كَسر الكلمة -25- خميس الأسرار

كَسر الكلمة -25- خميس الأسرار

خميس الأسرار
(يوحنّا 13: 1-15)
1. قَبْلَ عِيدِ الفِصْح، إِذْ كَانَ يَسُوعُ يَعْلَمُ أَنَّ سَاعَتَهُ حَانَتْ لِيَعْبُرَ مِنْ هـذَا العَالَمِ إِلى الآب، وقَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذينَ في العَالَم، أَحَبَّهُم إِلى الغَايَة.
2. وفي أَثْنَاءِ العَشَاء، وقَدْ أَلْقَى إِبْلِيسُ في قَلْبِ يَهُوذَا بْنِ سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسْلِمَهُ،
3. وكَانَ يَسُوعُ يَعْلَمُ أَنَّ الآبَ جَعَلَ كُلَّ شَيءٍ في يَدَيْه، وأَنَّهُ مِنَ اللهِ خَرَجَ وإِلى اللهِ يَمْضِي،
4. قَامَ عَنِ العَشَاء، وخَلعَ رِدَاءَهُ، وأَخَذَ مِنْدِيلاً واتَّزَرَ بِهِ.
5. ثُمَّ صَبَّ مَاءً في إِنَاءِ التَّطهِير، وبَدَأَ يَغْسِلُ أَقْدَامَ التَّلامِيذ، ويُنَشِّفُهَا بِالـمِنْدِيلِ الَّذي كَانَ مُتَّزِرًا بِهِ.
6. فَلَمَّا وَصَلَ إِلى سِمْعَانَ بُطْرُس، قَالَ لَهُ سِمْعَان: "أَنْتَ، يَا رَبّ، تَغْسِلُ قَدَمَيَّ؟‌‍‍‍!".
7. أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "أَنْتَ لا تَعْلَمُ الآنَ مَا أَنَا أَفْعَل، ولـكِنَّكَ سَتَفْهَمُ في ما بَعْد".
8. قَالَ لَهُ بُطْرُس: "لا، لَنْ تَغْسِلَ قَدَمَيَّ أَبَدًا!". أَجَابَهُ يَسُوع: "إِنْ لَمْ أَغْسِلْكَ فَلَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ مَعِي".
9. قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُس: "يَا رَبّ، لا تَغْسِلْ قَدَمَيَّ فَقَط، بَلْ يَدَيَّ ورَأْسِي أَيْضًا".
10. قَالَ لَهُ يَسُوع: "مَنِ اسْتَحَمَّ لا يَحْتَاجُ إِلاَّ إِلى غَسْلِ قَدَمَيْه، لأَنَّهُ طَاهِرٌ كُلُّه. وأَنْتُم طَاهِرُون، ولـكِنْ لا جَمِيعُكُم!".
11. وكَانَ يَعْلَمُ مَنْ سَيُسْلِمُهُ، ولِهـذَا قَال: "لَسْتُمْ جَمِيعُكُم طَاهِرِين".
12. وبَعْدَ أَنْ غَسَلَ أَقْدَامَهُم ولَبِسَ رِدَاءَهُ وعَادَ فَاتَّكَأَ، قَالَ لَهُم: "أَتَفْهَمُونَ مَا فَعَلْتُ لَكُم؟
13. أَنْتُم تَدْعُونَنِي الـمُعَلِّمَ والرَّبّ، وحَسَنًا تَقُولُون، لأَنـِّي كَذـلِكَ.
14. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا الرَّبَّ والـمُعَلِّمَ قَدْ غَسَلْتُ أَقْدَامَكُم، فَعَلَيْكُم أَنتُم أَيْضًا أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُم أَقْدَامَ بَعْض.
15. لَقَدْ أَعْطَيْتُكُم مثَالاً، لِتَفْعَلُوا أَنْتم أَيْضًا كَمَا فَعلْتُ أَنَا لَكُم.

مقدّمة
تقدّمُ لنا الليتورجيّةُ المارونيّة في رتبةِ الغِسلِ يومَ خميسِ الأسرارِ، نصُّ العشاءِ الأخيرِ كما رواه القدّيسُ يوحنّا، والذي يتفرّدُ في ربطِ العشاءِ بفعلِ غسلِ يسوعِ لأرجلِ تلاميذِه. لنتأمّلَ بمعنى فعلةِ يسوعَ هذه، وبسرِّ الإفخارستيّا من حيثُ معناه اللاّهوتيّ في حياتِنا المسيحيّةِ.

شرح الآيات
1. قَبْلَ عِيدِ الفِصْح، إِذْ كَانَ يَسُوعُ يَعْلَمُ أَنَّ سَاعَتَهُ حَانَتْ لِيَعْبُرَ مِنْ هـذَا العَالَمِ إِلى الآب، وقَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذينَ في العَالَم، أَحَبَّهُم إِلى الغَايَة.
2. وفي أَثْنَاءِ العَشَاء، وقَدْ أَلْقَى إِبْلِيسُ في قَلْبِ يَهُوذَا بْنِ سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسْلِمَهُ،
3. وكَانَ يَسُوعُ يَعْلَمُ أَنَّ الآبَ جَعَلَ كُلَّ شَيءٍ في يَدَيْه، وأَنَّهُ مِنَ اللهِ خَرَجَ وإِلى اللهِ يَمْضِي،

تشكّلُ هذه الآياتُ مقدّمةً، لا لخبرِ غَسْلِ الأرجلِ فقط، بل لكلِّ القسمِ الثّاني من إنجيلِ يوحنّا الذي يبدأ في (ف 13) وينتهي في (ف 20). لقد وصلَتْ حياةُ يسوعَ إلى ذروتِها، وصلَتْ إلى السّاعةِ التي فيها ينتقلُ من هذا العالمِ إلى أبيه، ويواجهُ في الموتِ سيِّدَ هذا العالمِ (يو 14: 30).
"قبل عيد الفصح". هذه الكلماتُ الأولى من المقدّمةِ هي مهمّةٌ. لقد أرادَ يوحنّا أنْ يقدّمَ لنا مضمونَ الفصولِ من 13 إلى 17 من كتابِه في منظارِ الفصحِ اليهوديِّ. ويستندُ هذا القولُ إلى الإشاراتِ التّاليةِ: أوّلاً: تلميحٌ إلى الفِصْحِ الجديدِ (يو 13: 1) أيِ العبورِ من هذا العالمِ إلى الآبِ. ثانيًا: الأسئلةُ التي يطرحُها على التوالي رسلٌ أربعةٌ على الرَّبّ، تذكّرُنا بالأسئلةِ الَّتي يطرحُها أصغرُ الحاضرين على ربِّ العائلةِ خلالَ العشاءِ الفصحيِّ: "يا سيّد إلى أين تذهب؟" (13: 36)، "لماذا لا أقدر أن أتبعك؟" (13: 37)، "كيف نقدر أن نعرف الطريق؟" (14: 5)، "ماذا حدث حتّى إنّك مزمعٌ أن تُظهر ذاتك لنا وليس للعالم؟" (14: 22). ثالثًا: ذكَرَ "أنا هو" (13: 19) يشيرُ إلى ما يحدث في الِّليتورجيا اليهوديّةِ. فعندَ تلاوةِ معجزاتِ سفرِ الخروجِ، كانوا يشدّدون على أنّ اللهَ بنفسِهِ، وليسَ آخرَ، كانَ حاضرًا ليقومَ بهذه المعجزاتِ. وإذ نسَبَ يسوعُ إلى نفسِه الاسمَ الإلهيَّ "أنا هو" فلكي يدلُّ على أنّه يحمِلُ في ذاتِه الحضورَ الإلهيَّ، وأنّ تحريرَ الفصحِ الجديدِ قد تمَّ فيه وبه. رابعًا: تبدو خِطَبِ الفصولِ من (13 إلى 17) على مثالِ تعليمِ ربِّ العائلةِ خلالَ العشاءِ الفصحيِّ عندَ اليهودِ. خامسًا: نلاحظُ أنّ هذا العشاءَ يتضمّنُ أمورًا غيرَ عاديةٍ (خبزٌ فطيرٌ، أعشابٌ مرّةٌ) تدفعُ المدعوّين إلى أنْ يطرحوا الأسئلةَ، وهذا ما يعطي المحتفلَ مناسبةً لتفسيرِ أبعادَ كلِّ حركةٍ وفعلةٍ. وغَسْلِ الأرجلِ خلالَ عشاءِ المعلّمِ الأخيرِ مع تلاميذِه، يبدو حركةً مدهشةً وغيرَ مألوفةٍ، ولهذا أثارَتْ سؤالًا وطلبَتْ تفسيرًا.
"أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذينَ في العَالَم، أَحَبَّهُم إِلى الغَايَة". تشدّدُ المقدّمةُ بهذه الكلماتِ، أنّ آخرَ عملٍ في حياةِ يسوعَ يشكّلُ أسمى تعبيرٍ عن حبِّه "أحبّ خاصّتَه، أحبَّهم إلى الغايةِ" وهو منتهى الحُبِّ. تشدّدُ هاتان الكلمتان اليونانيّتان (ايس، تيلوس) على كمالِ الحبِّ وملئِه. وإذ استعملَ الإنجيليُّ هاتين الكلمتين فليبرهِنْ على أنّ يسوعَ دفعَه حبَّه لخاصّتِه إلى منتهى الحدودِ، فقَبِلَ الموتَ من أجلِهم "ليس من حبٍّ أعظم من أن يبذلَ الإنسانُ نفسَه عن أحبّائه" (يو 15: 13). غَسْلُ الأرجلِ إذًا، يقعُ في إطارِ حبِّ المعلّمِ الكاملِ لخاصَّتِهِ.

4. قَامَ عَنِ العَشَاء، وخَلعَ رِدَاءَهُ، وأَخَذَ مِنْدِيلاً واتَّزَرَ بِهِ.
5. ثُمَّ صَبَّ مَاءً في إِنَاءِ التَّطهِير، وبَدَأَ يَغْسِلُ أَقْدَامَ التَّلامِيذ، ويُنَشِّفُهَا بِالـمِنْدِيلِ الَّذي كَانَ مُتَّزِرًا بِهِ.

إعتادَ النّاسُ أن يغسلوا أرجلَهم حين يدخلون إلى البيتِ، وقبلَ أن يستعدّوا للطعامِ (قض 19: 21، لو 7: 44). أمّا غَسْلُ الأرجلِ هنا فيقعُ خلالَ حفلةِ الطّعامِ، ممَّ يدلُّ على أنّنا لسْنا أمامَ ضيافةِ تخفّف عن المسافرين فتريّحهم من غبارِ الطُّرقاتِ. والوقتُ الَّذي اختارَه يسوعُ ليقومَ بهذه الخدمةِ أعطاها طابعًا غريبًا.
في العائلةِ كان غِسْلُ أرجلِ ربِّ البيتِ خدمةً يقومُ بها لا العبدُ اليهوديُّ بلِ الغرباءُ. ولم يكنْ لهذه الفعلةُ طابعَ التَّحقيرِ، لأنّ المرأةَ تغسلُ رجلَيْ زوجِها والإبنةُ رجلَيْ أبيها.
وفي إطارِ العشاءِ السّرّي، فبالإضافةِ إلى الوقتِ غيرِ المألوفِ، هناك ما يجعلُ هذه الفعلَ غريبًا: يسوعُ المعلّمُ (آ 13-14) يتنازلُ ويغسِلُ أرجلَ تلاميذِه. وتبرزُ الدَّهشةُ أمامَ مثلِ هذا الفعلِ، حين يُقدّمُ الإنجيليُّ ذلك الَّذي يغسِلُ الأرجلَ، في بهاءِ مجدِهِ كالرَّبِّ (آ7، 13-14) الّذي هو سيِّدُ السّماءِ والأرضِ (آ3) والّذي يستعدُّ للعودةِ إلى الآبِ (آ1، 3) ليرتديَ القدرةَ الإلهيّةَ (يو 17: 24).
حين قامَ يسوعُ بهذا العملِ، انتظرَ أن يرى الدَّهشةَ عندَ أخصّائِهِ. وهو كمعلّمٍ حكيمٍ سبَّبَ هذه الدَّهشةَ، لينقلَ تعليمًا مهمًّا يتعلّقُ برسالتِه وبمتطلّباتِ الحياةِ المسيحيّةِ. وإذ أرادَ الإنجيليُّ أن يبيّنَ نيّةَ الرَّبِّ العميقةَ، جعلَ في أساسِ خبرِ غَسْلِ الأرجلِ البنيةَ المثلّثةَ المعمولَ بها لدى الرّبانيّين. فأدبُ الربانيّين يعرِفُ هذا الأسلوبَ التّربويَّ الذي يقومُ على فعلٍ سريٍّ يطرحُ سؤالاً ويُعطي المناسبةَ لنقلِ التّعليم. فرغمَ تشعّبِ النصِّ الذي نحن بصددِه، نجدُ أنّه يتبنّى هذه البُنية: تصويرُ الفعلِ السّريِّ (آ4-5)، السُّؤالُ (آ6)، التّفسيرُ (آ12-15).
يدخلُ غَسْلُ الأرجلِ عندَ يوحنّا في فئةِ الآياتِ (أعمالٌ تملِكُ بُعْدًا تاريخيًّا منظورًا، وتملِكُ بُعدًا ثانيًا لا يُدرُك إلاّ في نظرةِ الإيمان). فمن خلالِ فعلِ المعلّمِ (غَسْلِ الأرجلِ)، نكتشفُ معنىًى مخفيًّا لا نصِلُ إليه إلاّ بالإيمانِ. وهذا ما يشيرُ إليه استعمالُ فعلين يدلُّ الواحدُ على خلعِ الثيابِ (التَّخلّي عنِ الحياةِ) والثّاني على استردادِ الثيابِ (إستردادِ الحياة).
من جهةٍ أخرى، إنّ ارتباطَ خبرِ غَسْلِ الأرجلِ والعشاءِ (آ4-5) بساعةِ الألمِ والمجدِ (آ1-3) يدلُّ أيضًا على أنَّ غَسْلَ الأرجلِ هو آيةُ طريقِ الاتّضاعِ التي اختارها الرّبُّ للرُّجوعِ إلى أبيه. أخيرًا، إنّ حواَر يسوعَ مع بطرسَ يساعدُنا على اكتشافِ معنى هذه الآيةِ حين نُبْرِزُ رمزيّتَها التي توجِّهُنا نحوَ الآلامِ.

6. فَلَمَّا وَصَلَ إِلى سِمْعَانَ بُطْرُس، قَالَ لَهُ سِمْعَان: "أَنْتَ، يَا رَبّ، تَغْسِلُ قَدَمَيَّ؟‌‍‍‍!".
7. أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "أَنْتَ لا تَعْلَمُ الآنَ مَا أَنَا أَفْعَل، ولـكِنَّكَ سَتَفْهَمُ في ما بَعْد".
8. قَالَ لَهُ بُطْرُس: "لا، لَنْ تَغْسِلَ قَدَمَيَّ أَبَدًا!". أَجَابَهُ يَسُوع: "إِنْ لَمْ أَغْسِلْكَ فَلَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ مَعِي".
9. قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُس: "يَا رَبّ، لا تَغْسِلْ قَدَمَيَّ فَقَط، بَلْ يَدَيَّ ورَأْسِي أَيْضًا".
10. قَالَ لَهُ يَسُوع: "مَنِ اسْتَحَمَّ لا يَحْتَاجُ إِلاَّ إِلى غَسْلِ قَدَمَيْه، لأَنَّهُ طَاهِرٌ كُلُّه. وأَنْتُم طَاهِرُون، ولـكِنْ لا جَمِيعُكُم!".
11. وكَانَ يَعْلَمُ مَنْ سَيُسْلِمُهُ، ولِهـذَا قَال: "لَسْتُمْ جَمِيعُكُم طَاهِرِين".

هذا الحوارُ بين يسوعَ وبطرسَ، يقدّمُ لنا تفسيرًا عن غَسْلِ الأرجلِ لا يتوافقُ مع التَّفسيرِ التّي تتضمّنُه (آ12-15) من النَّصِّ نفسِه، بحيْثُ يمكنُنا أن نَطرَحَ العديدَ من التّساؤلاتِ: أيّةُ علاقةٍ بين مَثَلِ المحبّةِ المتواضعةِ ومضمونِ (آ8) "إن لم أغسِلْكَ فليس لكَ نصيبٌ معي؟" كيف نفهمُ أيضًا أنّه بعْدَ الَّذي قالَه "من استحمَّ لا يحتاجُ إلاّ إلى غَسْلِ قدميه، لأنَّه طاهرٌ كلّه"، أن يقومَ يسوعُ بِغَسْلِ الأرجلِ وتفسيرِ عملِه؟ ولماذا الإشارةُ إلى أنّ فَهْمَ هذا العملِ سيُعطى للتَّلاميذِ فيما بعد (آ7)، أي بعد موتِه وقيامتِه، في حيْثُ تُقَدِّمُ الآياتُ (12-15) تفسيرَ هذا العملِ؟
جوابُنا على هذه التَّساؤلات، يكشِفُه لنا تحليلُ الحوارِ وهو من ميزاتِ الأسلوبِ اليوحنّاوي. هناك معنيان لكلمةِ "طاهر" و"استحمّ" أو "اغتسل": المعنى الماديَّ والمعنى الرّوحي. هناك عدمُ فهمِ بطرسَ الّذي يبقى على المستوى المادي، بينما نحن أمامَ تعليمٍ روحيٍّ (رج يو 2: 20، 3: 4، 4: 11، 6: 26، 8: 33، 11: 11، 12: 14)، نحن بحاجةٍ إلى شرحٍ مكمّلٍ. وهناكَ ملاحظةٌ (آ11) كانَ يسوعُ يعرفُ من سيُسلِّمُه، الَّتي تطابِقُ طريقةَ عملِ الإنجيليِّ الّذي يشدّدُ على معرفةِ يسوعَ لأعماقِ القلوبِ (يو 2: 22، 6: 64).
إنّ الكلماتِ "ستفهمُ فيما بعد" (آ7) تُعيدُنا إلى زمنِ الآلامِ والقيامةِ، وليس فقط إلى الشّرحِ الّذي سيُعطى بعد غَسْلِ الأرجلِ، لأنّ الفَهمَ الكاملَ لأعمالِ يسوعَ لا يُعطى في نظرِ يوحنّا إلاّ بعدَ القيامةِ. بعدَ القيامةِ سنفهمُ أنّ معنى غَسْلِ الأرجلِ لا يقتصرُ فقط على الخدمةِ كفعلِ محبّةٍ بل على بذلِ الذّاتِ في سبيلِ من نُحِبُّ.

12. وبَعْدَ أَنْ غَسَلَ أَقْدَامَهُم ولَبِسَ رِدَاءَهُ وعَادَ فَاتَّكَأَ، قَالَ لَهُم: "أَتَفْهَمُونَ مَا فَعَلْتُ لَكُم؟
13. أَنْتُم تَدْعُونَنِي الـمُعَلِّمَ والرَّبّ، وحَسَنًا تَقُولُون، لأَنـِّي كَذـلِكَ.
14. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا الرَّبَّ والـمُعَلِّمَ قَدْ غَسَلْتُ أَقْدَامَكُم، فَعَلَيْكُم أَنتُم أَيْضًا أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُم أَقْدَامَ بَعْض.
15. لَقَدْ أَعْطَيْتُكُم مثَالاً، لِتَفْعَلُوا أَنْتم أَيْضًا كَمَا فَعلْتُ أَنَا لَكُم.

إنّ التَّفسيرَ الكريستولوجيَّ الذي يرى في غَسْلِ الأرجلِ رمزًا إلى القيامةِ الخلاصيّةِ لموتِ يسوعَ، يعودُ بنا إلى اللاّهوتِ اليوحنّاوي. أمّا (آ12-15) فهي تقدّمُ القاعدةَ الأخلاقيّةَ الأولى للحياةِ المسيحيّةِ. إنّ يسوعَ السَّيِّدَ والرَّبَّ، يدلُّ بعملِ الغَسْلِ المتواضعِ أنّه جاءَ ليَخدُمَ لا ليُخدمَ. فعلى تلاميذِه أن يحيوا حياةً تدلُّ على أنّ حبَّهم للآخرين هو القيمةُ الأولى في وجودهم. أنْ نعملَ كما عَمِلَ يسوعُ، هذا يعني أنْ ندخلَ في تيّارِ حياتِه ورسالتِه، هذا يعني أنْ نرى في وجودِنا الخدمةِ لإخوتِنا، كما يعني أنْ نفهمَ أنّ المسيحيَّ وُجدَ للآخرين فيقبلُ وضعَ "الخادمِ" ويُقاسمُ المسيحَ آلامَه.

خلاصة روحيّة
إنّ قراءةَ هذا النَّصِّ يومَ خميسِ الأسرارِ، يحافِظُ على الإطارِ الحياتي لغَسْلِ الأرجلِ. ثمّ إنّ الجماعةَ المسيحيّةَ تُبنى في الاحتفالِ بالإفخارستيّا بفضلِ حضورِ الرَّبِّ المجيدِ فيها. فثمرةُ كلِّ إفخارستيا هي فيضُ حبٍّ إلهيٍّ يتيحُ للمسيحيِّ أنْ يخدمَ على مثالِ معلّمِه. تفرّدَ يوحنّا في ربطِ العشاءِ الفصحيِّ بِغَسلِ الأرجلِ ليؤكّدَ لنا، أنَّ لا معنى لأيِّ إفخارستيّا إنْ لمْ تُترجَمَ حبًّا يصلُ بصاحبِه، لا إلى الخدمةِ فَحَسْبُ، بل إلى بذلِ ذاتِه في سبيلِ من يحبُّ.
وقراءةُ حدَثِ غَسْلِ الأرجلِ في منظارِ سرِّ الفُصْحِ تذكّرنا أنّه إنْ كانَ المسيحُ المائتُ والقائمُ يحرّرُنا من الخطيئةِ ويخلّصُنا من الموتِ، فلكي يربِطُنا بخدمةِ اللهِ وخدمةِ إخوتِنا والموتِ في سبيلِهم. فالحياةُ الجديدةُ التي ينْقِلُها إلينا السِّرُّ الفصحيُّ، تتضمّنُ قبلَ كلِّ شيءٍ متطلّباتِ الحُبِّ وعطاءِ الذّاتِ.


تحميل المنشور