التّقوى الشّعبيّة بين الأصول والانحرافات

التّقوى الشّعبيّة بين الأصول والانحرافات

التّقوى الشّعبيّة بين الأصول والانحرافات
حديث للخوري عبدو بو ضاهر
تفريغ دائرة الإعلام
1 - تعريف التّقوى الشعبيّة بحسب مفهوم الكنيسة
سبّب مفهوم التّقوى جدالات كبيرة في تاريخ الكنيسة، وخاصّةً في المجمع الفاتيكاني الثّاني وبعده. فكان هناك تيّارًا حوّل التّقوى إلى تديّن. والمفهومان: التّقوى الشّعبيّة والتّديّن الشّعبي يتمّ الخلط بينهما. لذلك ظهر هذا المجمع وأعطى إلى لتّقوى مكانتها الأصيلة في حياة الكنيسة والحياة الروحيّة الداخليّة.

نستخلص التّقوى في المفهوم المسيحيّ من القديس بولس في رسالته الأولى إلى تلميذه طيموتاوس: " عظيمٌ هو سرّ التّقوى " (1 طيم 3: 16). وما هي التّقوى في المفهوم الكلاميّ والبيبليّ؟ فهي الحياة مع المسيح وفي المسيح ولأجل المسيح. لذلك، هي في الحقيقة، الحياة الداخليّة، حيث يتّصل الإنسان في الله، والتّعبير الإيمانيّ البسيط والشّخصيّ الّذي يدخل فيها الإنسان في علاقة داخليّة وإلى العمق مع المسيح. فالمجمع الفاتيكاني الثّاني وجميع الباباوات الّذين تعاقبوا بعده، وضعوا التّقوى ضمن هذا المفهوم: " الحياة الرّوحيّة الشّخصيّة "، حيث تكون في البداية شخصيّة وبعدها تأخذ البعد الجماعي كونها شعبيّة وغير شعبويّة. هذا الأخير الّذي يعيش أيضًا حياةً روحيّة، يعبّر عن إيمانه بتعابير تقويّة عديدة (المسبحة الجماعيّة، الحجّ...). ولكن تبقى اللّيتورجيّا هي عمل الشّعب الأساسيّ والضّروريّ، كما ذكر مجمع الفاتيكاني الثّاني في الدّستور حول اللّيتورجيّا أنّ لا شيء يمكن أن يكمّل اللّيتورجيّا وخاصّة الأفخارستيّا التّي هي القمّة لحياتنا الروحيّة ومنها تصدر بعض الأعمال التقويّة مثل السّجود للقربان.
تأتي التّقوى من كلمة " التّقي " أي الّذي يخاف الله ويعيش في حضرته. ومن هذه العلاقة، ينفتح الإنسان على الآخر. لذلك، تكون التّقوى أصيلة عندما يتّصل الإنسان بالله ويعيش إيمانه بالتزام جماعيّ وإيمانيّ منفتح على الكنيسة وتعاليمها. فيمكننا القول إذًا، أنّ هذه التّقوى لها أصولها وفي الوقت ذاته لها انحرافاتها وتعابيرها. فالبابا بيندكتوس يفسّرها بكونها لغة الإنسان البسيط المنفتح على الله. وانطلاقًا من الإنجيل، تكون الحياة الروحيّة عندما ندخل إلى مخدعنا ونصلّي في الخفاء وأبانا الّذي يرى في الخفاء هو الّذي يُجازينا (را متى 6: 6). التّقوى إذًا، هي الحياة الخفيّة التي أعيشها (مسبحة، سجود، تكريم والدة الإله مريم، القدّيسين...) في حضرة الله دائمًا. ففي فرح الإنجيل يربط البابا بين علاقة الإنسان بالله وشهادة إيمانه.

2 - أهم تعابير التّقوى ونشأتها
يتحدّث تعليم الكنيسة الكاثوليكيّ عن الأسرار وأهمّيّتها، والمجمع الفاتيكاني الثّاني يعتبرها كالنّبع، فهي الأرفع والأسمى ولا شيء يمكن أن يحلّ مكانها. وهنا، يعتبر أنّ التّقوى هي عيش الإيمان اليومي البسيط.
نشأت التّقوى في الكنيسة الأولى، حيث كانت تعبّر عن حياةٍ روحيّة هدفها التّشبّه بالمسيح. فأوّل تقوى شعبيّة في تاريخ الكنيسة ظهرت عندما بدأ المؤمن في البحث عن علاقة يتشبّه ويتتلمذ من خلالها إلى يسوع المسيح. ومنها نشأ مفهوم الحجّ إلى الأراضي المقدّسة وهي من أهم تعابير التّقوى الشعبيّة، الإنسان الذي يسير في زيارة الأماكن المقدّسة كي يختبر اختبارًا روحيًّا من خلال المكان أي المحطّات الأساسيّة الّتي عاش فيها يسوع المسيح. ونشأت أيضًا إلى جانب هذه الظّاهرة أعمال تقويّة (الحج، حمل ذخيرة الصّليب، كفن يسوع المسيح) ومنها ظهر ما يُسمّى بدرب الصّليب حيث كانت غايته الاقتداء بالمسيح. بناءً على ما تقدّم، يمكننا القول أنّ التّقوى ترتكز على العاطفة وليس على العواطف (sentiment / sentimentalisme). العاطفة هي الشّعور في الحاجة إلى الصّلاة، التّواجد في حضرة الله بكلّيّتنا وأحاسيسنا للتّعبير عن محبّتنا الكبيرة له. وعندما نتحدّث عن العاطفة الحقيقيّة نعود إلى القلب، هذه العلاقة الّتي تأتي من داخل الإنسان. وهذه الممارسة تنحرف عن مسارها إذا بقيت كلمات خارجيّة غير مرتكزة على علاقة حميميّة وصادقة مع يسوع المسيح. أمّا العواطف، فتلك الّتي تنشأ في مكانٍ مُحدّد ووقت محدّد ولا تنبع من علاقة ثابتة بالمسيح.
التّعبير الأوّل
إلى جانب درب الصّليب، نشأ في القرن الثّاني عشر تعبيرٌ أساسيٌّ وهو التّشبّه بالمسيح وعيش الآلام معه (اختبار القديسة رفقا...). فمار بولس ذكر في رسالته إلى أهل كولوسي أنّنا نكمل في آلامنا ما نقُص في آلام المسيح (كو 1: 24)، فلم تعد تعبّر التّقوى فقط عن ممارسات بسيطة ولكنّها ذهبت إلى ما هو أبعد وأشمل لتصبح " مشاركة " حيث يجذب الإنسان الآخرين بآلامه إلى يسوع المسيح.
التّعبير الثّاني
يختصّ التّعبير الثّاني بالعذراء مريم ودورها ومكانتها في حياة الكنيسة. فهذا التّعبير هو الغالب ضمن التّقويّات الشّعبيّة وفيها مجموعة كبيرة من الانحرافات وذلك، عندما نُخرج مريم من التّدبير الخلاصيّ وعمل الثّالوث واتّصالها بعمل يسوع الأساسي. فمريم رغم ذلك، تبقى مدرسةً روحيّة في الحياة التّقويّة (المسبحة، التكرّس كمريم ليسوع المسيح، تكريم الأيقونات، صلاة الورديّة، لبس ثوب الكرمل، لبس المسبحة) وهي ظواهر أساسيّة للتّكريم المريمي.
التّعبير الثّالث
يتمحور حول إكرام القدّيسين، والمزارات (كيفيّة التصرّف، لمن نصلّي…) والشّفاءات والظّهورات. ففي هذا الموضوع، يُجيب المجمع الفاتيكاني الثّاني وبعده تعليم الكنيسة أنّ هذه التّعابير التّقوّية بحاجة إلى تنقية وتطهير وإعطائها المعنى الصّحيح. فعندما نصلّي، تكون الصّلاة موجّهة إلى يسوع، أمّا مريم والقدّيسون فيساعدوننا ويعلّموننا كيفيّة الصّلاة والاستسلام الكلّيّ لله.
التّعبير الرّابع
كل ما يتعلّق بالحجّ إلى المزارات، الزيّاحات القربانيّة والقدّيسين والاحتفالات الّتي تُقام حول اللّيتورجيّا. لذلك، في البالحجّ إلى المزارات، الزيّاحات القربانيّة والقدّيسين والاحتفالات الّتي تُقام حول اللّيتورجيّا. لذلك، في التّقوى ثقافة حاضرة وخاصّة غير موجودة في أماكن وثقافات أخرى. ففي فرح الإنجيل، يذكر البابا أنّ التّقوى تساهم في عمل الأنجلة. ففي لبنان، لدينا أماكن عديدة للقدّيسين ولكن حول هذه الأماكن تنشأ تقاليد شعبيّة. في أعياد القدّيسين، يبقى القدّاس شيئًا ثابتًا وأساسيًّا وحوله تنشأ عادات تقويّة وغيره من المناسبات... وهنا وُجِبَ التّمييز والفصل بين التّقوى الّتي تعبّر عن الإيمان والتّديّن الشّخصيّ والشّعبيّ حيث أكثريّة الشّعب ما زال متعلّقًا به وخاصّة جيل الشّباب اليوم الّذين يؤمنون أحيانًا ببعض الأقوال الشّعبيّة البعيدة عن الإيمان الصّحيح مثل: " صوم وصلّي بتركبك القلّي ". وهذه الموروثات التّديّنيّة والوثنيّة مازالت موجودة إلى اليوم ولم يتحرّر منها الشّعب المسيحي وخاصّةً في لبنان.

وبناءً على ما تمّ ذكره سابقًا، يجب على التقّوى أن تكون مبنيّة على أصل ثابت وذلك من خلال تنقيتها من جميع الشّوائب وإبعادها عن التّديّن البسيط الطّبيعي وعن الانحرافات.

3 - أصول التّقوى الشعبيّة
إنطلاقًا من الكنيسة وفي سنة 2001، أصدر مجمع الطّقوس المقدّسة كتابًا حول التّقوى الشّعبيّة واللّيتورجيّا يعود من خلالها إلى فكر المجمع الفاتيكاني الثّاني حيث يضع الأصول والمعايير الأساسيّة ويذكر الانحرافات.
المعيار الأوّل
بالنّسبة اليه، المعيار الأوّل لكلّ ممارسة تقويّة هو محوريّة المسيح. فإذا لم يكن يسوع حاضرًا في هذه التّقوى، تكون ممارستنا ناقصة. فعندما نصلّي المسبحة، نصلّي مع مريم ونتأمّل بمراحل حياة يسوع المسيح، نتأمّل بعمل الله مع مريم ونحن مع مريم نتأمّل بحياة يسوع. فالمجمع الفاتيكاني الثّاني، إعتبر مريم أيقونة الكنيسة والمؤمن والمثال الأعلى. فعندما ننظر إلى مريم، ننظر إلى إنسانيّتنا المكتملة الّتي اكتملت بدورها في شخص مريم، فهي تبقى دائمًا النّموذج الإنسانيّ والاسكاتولوجيّ أيضًا.
المعيار الثاني
البانوراما الخلاصيّة، حيث لا يمكننا إلغاء مريم والقديسين من عمل وتدبير الله الخلاصي. فالقديسين يساعدوننا على الدخول في عمل الله الخلاصي، ففي مار شربل، أتأمّل بحياته وكيف عاش مع الله واتّحد به وكيف الله يعمل في شربل ومعه كعلامة ظاهرة في داخل الكنيسة. فالثالوث إذًا، يجب أن يكون حاضرًا لأنّ عمل الروح القدس هو الّذي يساعدنا في تنقية التّقوى لأنّه يصلّي فينا بأنّاةٍ لا توصف.
المعيار الثّالث
كلمة الله. فلا يمكننا الصّلاة إن لم تكن كلمة الله هي المحور والنّبع الحقيقي. فانطلاقًا من المجمع الفاتيكاني الثّاني " الوحي الإلهي "، كلمة الله هي الرّوح والنّبع للاهوتنا وصلاتنا.
المعيار الرّابع
الأسرار. فلا تقوى تحلّ مكان الأفخارستيّا أو التّوبة أو الاحتفال بشبه الأسرار (التبريكات)، فكل شيء يجب أن يكون مرتبطًا باللّيتورجيّا، فتكون مهمّة التّقوى أن تقوم بمسيرة نحو الأفخارستيّا: فلا تحلّ مكانها ولا تكمّلها.
المعيار الخامس
 شهادة الحياة الّتي ترتبط بحياة روحيّة مسيحيّة ملتزمة.
لذلك، على التّقوى الشّعبيّة أن تحترم الآخر أي المسكونيّة، فتكون ممارستنا غير مستفزّة للكنائس الأخرى. فالمجمع الفاتيكاني الثّاني أوصى بحسن اختيار التّعابير التّقويّة من أجل احترام الآخر. فمثلًا في تعبير " رُدَّ الينا الخراف الضّالّة " لا يجب أن نُظهر بأنّ من هو ضالّ هم الكنائس الأخرى الّذين ليسوا في شراكة مع كنيستنا الكاثوليكيّة. فما علينا فعله هو أن نجمع جميع الكنائس في عمل تقوّي يقرّبهم بعضهم بعضًا. فصلاة القلب الّتي نصلّيها مأخوذة من الصّلاة الأرثوذكسيّة. بالإضافة إلى ذلك، يجب علينا أيضًا الانتباه في ممارساتنا التّقويّة إلى الآخر المسلم وعدم استفزازه. فشهادة الإيمان ضروريّة ولكن برقيّ واعتدال دون أن تصبح استفزازًا للآخر. فالمسيحيّة هي طريقة عيش وشهادة حياة.

4 - انحرافات التّقوى الشعبيّة
الانحراف الأوّل
يظهر الانحراف أوّلًا في التّكريم المريميّ حيث نرى مريم أحيانًا واقفة وحدها وننسى أنّها مرتبطة دائمًا بالابن، من التجسّد إلى الوقوف أمام الصّليب حتّى القيامة والعنصرة. فمريم دائمًا مع يسوع في قلب الكنيسة. ففي الأيقونات المريميّة، تظهر العذراء تحمل ابنها يسوع وتشير اليه: " افعلوا ما يأمركم به " (يو 2: 5)، " ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك " (لو 1: 38) حيث كانت دائمًا تتأمّل وتحفظ كلّ شيء في قلبها (را لو 2: 19).
الانحراف الثّاني
طغيان العناصر والظّواهر الخارجيّة، فيصبح الزّيت والتّراب والبخور هم الأساس في حياتنا الرّوحيّة والإيمانيّة. فالشّفاء يتمّ بعمل الله من خلال المادّة، ويسوع استعمل المادّة الخارجيّة كالتّراب ليشفي الأعمى. إذًا، الّذي يشفينا هو الله وليس المادّة بذاتها. ومن هنا، عندما تطغى الظّواهريّة على التّقوى، ننسى عمل الله الخفيّ، عمل الروح لنركّز على ما هو ثانوي.
الانحراف الثّالث
" le synchrétisme " أي عندما نخلط بين المعتقدات حيث نضع أحيانًا إلى جانب الصّليب خرزةً زرقاء لتحمينا من العين. لذلك، من يؤمن بفعاليّة بالصّليب، ليس بحاجة إلى ظواهر أخرى. فالانحراف يكون عندما يتقارب ويتجانس التّديّن الوثني مع العلامة الأسراريّة. كما يمكننا أن نذكر أيضًا طريقة إيماننا بالقدّيسين حيث يصبح العديد منهم في موازاةٍ مع المسيح وأحيانًا أهم منه.
الانحراف الرابع
قضيّة الشّفاعة. فشفاعة القدّيسين وشفاعة يسوع المسيح ليست نفسها. شفاعة إبراهيم وأيّوب تترجم من اليونانيّة في الكتاب المقدّس " توسّل إلى أو توسّل عن "، فالقدّيس هو الّذي يتوسّل من أجل الإنسان أمام الله، وهذا هو دوره الأساسي. فالقدّيسون حاضرون في حياة الكنيسة ويصلّون معنا كمريم في عرس قانا عندما قالت ليسوع: " لم يعد لديهم خمر " (يو 2: 3). بينما يسوع هو الشّفيع الأوحد والوسيط الوحيد أمام الله، فتسمّى شفاعته بالتّكفيريّة لأنّه هو وحده مصدر الخلاص للعالم الّذي يكفّر عن خطايانا ويفدينا بدمه. لذلك، دور القدّيسين أنّهم في قلب الكنيسة مثال للمؤمنين للوصول إلى السّماء، وأصدقاء الشّبيبة كمال يقول البابا بيندكتوس وبعده البابا فرنسيس. فكلّ منّا له شفيعه الخاص الّذي يجذبنا اليه حياته الشّخصيّة والرّوحيّة وكيف أحبّ المسيح. فهم يشجّعوننا في وقت الضّعف والضّيق لأنّهم واقفون إلى جانبنا وأمامنا وخلفنا في كلّ وقت من أيّام حياتنا ليرشدوننا إلى الطّريق الّتي تؤدّي إلى المسيح. كما وأنّهم أبناء الملكوت، البعد الإسكاتولوجي الّذي ننظر اليه. أمّا فيما يخصّ مريم، فشفاعتها في أمومتها، بدورها في مشروع الخلاص، فتكون هذه الشّفاعة عطيّة يسوع إلى الكنيسة وهو على الصّليب عندما قال ليوحنا: " هذه هي أمّك " وقال لمريم: " هذا هو ابنك " (را يو 19: 26-27). فيسوع سلّم مريم إلى الكنيسة وسلّم الكنيسة اليها.
الانحراف الخامس
الشّعوذة في التّقوى حيث نضع القوّة الشّفائيّة في أمور المادّة والظّواهر الخارجيّة ونحوّل يسوع والقدّيسين والعمل الأسراري إلى سحر. فالقوّة تبقى دائمًا في عمل الله وعمل الروح وعلى حسب رغبة الإنسان، حرّيّته ورغبته.

لمشاهدة الحلقة الثانية عشرة من الموسم الأوّل من برنامج "أرِنا خلاصك" مع الخوري عبدو بو ضاهر يمكنكم الضغط على الرابط التالي:
أرنا خلاصك - الموسم الأوّل - الحلقة الثانية عشر