كَسر الكلمة - الرسائل -14- الأحد الثاني بعد الدنح

كَسر الكلمة - الرسائل -14- الأحد الثاني بعد الدنح

الأحد الثَّاني بعد الدنح: اعتلان سرّ المسيح للرُّسل
(2 قور 4: 5-15)
5 فَنَحْنُ لا نُبَشِّرُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ نُبَشِّرُ بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ رَبًّا، وبِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُم مِنْ أَجْلِ يَسُوع؛
6 لأَنَّ اللهَ الَّذي قَال: "لِيُشْرِقْ مِنَ الظُّلْمَةِ نُور!"، هُوَ الَّذي أَشْرَقَ في قُلُوبِنَا، لِنَسْتَنِيرَ فَنَعْرِفَ مَجْدَ اللهِ الـمُتَجَلِّيَ في وَجْهِ الـمَسِيح.
7 ولـكِنَّنَا نَحْمِلُ هـذَا الكَنْزَ في آنِيَةٍ مِنْ خَزَف، لِيَظْهَرَ أَنَّ تِلْكَ القُدْرَةَ الفَائِقَةَ هِيَ مِنَ اللهِ لا مِنَّا.
8 يُضَيَّقُ عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ ِجهَةٍ ولـكِنَّنَا لا نُسْحَق، نَحْتَارُ في أَمْرِنَا ولـكِنَّنَا لا نَيْأَس،
9 نُضْطَهَدُ ولـكِنَّنَا لا نُهْمَل، نُنْبَذُ ولـكِنَّنَا لا نَهْلِك،
10 ونَحْمِلُ في جَسَدِنَا كُلَّ حِينٍ مَوْتَ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا؛
11 فَإِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسْلَمُ دَوْمًا إِلى الـمَوْت، مِنْ أَجْلِ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا الـمَائِت.
12 فَالـمَوْتُ يَعْمَلُ فينَا، والـحَيَاةُ تَعْمَلُ فيكُم.
13 ولـكِنْ بِمَا أَنَّ لَنَا رُوحَ الإِيْمَانِ عَيْنَهُ، كَمَا هوَ مَكْتُوب: "آمَنْتُ، ولِذلكَ تَكَلَّمْتُ"، فَنَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِن، ولِذلِكَ نَتَكَلَّم.
14 ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ذلِكَ الَّذي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوع، سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا مَعَ يَسُوع، وَيَجْعَلُنَا وإِيَّاكُم في حَضْرَتِهِ.
15 فَكُلُّ شَيءٍ هُوَ مِنْ أَجْلِكُم، لِكَي تَكْثُرَ النِّعْمَة، فَيَفِيضَ الشُّكْرُ في قُلُوبِ الكَثِيرينَ لِمَجْدِ الله.

مقدّمة
بعد أن أعلن بولس عن مجد خدمته، نراه يبرّر نفسُه من الاتّهام الَّذي وجّهَه المعلّمون الكذبة ضدَّه، وضدَّ العاملين معه بأنَّهم مخادعون. ولعلّهم قلبوا الموازين حينما استغلُّوا آلام الرَّسول ومَن معه وضيقاتهم، كدليلٍ على عدمِ رضى الله عليهم، وتخلّي النعمة الإلهيَّة عنهم. لكنَّه في هذا المقطع من الرسالة (2 قور 4: 5-15)، يتكلَّم على العمل الرسوليّ الَّذي من خلاله يشهد ليسوع أنَّه هو المسيحُ المصلوبُ، القائمُ من الموت، غافرُ الخطايا، وديَّانُ الأحياء والأموات. إنَّها الحقيقة الَّتي آمن بها بولس واختبرها، ولم يتوانَ لحظةً عن الاندفاع، بغيرةٍ لا نظير لها، لنشرها. وهذا ما يوضحه في الفصول السابقة لهذا النصّ، مشدّدًا على أنَّ هذا العمل لا يخلو من الصعوبات، على أنَّ نعمة الله الَّتي تُغدَق بكَرَمٍ واستمرار تعزّي من كلّ الشدائد.
هذا ما قد حصل للرسل الَّذين سبقوا بولس، إذ فتحوا قلوبهم للمسيح فملأهم من معرفته بقدر استطاعتهم، ليتحوَّلوا من تلاميذ إلى معلّمين. لقاؤهم بيسوع غيَّر حياتهم وكمَّلها، لأنَّ يسوع يسير بتلميذه إلى العمق، إلى عمق أعماقه حيث ينتظر منه أن يلتقي به ويفتح له أبوابه.

شرح الآيات
5 فَنَحْنُ لا نُبَشِّرُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ نُبَشِّرُ بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ رَبًّا، وبِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُم مِنْ أَجْلِ يَسُوع؛
علامةُ استقامةِ خدمةِ بولس أن يتقدَّم إلى أهل قورنتس "عبدًا لهم" ليكرز بالمسيح لا بنفسه. ما يشغلُ بولس هو تقديم فكر المسيح. فلا يخجل من أن يدعو نفسه doulos "عبدًا"، لأنَّه لا يشتهي أن يكرزَ بحكمته، ولا بقدرته، ولا ببرّه الذاتيّ، بل أن "يبشّر بيسوع المسيح ربًّا".

6 لأَنَّ اللهَ الَّذي قَال: "لِيُشْرِقْ مِنَ الظُّلْمَةِ نُور!"، هُوَ الَّذي أَشْرَقَ في قُلُوبِنَا، لِنَسْتَنِيرَ فَنَعْرِفَ مَجْدَ اللهِ الـمُتَجَلِّيَ في وَجْهِ الـمَسِيح.
يتطلَّع الرسول بولس إلى التمتُّع بـ "الاستنارة" الداخليَّة على أنَّها عمل خلقٍ لن يحقّقه أحدٌ سوى اللهِ نفسِه. بقوله "ليُشرق من الظلمة نورٌ"، يُعيدُ قارئَ الرسالة إلى سفر التكوين حيث قال الله: "ليكنْ نورٌ" (تك 1: 3)، حين كانت الظلمة تغطّي وجه الأرض "فكان نور". هكذا يتطلَّع إلى قلوبنا الَّتي سادتها ظلمة الجهل ليُشرق بنوره الإلهيّ عليها، فتتمتَّع بالمعرفة السماويَّة فتستنير وتنير الآخرين. أمَّا قولُه: "المتجلّي في وجه المسيح"، فيعني أنَّ هذه الاستنارة تتحقَّق بالمسيح، وفيه نتمتَّع بشركة مجده الإلهيّ. 

7 ولـكِنَّنَا نَحْمِلُ هـذَا الكَنْزَ في آنِيَةٍ مِنْ خَزَف، لِيَظْهَرَ أَنَّ تِلْكَ القُدْرَةَ الفَائِقَةَ هِيَ مِنَ اللهِ لا مِنَّا.
لم يبشّر بولس بنفسه لأنَّه عالمٌ أنَّه مجرَّد "آنيةٍ من خزف"، لا قيمة لها في ذاتها، إنَّما في "الكنز الَّذي تحمله" (الإنجيل) وتبشّر به. وردت العبارة اليونانيَّة ostrakínois skeúesin في صيغة الجمع بمعنى "أوانٍ خزفيَّة"، وقد تحمل معنَيَين: أوانٍ من "قواقع" (صَدَف) هشَّة للغاية، أو الخزف الَّذي يُصنع من التراب أو الطين ويُحرَق بالنَّار. مهما كان المعنى، فإنّ عبارة "أوانٍ خزفيَّة" تشير إلى ضعف طبيعة الانسان. والله "يُظهر قدرتَه الفائقةَ" في هذا الضعف؛ لا يهبُ الانسان أمورًا عظيمة وحسب، إنَّما يعطيها للضعفاء.

8 يُضَيَّقُ عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ولـكِنَّنَا لا نُسْحَق، نَحْتَارُ في أَمْرِنَا ولـكِنَّنَا لا نَيْأَس،
أكّد الرَّبُّ يسوع لتلاميذه أنَّه "سيكون لهم في العالم ضيقٌ (يو 16: 33)، وقد واجهَ الرَّسولُ بولس الضيقات "من كلّ جهة"، ولكنَّها لم تقف عائقًا أمامَه ولم "تسحَقْهُ"، بل كانت له فرصةً لاكتشاف "قدرة الله الفائقة" (2 قور 4: 7)، الَّتي عملت في ضعفه، وحوَّلت المرارة إلى عذوبة كي "لا ييأس".
الفعل اليونانيّ aporoúmenoi المترجم هنا "نحتار"، يصف مَنْ يقفُ في حيرةٍ أمام قدرة خصمه المصارع ضدَّه، وهو مغلوبٌ على أمره ولا يعرف ماذا يفعل. هكذا يبدو بولس الرَّسول كمن في حلبة المصارعة وقد وقع بين يدَي خصمه الَّذي كاد يفتك به، وهو يقف في حيرةٍ كمن بلا خبرةٍ أمام خصمٍ قويّ ومدرَّب. مع هذا كلّه "لم ييأس"، لأنَّه بالمسيح سينال الظَّفر.

9 نُضْطَهَدُ ولـكِنَّنَا لا نُهْمَل، نُنْبَذُ ولـكِنَّنَا لا نَهْلِك،
فعل diokómenoi المترجم هنا "نُضطهد"، يُشير إلى من فاته السباق، وصار في المؤخّرة عاجزًا عن اللحاق بالآخرين، وفعل kataballómenoi المترجم "نُنبَذ" يخصُّ المصارع وقد سقط مَلقيًّا على الأرض. فإن كان بولس قد صار في مؤخّرة سباق الجَري، عاجزًا عن اللحاق بمنافسيه أو طرحه العدوُّ المصارع أرضًا، فبالمسيح يسوع يسبق الكلّ، ويقومُ ليغلبَ ويُكلَّلَ.

10 ونَحْمِلُ في جَسَدِنَا كُلَّ حِينٍ مَوْتَ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا؛
11 فَإِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسْلَمُ دَوْمًا إِلى الـمَوْت، مِنْ أَجْلِ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا الـمَائِت.

بما أنَّه تماهى مع المسيحِ، يتكلَّم بولس هنا على آلامه المستمرَّة من أجل حقّ الإنجيل. لذلك، كان يتوقَّعُ الموتَ في كلّ لحظةٍ من لحظات حياتِه. وكما أنَّ المصارعين يحملون في أجسادِهم آثارَ الجراحاتِ والكدماتِ الَّتي تلقَّوها من المنافسين، ويفتخرون بها بعد نوال إكليل النّصر، هكذا يرى بولس آثار الآلام الَّتي "يحملها في جسده كلَّ حين" (2 قور 4: 10)، علامة مجد لأنَّها شركة مع المسيح في آلامه "لكي تظهرَ حياةُ يسوعَ أيضًا في جسدِه" (2 قور 4: 10)، هو الَّذي يعيشُ كلَّ يومٍ خطرَ الموتِ الدَّائم مقدّمًا حياته ذبيحة حبٍّ "من أجل يسوع" (2 قو 4: 11)، الّرَذي يتمجَّد فيه إذ يهبه "حياته في جسده المائت" (2 قور 4: 11).

12 فَالـمَوْتُ يَعْمَلُ فينَا، والـحَيَاةُ تَعْمَلُ فيكُم.
بولس في خطرٍ مستمرّ وهو عرضةٌ للموت، أمَّا أهل قورنتس فيقبلون الإنجيل الَّذي يهبهم الحياة السماويَّة الجديدة. ما يقوله بولس هنا مفادُه أنَّه هو ومعاونُه طيموتاوس كانا مهدَّدَين بالموت. فبسبب كرازتهما للأمم أثارا كراهيَّةَ اليهود وتعرَّضا لخطرِ الموتِ.

13 ولـكِنْ بِمَا أَنَّ لَنَا رُوحَ الإِيْمَانِ عَيْنَهُ، كَمَا هوَ مَكْتُوب: "آمَنْتُ، ولِذلِكَ تَكَلَّمْتُ"، فَنَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِن، ولِذلِكَ نَتَكَلَّم.
يستخدم بولس هنا اقتباسًا من العهد القديم (مز 116: 10)، ليبرهن أنَّه يؤمِنُ بتحقيقِ المواعيدِ الإلهيَّةِ، وقد صارَ له الحقُّ بالتَّمتُّعِ بالخلاصِ الأبديّ وشركةِ المجدِ مع المسيح. هذا ما يشهدُ له "ويتكلَّمُ" عليه. 

14 ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ذلِكَ الَّذي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوع، سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا مَعَ يَسُوع، وَيَجْعَلُنَا وإِيَّاكُم في حَضْرَتِهِ.
وسْطَ الآلامِ الَّتي حوَّلتْ حياةَ الرسلِ إلى "موتٍ دائمٍ" تشرقُ عليهم "قيامةُ الرَّبِّ يسوعَ" فيتمتَّعون بعربون القيامةِ معهُ. لم يخَفِ الرُّسُلُ من الموتِ، إذ حسبوه طريقَ القيامةِ المفرِحِ، به يعبرون مع المسيحِ وبه إلى المجدِ. مرَّةً أخرى يملأُ بولسُ أهلَ قورنتُس حماسًا لما هو سامٍ حتَّى لا يشعروا بأنَّهم مَدينون بشيءٍ للرُّسلِ الكذبةِ.

15 فَكُلُّ شَيءٍ هُوَ مِنْ أَجْلِكُم، لِكَي تَكْثُرَ النِّعْمَة، فَيَفِيضَ الشُّكْرُ في قُلُوبِ الكَثِيرينَ لِمَجْدِ الله.
ما يقصده بولس هنا بعبارة "كلّ شيء" خبرة الألم والموت اليوميّ والتمتُّع بعربون القيامة والحياة الجديدة. كلّ هذه الاختبارات الَّتي يعيشها الرُّسل هي "من أجل خلاص من يُبشّرونهم". فالألم في حياة الرسل هو الطريق الحيّ "ليفيض الشُّكر لله".

خلاصة روحيَّة
أمام هذا المقطع من رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس (2 قور 4: 5-15)، لا بدّ لكلّ قارئ ومتأمّل مِنْ أن يتأمّل في ما ورد في هذا النصّ من توجيهاتٍ صالحةٍ لعيشٍ مسيحيٍّ أعمق، في كلّ زمانٍ ومكان. بدايةً، يدعونا مار بولس إلى التغلّب على أسوأ ما فينا وهو الأنانيَّة، فيذكّرنا بأنّنا "لا نبشّر بأنفسنا، بل نبشّر بيسوع المسيح ربًّا" (2 قور 4: 5).
ومع هذا، وبواقعيّة، يعلَم الرَّسول بأنّنا "نحمل هذا الكنز في آنيةٍ من خزف" (2 قور 4: 7)، ولكنَّه يستلحق هذا القَول بالتوضيح أنّ ضعفنا ليس ضعفًا يشلُّنا، بل يهدِف إلى أن يُظهِرَ بأنَّ "تلك القدرة الفائقة هي من الله لا منَّا"(2 قور 4: 7).
بهذا المعنى، يمنحنا الرّسول ثقته المرتكزة على تواضعنا وإدراكنا بأنّ كلّ إنجازاتنا هي انعكاسٌ لعمل الربّ في حياتنا، حتَّى لو واجهتنا الصعوبات والضيقات والاضطهادات فعلينا أن "لا نَيْأَس" (2 قور 4: 8) مدركين بأنًّنا "نُنبَذ، ولكنَّنا لا نَهلِك" (2 قور 4: 9). أساس كلّ هذه القوّة الرّوحيَّة هو الإيمان بأنَّ "الَّذي أقام الرَّبَّ يسوع، سيُقيمنا نحن أيضًا مع يسوع"(2 قور 4: 14). ولذا، فكلّ ما نواجهه في الحياة يتحوَّل إلى اختبارٍ روحيٍّ ينمّي علاقتنا بالرَّبّ، وينمّينا في محبَّته فتتحوَّل حياتُنا إلى مصدرِ نعمةٍ للآخرين وهكذا "يفيضُ الشُّكرُ في قلوبِ الكثيرين لمجدِ الله"!(2 قور 4: 15).


تحميل المنشور