كَسر الكلمة -1- أحد تقديس البيعة

كَسر الكلمة -1- أحد تقديس البيعة

أحد تقديس البيعة

(إفتتاح السنة الطقسيّة)

 (متى 16/ 13 – 20)
13 وجَاءَ يَسُوعُ إِلى نَواحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيْلِبُّسَ فَسَأَلَ تَلامِيْذَهُ قَائِلاً: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَان؟".
14 فقَالُوا: "بَعْضُهُم يَقُولُون: يُوحَنَّا الـمَعْمَدَان؛ وآخَرُون: إِيْليَّا؛ وغَيْرُهُم: إِرْمِيَا أَو أَحَدُ الأَنْبِيَاء".
15 قَالَ لَهُم: "وأَنْتُم مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟".
16 فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وقَال: أَنْتَ هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الـحَيّ!".
17 فأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بنَ يُونَا! لأَنَّهُ لا لَحْمَ ولا دَمَ أَظْهَرَ لَكَ ذـلِكَ، بَلْ أَبي الَّذي في السَّمَاوَات.
18 وأَنَا أَيْضًا أَقُولُ لَكَ: أَنْتَ هُوَ بُطْرُسُ، أَيِ الصَّخْرَة، وعلى هـذِهِ الصَّخْرَةِ سَأَبْنِي بِيْعَتِي، وأَبْوَابُ الـجَحِيْمِ لَنْ تَقْوى عَلَيْها.
19 سَأُعْطِيكَ مَفَاتيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَات، فَكُلُّ مَا تَربُطُهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا في السَّمَاوَات، ومَا تَحُلُّهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً في السَّمَاوَات".
20 حينَئِذٍ أَوْصَى تَلامِيْذَهُ أَلاَّ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ هُوَ الـمَسِيح.

مقدّمة 
الأحد الأول من السنة الطقسيّة المارونيّة، هو أحد تقديس البيعة، فيه تدعونا الكنيسة للتأمّل في محوريّة يسوع في حياتنا وفي حياة الجماعة. من هو بالنسبة لنا؟  وهل عرفناه حقًّا؟ لأن معرفته الحقيقيّة وإعلان حقيقته في حياتنا وفي قلب العالم هو الجديد الدائم الذي يجعل من عبادتنا عبادة متجدّدة وحيّة، عبادة تقدّسنا وتقدّس الكنيسة والعالم. تدعونا الليتورجيا في الأحد الأول لإعلان هذا المقطع المحوري من إنجيل متى، فهو قلب الإنجيل والمفترق الأهم في بشارة يسوع وحياة الرسل والكنيسة. فيما نفتتح سنةً طقسيّةً جديدةً، يساعنا انجيل هذا الأحد الأول على عيش هذا الحدث الروحي كمفترق لتجديد إيماننا والتزامنا مع الربّ والسير معه بثبات وجديّة.

شرح الآيات
13 وجَاءَ يَسُوعُ إِلى نَواحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيْلِبُّسَ فَسَأَلَ تَلامِيْذَهُ قَائِلاً: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَان؟"
بحسب "مرقس ومتّى" نحن في قيصريّة فيليبس، وهي مدينة قائمة قرب ينابيع الأردنّ، بناها هيرودوس فيليبّس على اسم أوغسطس قيصر على بعد 32 كم شمالي بحيرة طبرية قرب الحدود اللبنانية (بانياس حاليًا). اعطى اوغسطس قيصر هذه المدينة الى هيرودس سنة 20 ق.م.، فبنى فيها معبدًا من الرخام الأبيض على اسم الإمبراطور قيصر، وكان يُدعى اوغسطس في هذا المكان ابن الاله. في هذا المكان يوجّه يسوع سؤاله الى تلاميذه "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَان؟" كي يُزيل من أذهانهم أنّ القيصر هو ابن الإله، ويكشف لهم عن حقيقة ذاته ورسالته هو"يسوع المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 15). تفرّد متّى في استعمال عبارة "ابن الانسان" في سؤال يسوع للتلاميذ، بحسب نبوءة حزقيال "يا ابنَ الإِنسان " (حزقيال 2: 1) هو إنسان مثل سائر الناس. بحسب نبوءة دانيال وتناغمًا مع الأدب الرؤيويّ اليهوديّ "ابن الانسان" هو أيضا ذاك الآتي على سحاب السماء في اليوم الآخر ليدين الخاطئين ويُخلص الأبرار وهو رئيس الشعب وممثّله ومثاله (دانيال 7 / 13 – 14). في سؤال يسوع استجواب للتلاميذ حول هويته الشخصيّة ومعرفتهم به، فاللّقاء معه سبيلٌ إلى معرفته الحقيقيّة ليصبح الإله الحيّ والسيّد المطلق على حياة التلاميذ.

14 فقَالُوا: "بَعْضُهُم يَقُولُون: يُوحَنَّا الـمَعْمَدَان؛ وآخَرُون: إِيْليَّا؛ وغَيْرُهُم: إِرْمِيَا أَو أَحَدُ الأَنْبِيَاء"
التلاميذ في جوابهم كأنّهم ينقلون تقريرًا عن نتائج استطلاع للرأي، والتي سبق ونُقلت إلى هيرودس حول يسوع إبن الإنسان، في لوقا 9/ 7 – 8. هذه الآراء المختلفة حول ابن الإنسان تتّفق على أمر أساسيّ وهو أنّ يسوع له دور في تاريخ الخلاص. فهو إمّا يوحنا المعمدان، وفي هذا إشارةٌ الى ذكره الذي ظلّ حاضرًا في ذاكرة الجماعة الأولى، بخاصّةٍ أنّ بعض اليهود كانو يظنّون انّ إيليا عاد في شخص المعمدان (مر 11/ 13)، وهذا واضح في انجيل لوقا " كانَ الشَّعْبُ يَنتَظِر، والـجَمِيعُ يَتَسَاءَلُونَ في قُلُوبِهِم عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ هُوَ الـمَسِيح" (لوقا 3: 15). أما الرأي الثاني فقد رأى في يسوع  صورة إيليا النبي الذي رُفع الى السّماء (2ملوك 2/11-13)، وكان اليهود ينتظرون مجيئه قبل مجيء المسيح في الأزمنة الاخيرة (ملاخي 3: 23). متّى يتفرّد في ذكر النبي إرميا، فالمسيحيّون الأوائل كانو مندهشين من أوجه الشّبه بين يسوع والنبيّ المضطهد من شعبه. أمّا عبارة أحد الأنبياء فهي تؤكّد على أنّ الناس اعتبروا يسوع رجلّا عظيمًا له حضوره الفاعل في وسط الشعب. كلّ هذه الاعترافات تشير إلى الماضي، ما من أحدٍ يشير إلى أنّ يسوع هو من يحقّق وعود الله في اللحظة الآنيّة.

15 قَالَ لَهُم: "وأَنْتُم مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟"
دون أنّ يعلّق على رأي الناس، يتوجّه يسوع بسؤالٍ مباشر للتلاميذ، مشجّعًا إياهم على الكشف عن آراءهم الخاصّة تجاهه. لا يمكن أن يبقى جوابهم عن هويّة يسوع جوابًا عامًّا غير شخصيّ. إنّ ما ينقله الناس لي عن يسوع ممكن أنّ أتخلّى عنه في لحظةِ شكٍ أو أمامَ اختبارٍ إيمانيٍّ صعب، أمّا معرفتي الشخصيّة للربّ والناتجة عن اختباري الشخصيّ له فلا يمكن ينتزعها أحدٌ منّي، لأنّها نعمةٌ أتتني من عَلُ.

16 فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وقَال: أَنْتَ هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الـحَيّ!"
سمعان بطرس كما يسمّيه متّى سيكون الناطق باسم الجماعة. جواب بطرس الفوري بالنيابة عن التلاميذ قد يظهر لنا ناحيّة من شخصيّة بطرس المندفعة وطبعه المُتسرِّع، ولكنّ القراءة اللاهوتيّة والروحيّة تأخذنا إلى معنًى أعمق، فهو المختار من الله ليعلنَ إيمانَ الجماعة ويثبّتها، واختياره لا يقوم على معايير بشريّة تجعل منه القائد الأفضل وإنّما على اختيار إلهي يجعل منه رأسًا للجماعة. في إنجيل مرقس يقتصر جواب بطرس على عبارة " أنت المسيح" (مر 8/29) (كلمة مسيح تعني المختار من الله والممسوح أي المكرّس له والمرسل من قبله ومع العهد الجديد سيشير هذا اللّقب إلى ابن الله وكلمته). متّى في إنجيله يضيف عبارة "ابن الله" وهي لقبٌ كتابيّ كان يطلق في العهد القديم على الملائكة وعلى الشعب المختار، وعلى اليهود المؤمنين، وعلى المسيح الآتي (2مل 7/14، مز 2/7)، وهو يقوم على صلة خاصّة بالله تقوم على اختيار الله انسانًا، وتكليفه برسالة. انطلاقًا من هذا المفهوم يريد متّى أن ينقل إلينا اعتراف الجماعة المسيحيّة بألوهيّة يسوع، إذ رأت في هذا اللقب دلالة على صلته الفريدة والمتميّزة بالله الآب، ودلالة على رسالته الخلاصيّة للبشريّة جمعاء. فجواب بطرس هو جواب التلاميذ وبالتالي جواب الكنيسة المؤمنة بيسوع مسيحًا مخلّصًا وابنًا وحيدًا لله. أما عبارة "الحيّ" فهي تعارض بشكلٍ واضح مفهوم الآلهة الوثنيّة الجامدة وهي اعترافٌ بقيامة المسيح وحضوره الفاعل في الكنيسة من خلال حلول الروح القدس.

17 فأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بنَ يُونَا! لأَنَّهُ لا لَحْمَ ولا دَمَ أَظْهَرَ لَكَ ذـلِكَ، بَلْ أَبي الَّذي في السَّمَاوَات"
حظيَ بطرس بوحيٍ إلهيّ خاصّ في معرفته سرّ يسوع، لذلك استحقّ هذه الطوبى، مع أنّه لم يفهم كلّ أبعاد هذا السرّ، إنّما فتح قلبه للنعمة واستقبلها وأثمرت اعترافًا علنيًّا. عبارة "اللحم والدمّ" تعني الانسان كلّه مع التشديد على الناحية الضعيفة منه، فمعرفة الربّ لا تكون بالعلم والعقل فقط، بل مصدرها الأوّل نور الايمان الّذي يفيض من الله على الانسان، ومحبّته الّتي تنسكب في قلبه. فاعتراف بطرس الإيمانيّ ليس نتيجة مجهودٍ فكريٍّ بشريّ ولكن بوحيٍّ إلهيّ وهو من علامة حبّ الله واختياره لبطرس. القديس بولس يستخدم الأسلوبَ نفسَه في كلامه عن الوحي ليخبر عن اختباره على طريق دمشق: "ولـكِنْ لَمَّا ارْتَضَى ذلِكَ الَّذي فرَزَنِي مُذْ كُنْتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعَانِي بِنِعْمَتِهِ، أَنْ يُعلِنَ ابْنَهُ فِيَّ، لِكَي أُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَم، فَلِلْحَالِ مَا  اسْتَشَرْتُ لَحْمًا ودَمًا" (غل 1: 15 – 16).

18 وأَنَا أَيْضًا أَقُولُ لَكَ: أَنْتَ هُوَ بُطْرُسُ، أَيِ الصَّخْرَة، وعلى هـذِهِ الصَّخْرَةِ سَأَبْنِي بِيْعَتِي، وأَبْوَابُ الـجَحِيْمِ لَنْ تَقْوى عَلَيْها"
على إعلان بطرس "أنت المسيح ..."، أجابَ يسوع بإعلانٍ آخر " أنت الصخرة"، فأعطى لبطرس اسمًا جديدًا ما يعني بالمفهوم  الكتابي رسالة ومَهَمّة جديدة. كلمة "كيفا" الآرميّة لم تكن تستعمل في زمن يسوع كاسم علم، وكذلك لم تُسْتَعمَلْ ترجمتها اليونانيّة " بطرس". الصخر يرمز إلى الصلابة والثبات والأمانة في الكتاب المقدّس، ويطلق إجمالًا على الله كما يقول صاحب المزمور "صخرتي هو وخلاصي" (مز 62/8). بطرس استحق هذا اللقب لأنّ إيمانه ثابتٌ على اساسٍ أرفع منه أي على الله، هذه هي الصخرة التي ستُبنى عليها الكنيسة. كلمة بيعة أو كنيسة في أصلها اليوناني "إكليزيا" استعملت في الترجمة اليونانيّة السبعينيّة لترجمة كلمة "قَهَل" العبريّة التي أطلقها الكتاب المقدّس على "شعب الله المختار" تحديدًا لدى عبوره في الصحراء وتجمّعه على أقدام جبل سيناء ( تث 4/ 10 – 13) ليحتفل بالعهد منتظرًا المسيح الآتي. هذه البيعة هي جماعة المؤمنين الذين يعيشون نهاية الأزمنة ثابتين على صخرة الإيمان ومنتظرين فداء نفوسهم. "أَبْوَابُ الـجَحِيْمِ لَنْ تَقْوى عَلَيْها": الجحيم هو مثوى الأموات (عد 16/33) والأبواب رمز قوته ( أش 38/10) أي رمز قوة الشرّ، ولكنّ أبناء الكنيسة لن يغلبهم هذا الشرّ بعدَ الآن لأنّ المسيح سينزل إلى أعماقه ويخلّع مصاريع أبوابه منتشلًا الأموات منه.لا يستطيع "سُلْطان الموت" بعد الآن أن يحجزَ في الموت أعضاء الكنيسة التي أسّسها يسوع، وإنْ هم ماتوا، فهو لا يحتفظ بهم، لأنهم يقومون مع المسيح القائم.

19 سَأُعْطِيكَ مَفَاتيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَات، فَكُلُّ مَا تَربُطُهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا في السَّمَاوَات، ومَا تَحُلُّهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً في السَّمَاوَات"
في العالم اليهودي المفاتيح ترمز إلى سلطة على المستوى العقائدي والتنظيمي، فيسوع نفسه يتوجّه إلى الفريسيين " أَلوَيْلُ لَكُم، يَا عُلَمَاءَ التَّوْرَاة! لأَنَّكُم حَمَلْتُم مِفْتَاحَ الـمَعْرِفَة، فَأَنْتُم مَا دَخَلْتُم، وَمَنَعْتُمُ الَّذينَ يَدْخُلُون" (لو 11/ 52)، فبطرس حامل المفاتيح هو معلّم العقيدة والأخلاق ومنظّم حياة الجماعة، له سلطان الرَّبط (رومة 7: 2) والحلّ (1 قورنتس 7: 27)، اي التحريم والتحليل، والفصل من الجماعة او القبول فيها ثانيةً، يقبل فيها من هم أهلٌ للدخول ويرفض من لا يستحقّ. القرارات التي سيتخذها بطرس ومعه جماعة الرسل وبالتالي الكنيسة، هي قرارات بسلطان آتٍ من السَّماء، لذا يجب أن تميَّز أولًا لتأتي تحقيقًا لإرادة الله على شعبه في كلّ زمانٍ ومكان.
 
20 "حينَئِذٍ أَوْصَى تَلامِيْذَهُ أَلاَّ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ هُوَ الـمَسِيح"
يحافظ متَّى في هذه الآية على أهميّة السرّ المسيحاني. ففي الأوساط اليهوديّة كان هناك التباس واضح حول هويّة المسيح، فالكثير من اليهود كانوا ينتظرون قائدًا عسكريًا يحرّر شعبه ويقود ثورة ضدّ المحتل الروماني. أمّا المفهوم الحقيقيّ للمسيح المخلّص سيُكشف في الآلام (مرقس 14: 61-62) وسيعلن بعد القيامة من قبل التلاميذ (اعمال 2: 36). بعد الموت والقيامة وحلول الروح القدس سيفهم التلاميذ سرّ المسيح وسينطلقون لإعلانه. لا يتوجّه يسوع في طلبه هذا إلى بطرس وحده بل إلى التلاميذ كافّة وهذا يدلّ على اشتراكهم جميعًا في اعتراف بطرس بلاهوت المسيح.

خلاصة روحيّة
بعد أن حذّر يسوع تلاميذه من خمير الفريسيين والصدوقيين ومن ريائهم (متى 16: 5-12)، أخذهم الى قيصرية فيلبس، وهناك طرح عليهم سؤالين حول هويته: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَان؟" (متى 16: 13) و "وأَنْتُم مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟" (متى 16: 15). المكان والزمان وطريقة طرح السؤال أمورٌ لها مدلولٌ خاصّ لفهم النص وقراءته. يسوع والتلاميذ في قيصريّة فيلبس في عهد الرومان حيث المرجع هو نظامٌ بشريٌّ ينفذه حاكمٌ أرضيّ، يربط ويحلّ الأمور باسم القيصر. أما طريقة السؤال فهي تنطلق من العام (ما يقوله الناس) لتصلّ إلى الشخصيّ (ما أعرفه وما أعلنه أنا شخصيًا). هذه التفاصيل تدعونا لاتخاذ موقفٍ شخصيّ من الربّ ومن معرفتنا له ومن اعلاننا لحقيقته. نحن في زمنٍ تكثر فيه المرجعيات على عدّة مستويات (سياسيّة، اقتصاديّة، روحيّة، .....)، لذا نسأل أنفسنا، نحن المؤمنين، هل فعلًا يبقى الله هو مرجعنا الوحيد والمطلق وأمامه تسقط كلّ الرئاسات والسلاطين؟ في سؤال يسوع دعوة لإعلان حقيقة لاهوتيّة، ونرى أنّ هذه الحقيقة كُشفت بوحيٍّ إلهيّ وليس فقط بمجهودٍ بشريّ. في عالم الحداثة وتطوّر العلوم حيث يغيَّب الله ويسعى الانسان بقواه البشريّة والفكرية وبقدراته التكنولوجيّة ليجد الأجوبة والحلول لكلّ المعضلات والمشاكل، جاعلًا من نفسه المرجع الأول والأخير، يبقى التحدّي الأساسيّ أمام المؤمن بأنّ يجيد الإصغاء إلى إلهامات الروح القدس، الذي وحده يستطيع أن يدخلنا في سرّ الله، دون أن يضعنا في مواجهة مع العلم والتطوّر. الإنسان المؤمن ينفتح على نعمة الله مصغيًا، دون أن يفقد الواقعيّة في حياته ودون أن يصبح في حالة رفضٍ للعقل والعلم والمعلرفة. هذه الحقيقة لا يمكن أن تنقل لنا فقط عبر اعلانها، إنّها اختبارٌ شخصيّ نعيشُه في اللقاء مع يسوع. دون هذا اللقاء يبقى إيماننا تردادًا لما يقوله الغير، أمّا من يصغي إلى صوت الله في أعماقه يمكنه أن يعلن أنّ يسوع حيٌّ وهو مخلّصه الوحيد وعندها سيدخل في سرّ المسيح الذي لا يُسْبَرُ غورُه. 

في أحد تقديس البيعة وافتتاح السنة الطقسيّة، نحن مدعوون لتجديد إيماننا وإعترافنا بأنّ يسوع هو مخلصنا الوحيد، هو السيّد المطلق على حياتنا، والكنيسة هي سبيلنا للدخول في سرّ الله الخلاصيّ. نتقدّس بقدر ما نعرف الله ونختبر حقيقته في حياتنا الشخصيّة، بقدر ما نؤمن بأنّه الهًا حيًّا حاضرًا وفاعلًا في حياة الكنيسة وفي حياتنا. 
فلندخل إلى هذه السنة الطقسية الجديدة وملؤنا الرغبة في أنّ نعرف الله أكثر لنتحد به فنتقدّس ونقدّس الكنيسة.  

تحميل المنشور