كَسر الكلمة -41- الأحد التاسع من زمن العنصرة

كَسر الكلمة -41- الأحد التاسع من زمن العنصرة

الأحد التاسع من زمن العنصرة
برنامج الرسول
(لو 4/ 14-21)
14. عَادَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلى الجَلِيل، وذَاعَ خَبَرُهُ في كُلِّ الجِوَار.
15. وكانَ يُعَلِّمُ في مَجَامِعِهِم، والجَمِيعُ يُمَجِّدُونَهُ.
16. وجَاءَ يَسُوعُ إِلى النَّاصِرَة، حَيْثُ نَشَأ، ودَخَلَ إِلى المَجْمَعِ كَعَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْت، وقَامَ لِيَقْرَأ.
17. وَدُفِعَ إِلَيهِ كِتَابُ النَّبِيِّ آشَعْيا. وفَتَحَ يَسُوعُ الكِتَاب، فَوَجَدَ المَوْضِعَ المَكْتُوبَ فِيه:
18. "رُوحُ الرَّبِّ علَيَّ، ولِهذَا مَسَحَني لأُبَشِّرَ المَسَاكِين، وأَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ بِإِطْلاقِ الأَسْرَى وعَوْدَةِ البَصَرِ إِلى العُمْيَان، وأُطْلِقَ المَقْهُورِينَ أَحرَارًا،
19. وأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لَدَى الرَّبّ."
20. ثُمَّ طَوَى الكِتَاب، وأَعَادَهُ إِلى الخَادِم، وَجَلَس. وكَانَتْ عُيُونُ جَمِيعِ الَّذِينَ في المَجْمَعِ شَاخِصَةً إِلَيْه.
21. فبَدَأَ يَقُولُ لَهُم: "أَليَوْمَ تَمَّتْ هذِهِ الكِتَابَةُ الَّتي تُلِيَتْ على مَسَامِعِكُم".

مقدّمة
     يأتي هذا الإنجيلُ مباشرةً بعدَ صومِ يسوعَ في البريّةِ أربعين يومًا وتجربتِه من قِبَلِ إبليس (لو 4/ 1-13). يسوعُ يبدأُ في هذا الإنجيلِ بالتَّبشيرِ بملكوتِ اللهِ انطلاقًا من الجليلِ لاسيّما في مدينةِ النّاصرةِ حيثُ نشأَ. إنجيلُ هذا الأحدِ مرتبطٌ بإنجيلِ الأحدِ السَّابقِ (روحانيّةُ الرسولِ مت 12/ 14-21) فهو يساعدُ أكثرَ فأكثرَ في اكتشافِ هويّةِ الرَّبِّ يسوعَ ورسالتِه ومن خلالِهِ هويّةِ برنامجِ ورسالةِ كلِّ إنسانٍ مسيحيٍّ. الهويّةُ هي مسحةُ الرُّوحِ القُدُسِ، والرِّسالةُ مثلّثةٌ: اعلانُ انجيلِ الخلاصِ (البُعدُ النَّبويُّ)، تحريرُ الانسانِ وهدايتِه ومعاملتِه بالرَّحمةِ (البُعد الكهنوتي) وبَدْءُ زمنِ جديدٍ لمجتمعٍ بشريٍّ يقومُ على الحقيقةِ والعدالةِ والمحبّةِ والحريّةِ (البُعد الملوكي). لقد تحقّقتْ نبوءةُ أشعيا في شخصِ المسيحِ أوّلًا، ثمَّ في الكنيسةِ يومَ العنصرةِ ثانيًا، وتتحقَّقُ أخيرًا في حياةِ المؤمنين لاسيّما بواسطةِ نعمةِ أسرارِ الكنيسةِ السَّبعةِ.
في هذا الأحدِ تدعونا الكنيسةُ، من خلالِ تحقّقِ نبوءةِ آشعيا بشخصِ المسيحِ، للتَّشبُّهِ به من خلالِ الشَّهادةِ لمحبّةِ اللهِ ورحمتِه لاسيّما من خلاِل تضامُنِنا الفعليِّ مع الضُّعفاءِ والمهمّشين. هذا التَّضامنُ لا يكونُ فقط بالكلامِ بل بالفعلِ أي بالمساهمةِ في تحرّرِ هؤلاءِ الأشخاصِ من الظُّلمِ، ومن التّهميشِ والاستعبادِ. من مسحةِ الرُّوحِ القُدُسِ، ينالُ المعمَّدُ الهويَّةَ المسيحيَّةَ فتصبحَ حياتُه منفتحةً كليًّا على خدمةِ ومحبّةِ الانسانِ، كلِّ إنسانٍ لمجدِ اللهِ فتتحقّقَ فيه أيضًا نبوءةُ أشعيا: "وأُعَزِّيَ جَميعَ النَّائحين. لِأَجعَلَ لنائحي صِهْيون، لِأَمنَحَهمُ التَّاجَ بَدَلَ الرَّمادِ وزَيتَ الفَرَحِ بَدَلَ النَّوحِ وحُلَّةَ التَّسْبيحِ بَدَلَ روحِ الإِعْياءِ فيُدعَونَ بُطْمَ البِرّ وأَغْراساً لِلرَّبِّ يَتَمَجَّدُ بِها" (أش 61/3). إنّ روحَ الرَّبِّ يرافِقُ دومًا الكنيسةَ في رسالتِها التَّبشيريّةِ لاسيّما في الشِّقِّ الاجتماعيِّ للتَّبشيرِ بالإنجيلِ.

شرح الآيات
14. عَادَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلى الجَلِيل، وذَاعَ خَبَرُهُ في كُلِّ الجِوَار.
15. وكانَ يُعَلِّمُ في مَجَامِعِهِم، والجَمِيعُ يُمَجِّدُونَهُ.
16. وجَاءَ يَسُوعُ إِلى النَّاصِرَة، حَيْثُ نَشَأ، ودَخَلَ إِلى المَجْمَعِ كَعَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْت، وقَامَ لِيَقْرَأ.
17. وَدُفِعَ إِلَيهِ كِتَابُ النَّبِيِّ آشَعْيا. وفَتَحَ يَسُوعُ الكِتَاب، فَوَجَدَ المَوْضِعَ المَكْتُوبَ فِيه:       
يُورِدُ الإنجيلُ بحسبِ القدّيسِ لوقا بأنَّ يسوعَ قضى القسمَ الأوَّلَ من رسالتِهِ العلنيّةِ في الجليلِ وهذا ما يظهرُ بشكلٍ خاصٍّ عندما دخَلَ يسوعُ الهيكلَ وأعلنَ عن برنامَجِه الرَّسوليِّ في مّجْمّعِ النّاصرةِ. في بدايةِ هذا الانجيلِ، يلخِّصُ الإنجيليُّ لوقا بطريقةٍ موجزةٍ نشاطَ يسوعَ التَّبشيريِّ. نلاحِظُ تركيزَ القدّيسِ لوقا على امتلاءِ يسوعَ من الرُّوحِ القُدُسِ في مختلفِ أحداثِ حياتِهِ العلنيّةِ: الرُّوحُ القُدسُ الَّذي حلَّ عليه أثناءَ عمادِه وكانَ إلى جانبِه وقتَ التَّجربةِ في البريّةِ وثبّته في الأمانةِ لمشيئةِ الآبِ في بستانِ الزَّيتونِ هو نفسُه دفعَه إلى الرِّسالةِ والتَّبشيرِ بملكوتِ اللهِ في جميعِ مجامعِ الجليلِ. من جانبٍ آخرَ، يُظْهِرُ الانجيليُّ من خلالِ هذه الآياتِ الفرق بين أسلوبِ الرّبِّ يسوعَ في التَّعليمِ وأسلوبِ الكتبةِ والفرّيسيّين: لم يفتحْ يسوعُ مدرسةً لتعليمِ وشرحِ الشَّريعةِ، إنّما كانَ في حالةِ تجوّلٍ دائمِ يعلّمُ ويعظُ في كلّ مكانٍ: في المجمعِ، في الطُّرقاتِ، في البيوتِ... 
النَّصُّ الّذي قرأَهُ يسوعُ في المجمعِ هو من الفصلِ 61 من سِفْرِ أشعيا حيث نجدُ شخصًا (المسيحُ المنتظَرُ) أقامَ فيه روحُ الرَّبِّ ونالَ بصورةٍ رمزيّةٍ المَسْحَةَ، أجَل رسالةً خاصَّةً: حَمَلَ البُشرى إلى جميعِ الفُقراءِ الَّذين يتزاحمون في المدينةِ وينوؤون تحتَ ثقلِ الشَّقاءِ والظُّلمِ. يُعْلِنُ هذا الشَّخصُ للجميعِ لاسيَّما إلى الفقَراءِ سنةَ الرِّضى، سنةً تحمِلُ الخيرَ والبركةَ. يعلِنُ النَّبيُّ من خلالِ هذا النَّصِّ عن فجرِ يومٍ جديدٍ منتظرٍ منذُ زمنٍ طويلٍ: عودةُ السَّنةِ اليوبيليّةِ (أحبار25: 10)، سنةَ رضًا عندَ الرَّبِّ، وهو موسمُ إلغاءِ الدّيونِ وعودةِ اليهودِ إلى تراثِ أسلافِهِم. لقد تمَّمَ يسوعُ الرِّسالةَ النَّبويّةَ الَّتي أعلَنَها آشعيا في شخصِه بصفتِه مسيحِ اللهِ. هذا النَّصُّ من سِفْرِ آشعيا الّذي قرأَه يسوعُ في هذا السَّبتِ هو ملّخصٌ لبرنامجِ يسوعَ ولرسالتِه الخلاصيَّةِ. إنّ هذا البرنامجَ الخلاصيَّ الّذي يعلِنُه يسوعُ لا يطالُ فقط اليهودَ، بل الجميعَ: يهودًا كانوا أم وثنييِّن. إذًا، في هذه النُّبوءةِ لاسيّما في (أش 61/ 1-2)، نجِدُ الخطوطَ العريضةَ لرسالةِ المسيحِ ورسالةِ عروستِه الكنيسةِ وكلِّ أبنائِها.

18. "رُوحُ الرَّبِّ علَيَّ، ولِهذَا مَسَحَني لأُبَشِّرَ المَسَاكِين، وأَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ بِإِطْلاقِ الأَسْرَى وعَوْدَةِ البَصَرِ إِلى العُمْيَان، وأُطْلِقَ المَقْهُورِينَ أَحرَارًا،
      رُوحُ الرَّبِّ علَيَّ، ولِهـذَا مَسَحَني: هذه الآيةُ تُظهِرُ هويّةَ يسوعَ: هو المسيحُ المُنتظَرُ المُمْتلِئ مِنَ الرُّوحِ القُدسِ. هذا ما ظهَرَ بشكلٍ جليٍّ في معموديّتِه على نهرِ الأردنِّ (لو 3/21-22). المسيحُ لفظةٌ عبريةٌ "ماشيح" وآرامية "ماشيحا"، وسريانبّة "مشيحو" أي الّذي "مَسَحَهُ اللهُ" وكرَّسَه كاهنًا وملكًا. لقد اُعْطِيَتْ "مسحةُ الرُّوحِ القدسِ" أيضًا إلى المسيحييِّن بمسحةِ المعموديَّةِ والميرون، ولهذا دُعوا "مسيحيين" فجَعلَتْهم على صورةِ يسوعَ المسيحِ، واشركَتْهم في النُّبوءةِ والكّهنوتِ والملوكيّةِ. الرُّوحُ القُدُس "يَمْسَحُ" المعمّدَ ويختُمُه بختمٍ لا يُمحى ويجْعَلُ منه هيكلاً روحيًّا يعْكِسُ حضورَ اللهِ في وسَطِ شعبِهِ. بفضلِ مسحةِ الرُّوحِ القُدُسِ، يستطيعُ كلُّ إنسانٍ مسيحيٍّ أنْ يقولَ مع المسيحِ: "روحُ الرَّبِّ عليّ، لأنّه مَسَحَني..." لأنّه أصبحَ مشاركًا في رسالةِ المسيحِ المثلَّثة:ِ النَّبويةِ والكهنوتيةِ والملوكيةِ. نتحدَّثُ هنا عن أهميّةِ ودورِ كهنوتِ المسيحيّين العام في قلبِ الكنيسةِ. علينا أيضًا ألّا ننسى أنَّ مسحةَ الرُّوحِ القُدُسِ هي هويةِ الأسقُفِ، ينالُها بالرِّسامةِ المقدَّسةِ بالخلافةِ الرَّسوليَّةِ وهي هُويَّةُ الكاهِنِ أيضًا ينالُها بوضعِ يدِ الأسقفِ وصلاةِ التّكريسِ والمَسحِ بالميرونِ المُقدّسِ.
لأُبَشِّرَ الـمَسَاكِين: لفظة "مساكين" أو " فقراء" في الكتابِ المقَدَّسِ لا تقتصِرُ على المعنى الماديِّ أي الفقراءُ إلى مالٍ وممتلكاتٍ ووسائلِ العيشِ، بل تشمُلُ خصوصًا بالمعنى الرُّوحيَّ المفتقرين إلى غفرانِ اللهِ، النِّعمةِ الإلهيَّةِ، البركةِ من العُلى والنُّورِ السَّماويِّ وسَطَ ظلماتِ هذا العالمِ؛ وبالمعنى الأدبيِّ هم أولئكَ المفتقرون الى تعزيةٍ، تشجيعٍ، غفرانٍ ومصالحةٍ؛ وبالمعنى الاجتماعيِّ المفتقرون الى تضامن في مواجهة صعوبات الحياة والى تحرير من العبوديات السياسية والاقطاعية لأشخاص او أنظمة وبالمعنى الانساني هُمُ المفتقرون الى ثقافةٍ، إلى تربيةٍ، وإلى كرامةٍ بشريةٍ واحترامٍ. في الكتابِ المقدّسِ، الفقراءُ هم فئةٌ من الشَّعبِ اليهوديِّ، فقراءُ اللهِ الَّذين يتّكلونَ دائمًا على اللهِ في حياتِهم. تلك البُشرى للمساكين هي إعلانُ تحقيقِ مواعيدِ اللهِ في الكُتُبِ المُقدّسَةِ في شَخْصِ المسيحِ يسوعَ لاسيّما من خلالِ موتِه وقيامتِه من أجلِ خلاصِ البَشَريّةِ. 

     وأَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ بِإِطْلاقِ الأَسْرَى وعَوْدَةِ البَصَرِ إِلى العُمْيَان، وأُطْلِقَ الـمَقْهُورِينَ أَحرَارًا: ليس الأسيرُ فقط مَنْ كانَ أسيرَ الحربِ أو المقبوضِ عليه بتهمةٍ ما بل هو كلُّ إنسانٍ مُسْتَعْبَدٌ للخطيئةِ ولا يعيشُ المعنى الحقيقيُّ للحريّةِ المسيحيّةِ أي العملِ بإرادةِ اللهِ. أتى المسيحُ ليحرِّرَ الانسانُ من كلِّ شيءٍ يُبْعِدُه عن اللهِ ولكنّه يتركُ له الخيارَ (احترامُ حريّةِ الإنسانِ) بقبولِ هذه الدَّعوةِ أو رفضِها. من جهةٍ أخرى لقَدْ شفى يسوعُ المسيحُ عدّةَ عميانٍ ولكنّ النَّصِّ المُقْتَبَسُ عن آشعيا يذكِّرُنا أيضًا بنوعٍ آخرَ من العمى، عمى البصيرةِ تحدّثَ عنه الأنبياءُ ومنهم إرميا حين قال: "إسمعْ هذا أيُّها الشَّعبُ الجاهلُ والعديمُ الفهمِ، الَّذين لهم أَعْيُنٌ ولا يبصرون. لهم آذانٌ ولا يسمعون" (إرميا 5 / 21). الانسانُ الأعمى البصيرةِ لا يستطيعُ أن يرى حقيقةَ المسيحِ ويقبلُ بُشْرى الخلاصِ الّتي بَشَّرَ بها بسببِ قساوةِ قلبِه. أخيرًا، الفَرْقُ بين العميانِ والمقهورين هي أنّ سبَبَ عمى العميانِ هي قساوةُ قلوبِهِم وقرارِهِم برفضِ المسيحِ، أمّا المقهورون فهم يخضعون لنزواتٍ ولقسوةِ أناسٍ آخرين لا قلبَ لهم ولا رحمةَ! فالحريّةُ للمقهورين تتحقّقُ حين يشْعُرون حقيقةً بأهميّةِ وجودِهم ويتمكّنون من تحقيقِ إنسانيّتِهم ودعوتِهم في الحياةِ.  

19. وأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لَدَى الرَّبّ."
20. ثُمَّ طَوَى الكِتَاب، وأَعَادَهُ إِلى الخَادِم، وَجَلَس. وكَانَتْ عُيُونُ جَمِيعِ الَّذِينَ في المَجْمَعِ شَاخِصَةً إِلَيْه.
21. فبَدَأَ يَقُولُ لَهُم: "أَليَوْمَ تَمَّتْ هذِهِ الكِتَابَةُ الَّتي تُلِيَتْ على مَسَامِعِكُم".
     كانَتِ السّنةُ المقبولةُ لدى الرَّبِّ تتكرّرُ كلَّ خمسين سنةً وهي منصوصٌ عنها في سِفْرِ الأحبارِ: "وقدّسوا سنةَ الخمسين ونادوا بإعتاقٍ لجميعِ أهلِها، فتكونُ لكم يوبيلاً، فترجعوا كلُّ واحدٍ إلى مُلْكِهِ وتعودوا كلَّ واحدٍ إلى عشيرتِه. سنةَ الخمسين تكونُ لكم يوبيلاً فلا تزرعوا فيها ولا تحصدوا خلفةً زرعِكم ولا تقطفوا ثمَرَ كرمِكُم غيرِ المقضوبِ. إنَّها يوبيلٌ فتكونَ لكم مقدَّسةً، ومنْ غِلالِ الحقولِ تأكلون" (أح 25 /10-13). تتضمَّنُ سنةُ اليوبيلِ إعتاقَ العبيدِ، فكلُّ الأملاكِ والنُّذورِ، الإعفاءِ مِن الدُّيونِ وإراحةِ الأرضِ. بمجيءِ المسيحِ، أعلَنَ للجميعِ ولاسيَّما إلى المساكينِ، سنةَ الرِّضى، السَّنةُ الَّتي تحمِلُ الخيرَ والخلاصَ للجميعِ. مع الرَّبِّ يسوعَ، يبدأُ عهدٌ جديدٌ من خلالِ تحقيقِ الخلاصِ الّذي انتظرَه اليهودُ. 
     مُنْذُ كتابةِ هذا النَّصِّ حوالي القرنِ السَّادسِ ق. م.، أُعيدَتْ قراءتُه وأعيدَ تفسيرُه عدّةَ مرّاتٍ ولكن من دونِ أن يُعرَفَ متى يحين زمنُ الخلاصِ الّذي أعلنَه الكتابُ. عندَما قرأَ يسوعُ هذا النَّصَّ، انتزعَه من الماضي ونقلَه إلى "اليوم" لأنّها تمَّتْ بشخصِهِ. رسالةُ يسوعَ الخلاصيةُ هي بُشرى سارّةٌ إلى جميعِ الفقراءِ والمظلومين الَّذي ينوؤون تحْتَ أثقالِ الشَّقاءِ فأعلَنَ لجميعِ هؤلاءِ "سنةَ الرِّضى" الّتي تحمِلُ عهدًا جديداً. لقد تمّمَ يسوعُ إذًا بشخصِه ورسالتِهِ تلك النُّبوءةَ الموجودةَ في هذا الفصلِ من الكتابِ ناقلًا مضمونَها من الماضي إلى الحاضرِ. 

خلاصة روحيّة
  في الإرشادِ الرَّسوليِّ "فرحُ الانجيلِ" حولَ البشارةِ بالإنجيلِ في عالمِ اليومِ، يشرحُ البابا فرنسيسُ في الفصلِ الرّابعِ "البُعدَ الاجتماعيَّ للتَّبشيرِ بالإنجيلِ" أي كيفَ أنَّ التّبشيرَ بالإنجيلِ هو جَعْل ملكوتِ اللهِ حاضرًا في العالمِ على الصَّعيدِ الاجتماعيِّ. إليكم بعضُ النِّقاطِ المهمّةُ في هذا الفصلِ والَّتي قد تساعدُ كثيرًا في تأوينِ إنجيلِ هذا الاحدِ: 
 177. تمتَلِكُ الكرازةُ محتوًى لا محالةَ اجتماعيًّا: في قلبِ الانجيلِ نفسِه، توجدُ الحياةُ الجماعيّةُ والالتزامُ مع الآخرين. محتوًى الشَّارةِ الأولى له انعكاسٌ أدبيٌّ مباشرٌ، محورُه المحبّةِ. 
186. من إيمانِنا بيسوعَ المسيحِ الَّذي افتقرَ، والّذي هو على الدَّوامِ قريبٌ من الفقراءِ والمنبوذين، ينجُمُ اهتمامُنا بالنُّموِّ الكاملِ للأكثرِ انتباذًا من المجتمعِ. 
187. كلُّ مسيحيٍّ وكلُّ جماعةٍ مدعوّان إلى أنْ يكونا أداةً بين يدَيَّ اللهِ لتحريرِ الفقراءِ ونموِّهم، بحيْثُ يستطيعون الاندماجَ كليًّا في المجتمعِ؛ وذلك يفترضُ أن نكونَ طيّعين ومصغين إلى صوتِ الفقيرِ وأنْ نساعدَه. 
188. أقرّتِ الكنيسةُ بأنَّ ضرورةَ الاصغاءِ إلى هذا الصُّراخِ (صراخِ الفقراءِ) ينْجُمُ من عملِ النِّعمةِ نفسِها المحرِّرِ، في كلٍّ منّا؛ فالقضيّةُ، إذًا، ليسَتْ رسالةً مخصّصةً فقط لبعضِ الأشخاصِ: إنّ الكنيسةَ، يقودُها إنجيلُ الرَّحمةِ ومحبّةُ الانسانِ، تسمعُ الصّراخَ مِنْ أجلِ العدالةِ وتريدُ أنْ تلبِّيَهُ بكلِّ قواها. في هذا الإطارِ، نفهمُ طلبَ يسوعَ إلى تلاميذِه: "أعطوهم أنتُم ليأكلوا" (مر 6/ 37)، وهذا يفترِضُ، أكانَ التَّعاونُ لحلِّ قضايا الفَقْرِ الهيكليّةِ، وتعزيزِ نموِّ الفقراءِ النَّاجزِ، أمْ أعمالِ التَّضامُنِ البَسيطةِ اليوميّةِ إزاءَ أحوالِ البؤسِ الملموسةِ الّتي نلتقيها. أصبحَتْ كلمةُ "تضامُن" نوعًا ما مبتذلةً وأحيانًا يجوزُ استعمالَها، لكنَّها تدلُّ إلى أكثرِ من بعضِ أعمالِ السَّخاءِ المشتّتةِ. إنّها تطلُبُ خلقَ ذهنيّةٍ تفكّرُ بعباراتٍ (بأسلوبِ) جماعةٍ، وبأولويّةِ حياةِ الجميعِ على استملاكِ الخيراتِ من قِبَلِ بعضِ الأفرادِ. 
197. للفقراءِ المكانةُ الفُضلى في قلبِ اللهِ، إلى حدِّ أنّه هو نفسُه "افتقرَ" (2 كور8/9). كلُّ طريقِ فدائنا يطبَعُه الفقراءُ... وعندما بدأَ يبشّرُ بالملكوتِ، تبعَه جموعٌ من المحرومين، وهكذا أعلَنَ ما سبَقَ وقالَ: "روحُ الرّبِّ عليَّ لأنّه مسَحَني لأبشّرَ الفقراءَ" (لو4/18؛ أش61/1). وأكّدَ للمثقلين بالألمِ والطَّاغي عليهم الفَقرِ أنّ اللهَ يحمِلُهم في قلبِه: "طوبى لكم، أيّها الفقراء، فإنّ لكم ملكوت الله" (لو 6/20)؛ وتماهى معهم: "كنْتُ جائعًا فأطعمْتموني"، معلّمًا أنَّ الرّحمةَ معهم هي مفتاحُ السّماءِ (راجع متّى 25/ 35). 
198. بالنِّسبةِ إلى الكنيسةِ، اختيارُها الفقراءِ هو مقولةٌ لاهوتيّةٌ قبلَ أنْ تكونَ ثقافيّةً، اجتماعيّةً، سياسيّةً أو فلسفيّةً. اللهُ يمنحُهم رحمتَه. لهذا التّفضيلِ الإلهيِّ نتائجٌ في حياةِ إيمانِ جميعِ المسيحييّن، المدعوّين إلى أن يكونَ لهم "من الأفكارِ ما هو في المسيحٍ يسوعَ" (في2/5). الكنيسةُ، وقد استوحَتْ التفضيلَ الإلهيَّ، اختارَتْ الفقراءَ (option préférentielle pour les pauvres)، اختيارًا يُفهمُ تحتَ شكلٍ خاصٍّ من الأولويّةِ في ممارسةِ المحبّةِ المسيحيّةِ الّتي يشهدُ لها كلُّ تقليدِ الكنيسةِ. وهذا الاختيارُ – على حدِّ ما علّم بندكتوس السّادس عشر– هو ضمنَ الايمانِ المسيحانيّ بذاك الإلهِ الّذي افتقرَ من أجلِنا، كي يُغنينا بفَقْرِه. لهذا السَّببِ، أريدُ كنيسةً فقيرةً لأجلِ الفُقراءِ. إنَّ لديهِم الكثيرَ يعلّموننا إيّاه. علاوةً على مشاركتِهم في حسِّ الايمانِ بآلامِهِم الخاصّةِ، فهم يعرفون المسيحَ المتألّمَ. من الضّروريِّ أن ندعَهم يبشّروننا جميعًا. التَّبشيرُ الجديدُ بالإنجيلِ هو دعوةٌ إلى أنْ نعترِفَ بقوّةِ وجودِ الفُقراءِ الخلاصيّةِ، وإلى أن نضعَهُم في صميمِ مسيرةِ الكنيسةِ. إنّا مدعوّون إلى أنْ نكتشفَ المسيحَ فيهم، أنْ نُعيرَهم صوتَنا للدِّفاعِ عن قضاياهم، لكن أيضًا بأنْ نكونَ لهم أصدقاءَ، وأنْ نصغِيَ إليهم، ونُفْهِمَهُم وأن نتقبَّلَ الحِكمَةَ السِّرِّيِّةَ الَّتي يريدُ اللهُ أنْ يبلِّغَنا إيّاها من خلالَهم. 
200. بما أنّ الإرشادَ موجَّهٌ إلى أعضاءِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ، أريدُ أنْ أقولَ بألمٍ إنّ أسوأَ تمييزٍ يتألّمُ منه الفقراءُ هو انعدامُ العنايةِ الرّوحيّةِ. معظمُ الفقراءِ يتحلّون بانفتاحٍ خاصٍّ على الايمانِ؛ إنَّهم بحاجةٍ إلى اللهِ، ولا يمكنُنا أنْ نحرمَهم صداقَته، وبركتَه وكلمَتَه والاحتفالَ بالأسرارِ واقتراحَ طريقِ نموٍّ ونضجٍ في الايمانِ. الاختبارُ التَّفضيليّ للفقراءِ (option préférentielle pour les pauvres) يجبُ أنْ يُعبَّرَ عنه، بالأخصِّ، بعنايةٍ دينيّة مميّزة وأولويّة. 
201. لا أحدَ يستطيعُ القولَ بأنّهُ يتباعدُ عن الفقراءِ لأنّ خياراتِ حياتِه تُوجِّهُ اهتماماتِه أكثرَ إلى مهامٍ أخرى. هذا عذرٌ متواترٌ في الأوساطِ الأكاديميّةِ، والمؤسساتيّةِ والمهنيّةِ، وحتّى الكَنَسِيَّةِ. ولئِن قِيلَ عمومًا إنّ دعوةَ المؤمنين العلمانيّين ورسالتِهِم الخاصَّةِ هي تحويلُ الحقائقِ الأرضيّةِ المختلفَةِ كي يبدِّلَ الانجيلُ كلَّ النَّشاطِ البَشريَّ، إلّا أنّه لا أحدَ يستطيعُ أنْ يشعرَ بأنّه معفًى من الاهتمامِ بالفقراءِ وبالعدالةِ الاجتماعيّةِ.

تحميل المنشور