كَسر الكلمة -35- الأحد الثالث من زمن العنصرة

كَسر الكلمة -35- الأحد الثالث من زمن العنصرة

الأحد الثالث من زمن العنصرة
الروح يعلّم 
(يوحنا 14: 21-27)
21. مَنْ كَانَتْ لَدَيْهِ وَصَايَاي ويَحْفَظُهَا، هُوَ الَّذي يُحِبُّنِي. ومَنْ يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وأَنَا أُحِبُّهُ وأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي".
22. قَالَ لَهُ يَهُوذَا، لا ذَاكَ الإِسْخَريُوطِيّ: "يَا رَبّ، مَاذَا جَرَى حَتَّى تُظْهِرَ ذَاتَك لَنَا، لا لِلعَالَم؟".
23. أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "مَنْ يُحِبُّنِي يَحْفَظُ كَلِمَتِي، وأَبِي يُحِبُّهُ وإِلَيْهِ نَأْتِي، وعِنْدَهُ نَجْعَلُ لَنَا مَنْزِلاً.
24. مَنْ لا يُحِبُّنِي لا يَحْفَظُ كَلِمَتِي. والكَلِمَةُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا لَيْسَتْ كَلِمَتِي، بَلْ كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرْسَلَنِي.
25. كَلَّمْتُكُم بِهـذَا، وأَنَا مُقِيمٌ عِنْدَكُم.
26. لـكِنَّ البَرَقْلِيط، الرُّوحَ القُدُس، الَّذي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، هُوَ يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيء، ويُذَكِّرُكُم بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ  لَكُم.
27. أَلسَّلامَ أَسْتَودِعُكُم، سَلامِي أُعْطِيكُم. لا كَمَا يُعْطِيهِ العَالَمُ  أَنَا أُعْطِيكُم. لا يَضْطَرِبْ قَلْبُكُم ولا يَخَفْ!

مقدّمة
إنّه الأحدُ الثَّالثُ من زمنِ العنصرةِ، زمنُ الكنيسةِ وفيه نقرأُ هذا النَّصَّ من الإنجيلِ الرَّابعِ، وهو مأخوذٌ من خطبةِ يسوعَ الوداعيّةِ لتلاميذِه (يو 13: 31-14: 31). تبدو هذه الخطبةُ بشكلِ حوارِ بين يسوعَ وتلاميذِه. وهي تتوزّعُ في خمسِ نقاطٍ، كلُّ نقطةٍ تكمّلُ الأخرى وتتضمّنُ ثلاثةَ أزمنةٍ. يبدأُ يسوعُ كلَّ زمنٍ بإعلانٍ سرّيٍّ يعبّرُ عنه بألفاظٍ تحمِلُ معنيين، فلا يفهمُ التلاميذُ بُعدَه الحقيقيَّ. حينئذٍ يطرحون سؤالاً يَفْسَحُ المجالَ ليسوعَ ليؤكّدَ من جديدٍ فكرتَه ويوضِّحُها ويرفعُ التلاميذَ إلى مستوى سرِّ شخصِه وعملِه. نحن هنا أمامَ أسلوبٍ يوحنّاويٍّ له بُعدُهُ اللاّهوتيُّ العميق: إن تُرِكَ التَّلاميذُ إلى قواهم الخاصّةِ، فهم لا يستطيعون أن يفهموا مضمونَ سرَّ يسوعَ وأحداثَ حياتِه. هو الرَّبُّ إذًا المُحَاِوُر والمُجيبُ لينمّي الإيمانَ في تلاميذِه.

شرح الآيات
21. مَنْ كَانَتْ لَدَيْهِ وَصَايَاي ويَحْفَظُهَا، هُوَ الَّذي يُحِبُّنِي. ومَنْ يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وأَنَا أُحِبُّهُ وأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي".
22. قَالَ لَهُ يَهُوذَا، لا ذَاكَ الإِسْخَريُوطِيّ: "يَا رَبّ، مَاذَا جَرَى حَتَّى تُظْهِرَ ذَاتَك لَنَا، لا لِلعَالَم؟".
23. أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "مَنْ يُحِبُّنِي يَحْفَظُ كَلِمَتِي، وأَبِي يُحِبُّهُ وإِلَيْهِ نَأْتِي، وعِنْدَهُ نَجْعَلُ لَنَا مَنْزِلاً.
24. مَنْ لا يُحِبُّنِي لا يَحْفَظُ كَلِمَتِي. والكَلِمَةُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا لَيْسَتْ كَلِمَتِي، بَلْ كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرْسَلَنِي.

تُشَكِّلُ هذه الآياتُ (21-24) خبرةَ الكنيسةِ. يعلنُ يسوعُ أنّه سيظهرُ (آ 21) أو كما سيوضِّحُ بعد سؤالِ يهوذا: سيأتي مع الآبِ (آ 23). فالظُّهوُرُ والمجيءُ محفوظان للَّذين يحبّون يسوعَ. وهذا الحبُّ يقومُ بحفظِ وصاياه (آ 21) أو كلمتِه (آ 23-24). ويبدو أنَّ الوصيّةَ والكلمةَ هما واقعٌ واحدٌ في هذا النَّصِّ: إنّهما وحيُ يسوعَ كقاعدةِ عملٍ. فالكلمةُ تشدّدُ على العنصرِ الأوّلِ (الوحي) والوصايا على العُنصرِ الثّاني (قاعدةُ عملٍ).
وتعلِّمُنا نصوصٌ يوحنّاويّةٌ أخرى بما تقومُ به هذه الوصايا: الحبُّ الأخويُّ (13: 34-35، 15: 12-14، 1يو 4: 21) والإيمانُ بيسوعَ كمُرسَلٍ من الآبِ (16: 27). لسنا إذًا أمامَ وصيتين منفصلتين: الحبُّ الأخويُّ يستندُ إلى الإيمانِ بيسوعَ الذي أُرسِلَ ليكشِفَ ويحقّقَ حبَّ الآبِ الخلاصيَّ تجاهَ البشرَ. ولهذا، يتّحدُ الحبُّ الأخويُّ والإيمانُ في (1يو 3: 23) في إسمٍ واحدٍ هو "الوصيّة". فعلى التَّلاميذِ أن يحبّوا بعضُهم بعضًا لأنّ يسوعَ أحبَّهم (13: 34، 15: 12)، أي على مثالِه وبفضلِ حبِّه.
"من يحبّني يحبّه ابي وأنا أحبّه". هذا لا يعني أنّ حبَّنا هو الأوّلُ. نحن أمامَ حوارِ حبٍّ يقومُ على مبادرةِ الآبِ ويسوعَ (1يو 4: 10 و 19). فحبُّ يسوعَ وحبّ الأخوةُ يقومان بأن نؤمنَ بحبِّ اللهِ، أن نتقبّلَ هذا الحبَّ وندخلَ في ديناميّتِه ونقيمَ فيه. فتقبُّل حبِّ الآبِ الذي يُظهرُه يسوعُ، ومحبّةُ الإخوةِ التي بها أحبَّهم يسوعُ، كلّ هذا يعني للتَّلاميذِ أن يحبّوا يسوعَ والآبَ. لهذا يتحقّقُ في هذه المحبّةِ حضورُ يسوعَ والآبِ: "إليه نأتي، وعنده نجعل منزلاً" (آ 23). نحن أمامَ حضورٍ متبادلٍ: يقيمُ التلاميذُ في الحبِّ الإلهيِّ، ويقيمُ الآبُ ويسوعُ في التَّلاميذِ.
"مَاذَا جَرَى حَتَّى تُظْهِرَ ذَاتَك لَنَا، لا لِلعَالَم؟" (آ 22). هي كلماتٌ تُظهِرُ الرغبةَ في خلاصِ العالمِ كلِّه التي ينبغي على التِّلميذِ التّحلّي بها. أن أكونَ تلميذًا للمسيحِ  يعني أن أكونَ متشوّقًا لخلاصِ الكونِ كلِّه، فمن يلمُسُ رحمةَ المسيحِ وحبَّه لا يمكنُه أن يكونَ أنانيًّا أو غير مهتمٍّ بخلاصِ الإخوَّةِ.  هذه هي قمّةُ المحبّةِ التي يطلبُها الرَّبُّ، أنْ أسعى الى خلاصِ الكونِ كلِّه.
قد نطلبُ نحن أيضًا من الرَّبِّ أن يعلنَ ذاتَه شخصيًّا للعالمِ ليؤمنَ الجميعُ بإسمِه، نطلبُ لنوفِّرَ على أنفسِنا عناءَ البشارةِ والإضطهادِ والألمِ. إنّما الرَّبُّ يسوعُ دعانا واختارنا لنَحمِلَ نحن بشارتَه للعالمِ، نحن الأداةُ التي يستمرُّ من خلالِها عملُ الخلاصِ.
ليحصلَ العالمُ على الخلاصِ يجبُ أن يؤمنَ، أن يحبَّ ويحفظَ كلامَ الرَّبِّ. هي إذًا دعوةٌ شاملةٌ وليستْ فقط فرديّةً.  لكي يعلنَ اللهُ ذاتَه للعالمِ ويجعلَ فيه مقامًا فلا بدَّ للعالمِ أن يتبنّى منطقَ المسيحِ. عالمُنا اليومَ يحتاجُ الى تجليّ الرّبِّ له، يحتاجُ الى حلولِ اللهِ فيه، فهو عالَمٌ متألّمٌ، منقسِمٌ على ذاتِه، مملوءٌ حروبًا وبغضًا وشرًّا، يقتلُ فيه القويُّ الضّعيفَ، هو عالَمٌ لا يمكِنُه أنْ يقبلَ رسالةَ المسيحِ لأنّه يجدُ في منطقِ المسيحِ ضعفًا وخنوعًا. عالمُنا ينشرُ منطقَ العنفِ ويسعى إلى إيجادِ الحلولِ بقوّةِ السّلاحِ.  هو عالَمٌ ينتظرُ تلميذَ المسيحِ ليرتدَّ ويؤمنَ، ليقبلَ فيه اللهُ نفسَه.  حلولُ اللهِ في العالمِ يكونُ حين يعتنقُ العالمُ منطقَ اللهِ، منطقَ السّلامِ والحوارِ، منطقَ التّضحيةِ، منطقَ اللّاعنفِ، منطقَ العدالةِ واحترامِ حقوقِ الشّعوبِ، منطقَ احترامِ الحياةِ كقيمةٍ مطلقةٍ منذ لحظةِ تكوّنِها في حشا الأمِّ الى لحظةِ الموتِ الطّبيعي والإنتقالِ الى منزلِ الآبِ.

25. كَلَّمْتُكُم بِهـذَا، وأَنَا مُقِيمٌ عِنْدَكُم.
26. لـكِنَّ البَرَقْلِيط، الرُّوحَ القُدُس، الَّذي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، هُوَ يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيء، ويُذَكِّرُكُم بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ  لَكُم.

اللّحظةُ لحظةُ وداعٍ، والوداعُ قاسٍ ومؤلمٌ. كيف لا وهو سيتمُّ من على الصّليبِ؟!. هناك وقتٌ كان يسوعُ فيه حاضرًا لتلاميذِه حضورًا منظورًا، فكانوا يستطيعون أن يسمعوا كلامَه بآذانِهم "كَلَّمْتُكُم بِهـذَا، وأَنَا مُقِيمٌ عِنْدَكُم" (آ 25). ولكن هذا الوقتَ انتهى الآن، وسيدشّنُ الفصحُ زمنًا جديدًا تبدّلَتْ فيه أشكالُ العلاقاتِ بين المعلّمِ وخاصّتِه. إنّ تقليدَ كلماتِ يسوعَ خلالَ حياتِه على الأرضِ ظلَّ حاضرًا، وسيكونُ في أساسِ ولادةِ الأناجيلِ. ليسَ هذا التّقليدُ في الكنيسةِ وديعةً ميتةً أو مجموعةَ أقوالٍ متحجّرةٍ، لأنّ الرّوحَ يحمِلُه (آ 26). وفي مقاطعَ أخرى من وداعِ يسوعَ، يبدو الرًّوحُ ذلك المدافعَ في دعوى يسوعَ وأخصّائه أمامَ محاكم هذا العالمِ (15: 26، 16: 7-11). أمّا هنا فهو، كما عند الأنبياءِ، مُلهمُ كلمةِ اللهِ. فيسوعُ قد ألقى خلالَ حياتِه على الأرضِ، "كلامَ اللهِ"، لأنّ اللهَ يهَبُ الرّوحَ بغيرِ حسابٍ. وإن كان الرّوحُ قد أُعطي للتّلاميذِ يوم الفصحِ، فلكي "يذكّرَهم" بالتّعليمِ الّذي سمعوه من يسوعَ. لسنا هنا أمامَ حفظٍ ماديٍّ بواسطةِ الذّاكرةِ وتكرارٍ رتيبٍ: فيوحنّا يشيرُ مرّتين في إنجيلِه إلى أنّ التّلاميذَ لم يدركوا معنى كلماتِ يسوعَ وأعمالِه إلاّ حين تذكّروها على ضوءِ الفصحِ (2: 22، 12: 16)، أي بإلهامِ الرّوحِ الّذي جعلَهم في النّهايةِ يدركون عمقَها. 

27. أَلسَّلامَ أَسْتَودِعُكُم، سَلامِي أُعْطِيكُم. لا كَمَا يُعْطِيهِ العَالَمُ  أَنَا أُعْطِيكُم. لا يَضْطَرِبْ قَلْبُكُم ولا يَخَفْ!
قد اقتربَ الوقتُ الّذي يذهبُ فيه يسوعُ إلى البستانِ، عبرَ وادي قدرون (18: 1). هي ساعةُ الفراقِ والوداعِ. ولهذا قالَ يسوعُ "أَلسَّلامَ أَسْتَودِعُكُم، سَلامِي أُعْطِيكُم" (آ 27). ولكنّه يوضحُ أنّ هذا السّلامَ يختلفُ عن سلامِ العالمِ الذي يتضمّنُ تمنّياتٍ باهتةً وزمنيّةً غيرَ فاعلةٍ. السّلامُ هو في العهدِ القديمِ أثمنُ العطايا الّتي يحمِلُها المسيحُ (أش 9: 5-6، 11: 1-11). بل إنّ اسمَه هو السّلامُ (مي 5: 4). هذا السَّلامُ هو أوّلُ كلمةٍ من مذودِ بيتَ لحمٍ (لو 2: 14). هذا السّلامُ هو أوّلُ كلمةٍ من تعليمِ القائمِ من الموتِ (لو 24: 36) وعند يوحنّا أيضًا (20: 19 و 21 و 26). ولكنّ التّلاميذَ صعبٌ عليهم أن يتجاوزوا نظرةَ الألمِ المخيفةَ، تلك الآلامُ الآتيةُ. فالانطلاقُ الّذي أعلنَه يسوعُ لهم ملأهم قلقًا واضطرابًا: ماذا سيكونُ مصيرُهم بعدَ غيابِه؟ طمأَنَهم يسوعُ. هنا نجِدُ أسلوبُ التّضمينِ الّذي يستعيدُ في النّهايةِ ما كان قد قالَه في البدايةِ "لا تضطّربُ قلوبُكم" (يو 14: 1). كلامُ يسوعَ هو مقنعٌ الآنَ، لأنّه يستنِدُ إلى المواعيدِ بمجيءِ الرّوح، بمجيءِ يسوعَ نفسِه، وبمجيءِ الآبِ.

خلاصة روحيّة
في خطبتِه الوداعيّةِ، طمأنَ يسوعُ تلاميذَه ليلةَ موتِه أنّه سينخطِفُ عن أبصارِهم. وأعلَنَ لهم أنّهم سيرونَه من جديدٍ بعدَ غيابٍ قصيرٍ، سيرونه في أفراحِ الفصحِ، حينئذٍ يعرفون سرَّه ملءَ المعرفةِ، ويُدركون شفاعتَه. لن نراه فقط، بل هو سيأتي إلينا ويقيمُ عندَنا إن نحنُ عرفْنا الحبَّ لأنّه هو سبَقٌ فأحبَّنا. أمّا قلوبُنا فلن تعرِفَ القلقَ والاضطرابَ بالرّغمِ من آلامِ هذا الدّهرِ وأوجاعِهِ على كافّةِ المستوياتِ. كيفَ لا والرّبُّ وهبَنَا روحَ السّلامِ؟! الرّوحُ القدسُ هو سلامُ المسيحِ يترُكُه في هذا العالمِ.  هو السّلامُ المختلفُ، وحدَه يسوعُ يقدِرُ أن يهبَه، لأنّه سلامُ الرّوحِ القدسِ، السّلامُ الإلهيُّ الّذي يقدِرُ بقوّتِه أن يبدِّلَ داخلَنا وأن يحوِّلَ العالمَ الى واحةِ سلامٍ. سلامُ الأرضِ هو سلامٌ قائمٌ على العنفِ، على الحربِ وعلى فرضِ السيطرةِ، أمّا سلامُ الرّوحِ الّذي يتركُه المسيحُ في كنيستِه فهو سلامُ المحبّةِ، سلامُ التّضحيّةِ، سلامُ الوداعةِ، سلامٌ يسعى الى العدالةِ الحقّةِ. هو سلامُ الرّبِّ يرافِقُ كنيستَه المنطلقَةَ الى مجتمعٍ يرفضُها ويضطهدُها لأنّها تُعْلِنُ القيمَ المختلفةَ، تعلِنُ قِيَمَ الرَّبِّ وتزرعُ في العالمِ ثمارَ الرّوحِ القدسِ.


تحميل المنشور