيمان بصدق الكلمة التي سمعوها، لأن الذي يخاطبهم صادق، هذا من جهة. ومن جهة ثانية لأنّ مضمون البشارة لا يعنيهم وحدهم كأشخاص، بل يعني الشعب كلّه. ففي بشارة زكريا قال الملاك عن يوحنّا: "سيكون عظيمًا في نظر الربّ... ويردُّ كثيرين من بني إسرائيل إلى الربّ إلههم..." (لوقا 1 /15-16)، كذلك في بشارة مريم قال الملاك عن يسوع: "وهو يكون عظيمًا وابن العليّ يُدعى، ويُعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه، فيملك على بيت يعقوب إلى الأبد." (لوقا 1 /32-33). وكذلك أيضًا قال الملاك للرعاة: "ها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون للشعب كلّه" (لوقا 2/ 10).
إنّ خير الشعب وفرحه ليس آنيًّا بل هو مشروع الله الذي سيتحقّق رويدًا رويدًا في الزمن. لكن في الزمن الحاضر، يبدو أن مشروع الله ضربٌ من الوهم غير قابل للتصديق: فمريم لا تستطيع أن تعلن عن حبلها من الروح القدس فلا أحد يستطيع قبول هذا الإعلان. ولا يستطيع الرعاة إكراه الناس على تصديق ما سمعوه وهو أنّ الـمُخلّص يولد طفلًا مُقمّطًا، ومُضجَعًا في مذود. (لوقا 2/ 10-12). بالمقابل يصف لوقا ردّات الفعل بالقول: وجميع الذين سمعوا، تعجّبوا. (لوقا 2/ 18)، "وكان كلّ مَن سمع بذلك يحفظه في قلبه (لوقا 1/ 66، 2/ 51).
وإن شئنا تطبيق الشريعة على هذه الأحداث لكان انتصر عمل الإنسان على عمل الله. لذلك فإن الاختبار الروحيّ العميق والأصيل يقوم على الصمت والمعاناة بالسرّ مع كلمة الله، وحفظ الأمور في القلب، وهنا تبدأ رحلة التمييز، لكي يكون قبول كلمة الله وعمله وفهمهما والتجاوب معهما حقيقة وليس وهمًا. وفي هذا المجال تسقط النمطيّة، وتسقط "الأكاذيب"، لتحلّ محلّها حقيقة الله. إنّ حقيقة الله حماقة عند الناس، كما عبّر عن ذلك بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس (2/ 14، و3/ 18). نعم إنّ الاختبار الروحيّ المبنيّ على الإيمان، والقائم على الرجاء هو حماقةٌ، لأنّه يستند على عمل الروح القدس الذي "يعلّم" الكنيسة والمؤمنين، وهو يصلّي فيهم "بأناة لا توصف". والروح يهبّ حيث يشاء وكيفما يشاء، لا كما يحدّد له ذلك أحد آخر.
إن استعرضنا مشهد صلب يسوع وموته، لقلنا أنّ بيلاطس، ورؤساء الكهنة اليهود، انتصروا على يسوع وعلى كلّ ادّعاءاته المخالفة للشريعة وللتقليد اليهوديّ، وانتصارهم هو انتصار الحقّ وسلامة المجتمع وخيره. نعم إنّ قوّة القيّمين على الوضع القائم ترفض الثورة عليه، وترفض تغييره، وذلك استنادًا إلى قوانين وشرائع واضحة، وبحجّة خير الشعب كلّه. لا يرفض رؤساء اليهود خلاص الله لشعبه، إنّما يبغون تحقيقه على طريقتهم وبموجب نمط فهمهم وإرادتهم، لا كما يريده الله. كذلك اعتبر بيلاطس أنّ خير الأمّة يكون بانتمائها الدائم إلى الامبراطوريّة الرومانيّة، حاضنة الحضارة والتسامح الدينيّ، وليس كما يريده رؤساء اليهود بعنفهم وباسقلالهم عن الإمبراطوريّة.
أمام هذا الواقع لا بدّ من إعادة قراءة الأحداث! هل بشارة زكريا، وبشارة مريم، وبشارة الرعاة كانت فعلًا كما قال الملاك هي مناسبة فرح عظيم يكون للشعب كلّه، وأن المولود هو مخلّص، ويملك على عرش داود أبيه؟
لم تكن هزيمة يسوع على الصليب حدثًا فرديًّا، بل هي هزيمة كبرى أيضًا لتلاميذه ولكلّ الذين خاطروا وتركوا كلّ شيء وتبعوه، فبصلب يسوع خسر هؤلاء كلّ شيء، وخُذلوا. هذا ما عبّر عنه تلميذي عمّاوس عند مغادرتهما أورشليم، لقد قالا عن يسوع: "كان رجلًا نبيًّا قديرًا بالقول والفعل، قدّام الله والشعب كلّه، وكيف أسلمه أحبارنا ورؤساؤنا ليُحكَم عليه بالموت، وكيف صلبوه! وكنّا نحن نرجو أن يكون هو الذي سيفدي إسرائيل." (لوقا 24/ 19-21). إنّ رجاء التلميذين مبنيّ على مفهوم خاطئ لفداء إسرائيل.
إنّ لقاء يسوع بتلميذي عمّاوس وسيره معهما، وظهوره المتكرّر للتلاميذ بعد القيامة، كان يهدف إلى تصحيح قراءة التلاميذ للحدث، وذلك بناءً على الكتب المقدّسة نفسها التي استند عليها رؤساء اليهود ليحكموا على يسوع بالصلب. يمكننا من جرّاء ذلك لفت الانتباه إنّ قراءة الكتب وفهمها قد يؤدّيان إلى الضلال إن لم تُقرأ هذه الكتب بهدي الروح القدس وتعليمه.
ألا نجد هذا الأمر عينه في إنجيل التجربة؟ فبعد أن أكمل يسوع صيامه، توجّه الـمُجرّب إليه مُستعينًا بكلمات الله الـمُستقاة من الكتب المقدّسة، وكانت أجوبة يسوع، على كلام الـمُجرّب، مُستقاة هي أيضًا من الكتب عينها. يكمن خطر فهم الكتب، واستقراء حقيقة كلام الله، وعمله الخلاصيّ، في اجتزاء هذا الكلام، لاستعماله لغايات غير تلك التي يبغيها الله.
عاش تلميذي عمّاوس، كما بقيّة التلاميذ، خيبة أمل كبيرة، لأنّهم توقّفوا عند حدث يوم الجمعة، ولم يكملوا مسيرتهم ليروا حدث يوم الأحد. الخيبة تدعو الإنسان إلى الوقوف وقفة نهائيّة أمام المأساة (هذا الذي رفضه ألكسندر جوليان). بينما الرجاء يدعو المؤمن إلى الانطلاق نحو فجر الأحد، نحو القبر الفارغ. وهذه معاناة جديدة، في انطلاقة جديدة: كيف يمكن تصديق إعلان قيامة يسوع من الموت، ولم يسبق لأحد أن شاهد حدث القيامة؟ الانطلاق نحو فجر القيامة ليس هروبًا من مأساة يوم الجمعة، ولكن هو انطلاقة جديدة مبنيّة على قراءة الكتب من جديد، وعلى انفتاح العينين على حقيقة عمل الله.
يشدّد نص تلميذي عمّاوس على انفتاح العينين، وعلى اضطرام القلب. العينان والقلب عناصر أساسيّة وهامّة في الاختبار الإيمانيّ، وهذا يدلّ على الاتزّان بين العقل والقلب، وعلى مصالحتهما على ضوء كلمة الله. فكلمة الله لا تساوم ولا تحابي وجوه. فهي كلمة حياة. لذلك كان لا بدّ من أن يعود تلميذي عمّاوس أدراجهما إلى أورشليم، أي أن يقوموا بسير معاكس لمسيرتهما من أورشليم نحو عمّاوس. أن يعودا إلى مكان الحدث، مكان الصلب، ليطعّموا حدث يوم الجمعة بحدث يوم الأحد.
الجهد الذي يستطيع بذله المؤمن، هو خلق ثقافة قبول فاجعة يوم الجمعة، والمصالحة مع حقيقتها القائمة على انتصار الرؤساء وهزيمة "ثائر". والانطلاق بهذه الحقيقة لتصحيحها على نور فجر الأحد. القيامة ليست "حقيقة" التلاميذ، إنّما حقيقة حبّ الله للعالم بأسره، فلذلك إن إعلان القيامة هو إعلان للجميع وليس لفئة دون أخرى.
يُبنى إعلان هذه الحقيقة على فعل إيمان ورجاء، إذ يدفع هذا الفعل الإنسان إلى أن يرى الحدث ويقرأه قراءة غير نمطيّة، إنّما دون أن يفرض رؤيته على الآخرين. يشهد المؤمن على حقيقة الرجاء الذي فيه من خلال نضجه في المحبّة، وإلّا تُحَجَّم هذه الحقيقة بإيديلوجيّة واهية، تسقط كغيرها من الإيديولوجيّات.
يبيّن بولس الرسول عظمة سرّ المسيح، وعظمة عيش الكنيسة لهذا السرّ في نشيد المحبّة، في الفصل الثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل قورنتس: "لو كنتُ أنطق بألسنة الناس والملائكة، ولم تكن فيّ المحبّة، فإنّما أنا نحاس يطنّ، أو صنج يرنّ... والذي يثبت الآن هو الإيمان، والرجاء، والمحبّة. هذه الثلاثة وأعظمهنّ المحبة." (1 قورنتس 13/ 1-13).

خلاصة القول: إنّ الرجاء الذي لا يُبنى على الإيمان، والذي لا ينتظم في المحبّة، فهو رجاء مُخيّب، واهم.
أختم بقراءة بعض الآيات من رسالة بولس الرسول في رسالته الثانية إلى أهل قورنتس، وأستودعكم إيّاها لتتأمّلوا بمعانيها:
1/ 8 فلا نريد أن تجهلوا، أيّها الإخوة، إنّ ما أصابنا من الضيق في آسيا، قد أرهقنا إرهاقًا فوق طاقتنا، إلى أن يئسنا من الحياة
1/ 9 لكنّنا حملنا في أنفسنا قضاء الموت، لئلّا نتّكل على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم الأموات.
1/ 10 نعم إنّ مَن جعلنا فيه رجاءنا، سيُنجّينا أيضًا.
2/ 14 "فالشكر لله الذي يطوف بنا على الدوام في موكب النَّصر بالمسيح، وينشر بنا رائحة معرفته الطيّبة في كلّ مكان،
2/ 15 لأنّنا لله نفحة المسيح الطيّبة...
2/ 17 فنحن لسنا كالكثيرين الذين يتاجرون بكلمة الله، بل إنّنا ... في المسيح نتكلّم"
3/ 18 فنحن جميعًا نعكس كالمرآة صورة مجد الربّ بوجه مكشوف، فنتحوّل إلى تلك الصورة عينها، ونزداد مجدًا على مجدٍ، بقدر ما يعطينا الربّ الذي هو الروح.

**********

خاتمة
لا بدّ أن نسأل في الختام، على ما تقوم ثقافة الواقع؟ نتبيّن من خلال العمل الرحبانيّ، أنّها قائمة على "كاذب"، وعلى "مُستغلّ"، وعلى شعب يفرح بكذب الكاذب ويعاني من استغلال المستغلّ. وقد يثور ثمّة أحد على نمطيّة هذا الواقع وعلى رتابته، انطلاقًا من اختلافه، ومن وصفه كغير طبيعيّ، فيبحث عن معنى مختلف للحياة، ولا سبيل له سوى الكفاح السلميّ، الذي يُسمّيه ألكسندر جوليان "الاستسلام" لحقيقة الذات والمصالحة معها، والانطلاق منها من خلال فكر مبنيّ على حكمة راقية، ألا وهي الفلسفة. بينما الرجاء ينكر على الذات محوريّتها، ويرى في "الحقيقة" المحور، والحقيقة لا تُعطي إلّا حياة، وهذه الحياة مبنيّة على المحبّة. وهذه المحبّة هي انفتاح على الآخر، كلّ آخر. لذلك لا تنتهي الأناجيل بحدث القيامة فحسب، بل بإرسال التلاميذ "إلى العالم كلّه" ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها (مرقس 16/ 15). إرسال التلاميذ ليس هجرة، وليس هروبًا من سطوة رؤساء الشعب في اليهوديّة، ولا من تسلّط الحاكم الروماني... الهجرة هي لجوء إلى مجتمع بنى ذاته على قيم اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة أفضل مّما لدى المهاجر. فالمهاجر يتمتّع بما لدى الآخرين دون عناء، ويشترك في بناء ذاته والمجتمع الذي هاجر إليه. بينما الإرسال هو مشاركة الآخر باختبار مبني على إيمان ورجاء، ودعوته إلى المشاركة في العناء للبلوغ إلى مستوى محبّة الله التي وهبها للبشر لكي يخلص كلّ من يؤمن به: "هكذا أحبّ الله العالم، حتّى إنّه جاد بابنه الوحيد، لكي لا يهلك أيّ مؤمن به، بل تكون له حياة أبديّة." (يوحنا 3/ 16).
الشباب اللبنانيّ المسيحيّ مدعوّ بإلحاح إلى نشر هذه الثقافة التي لا تخلو من المجازفة في كلّ شيء، لتبلغ الحياة إلى كلّ إنسان يرى في مجازفتهم "إخلاء الابن لذاته". أدعوكم إذًا إلى عدم الرضوخ إلى ثقافة "النقّاقين" و "المتذمّرين" أو "الصفّاقين"... هذه ثقافة العبوديّة، وليست ثقافة الحريّة، "حريّة أبناء الله".