الخوري ميراب الحكيم
مقالات/ 2017-10-03
لقد كثُرَ الكلام في هذه الأيّام عن القدّيسين وعن أعاجيبهم وأعمالهم الخارقة، هم الذين كرّسوا حياتهم ليسوع وتركوا مجد العالم ليتّحدوا به كلٌّ على طريقته وبحسب المواهب التي أُعطِيَت له، تحوّلوا إلى مشاهير على وسائل التّواصل الإجتماعي حتّى وصل الأمر ببعض المؤمنين إلى استبدال يسوع بهم والتعبّد لهم بشكلٍ منحرف ولا يمتّ بصلة إلى الإيمان...
لذلك، أمام كلّ هذه الضجّة الإعلاميّة والشعبيّة في الوسط المسيحي، تمنّيت لو أستطيع معرفة رأي القدّيسين أنفسهم بهذه الظاهرة، ولم يطل تفكيري حتّى تحقَّقَتْ أُمنِيَتي من خلال رؤيا، تخيّلت فيها بأنّ دعوةً قد وُجِّهَت إليَّ لزيارة السماء لإجراء مقابلات حصريّة مع بعض القدّيسين للوقوف عند رأيهم من كلّ ما يحصل من بلبلة تحت لواء أسمائهم...
عندما وصلت شعرت بسلامٍ كبير لم أعرفه سابقًا وتمنّيت لو أنّ هذه اللحظات تدوم إلى الأبد. كنت متشوّقًا لملاقاة القدّيسين وقيلَ لي بأنّ بعضًا منهم فقط قبِلوا أن يرونَني لتوضيح بعض الأمور الشائكة لعلّي أوصلها إلى المؤمنين على الأرض، وهم: مار شربل، القدّيسة فيرونيكا جولياني، ومريم العذراء.
لقد صُعِقتُ عندما رأيت وجوههم الحزينة والخائبة! فصرخت: "لماذا أنتم حزينين هكذا؟ مَن الذي أحزنكم؟" وبعد لحظاتٍ من الصّمت، أجابوا بصوتٍ واحدٍ: "أنتم المسيحيّين!". فأجبت مرتبكًا: "نحن؟! كيف؟ متى؟!" عندها طلبوا منّي الجلوس، وبدأ مار شربل بالكلام:
"أنا بطبيعتي قليل الكلام ولكن هذه المرّة سأتكلّم لكي يعلم النّاس أنّني لست أنا المسيح! في قلبي غصّةٌ كبيرة لأنّه بالنّسبة لشريحةٍ كبيرةٍ من المؤمنين أنا بمثابة رجلٍ خارقٍ للطبيعة وهم يتبعونني ويعبدونني و"يؤلّهونني" في بعض الأحيان، حتّى يصل بهم الأمر إلى نسيان الربّ يسوع! لقد تخلّيتُ عن العالم وتركتُ كلّ الأمجاد الأرضيّة لأتنسّك في صومعتي وأتأمّل جمال الخالق فيُصبح هو محور حياتي كلّها. لم يكن ذلك بالأمر السّهل عليّ كما يظنّ البعض. أنا إنسانٌ ضعيف، بجسدٍ محدود، قد جُرِّبتُ مرارًا أمرَّ التّجارب ولكن بفضل الصلاة والتقشّف تمكّنت بنعمة الله من المثابرة في عزمي... أريد أن يفهم المؤمنون بأنّه إذا كان شربل إبن بقاعكفرا يقوم بهذا الكمّ من المعجزات فليس لأنّه يحبّ أن يُظهر مجدَه، أو لأنّه هو القويّ، بل لأنّه سَمَح لعمل الله أن يتغلغل في كيانه لكي تتمجّد قوة الله فيه. إنّني أتألّم كثيرًا حين أرى الناس يتاجرون بإسمي ويفتخرون بأعمالي. أرجوك قُل لهم أنّ افتخارنا الوحيد يجب أن يكون بالله لا بالبشر! قُل لهم أن يتأمّلوا في مسيرة حياتي ويقتدوا بي في بناء مسيرةٍ إيمانيّةٍ من خلال العلاقة الشخصيّة مع الله. وعيش الإنجيل بجذريّته لكي يصلوا إلى حيث أنا الآن. فليبحثوا عن المسيح بذاته وليبتعدوا عن القشور التي يركضون خلفها للتعلّق بها! لا أريد أن يبنوا تمثالاً عملاقًا لي ويتباهوَا به! فليدخلوا الكنائس عوضًا عن ذلك ويسجدوا للقربان المقدّس..."
هنا، قاطعت القدّيسة فيرونيكا حديث القدّيس الحبيس صارخة: "آمين"، وبدأت بالكلام:
"نعم، نعم أنا لست "عملاقة" أرجوك قُل لهم ذلك! أنا إنسانة خاطئة أيضًا ولا أستحقّ هذا اللقب! أنا خادمة للربّ لا أكثر. أنا اخترت حياة الخفاء ترفّعًا عن العالم، لا لكي يأتوا الآن بعد 400 سنة وينشروا صوَري في كلّ مكان تحت عنوان "عملاق يستيقظ"!. قلبي حزين ويتألّم بسبب هذه الأمور، فالظاهر بأنّهم لم يفهموا شيئًا ممّا عشته. إنّ اختباري الشخصي في الإيمان هو نتيجة إيحاءات خاصّة جعلني الله أعيشها لأفهَم سرّ محبّته أكثر وأغوص في كيانه. هو العملاق ولا أحد غيره: الله! إذا أردتُ أن تُشيّدَ كنيسةً جديدةً للربّ يسوع، لا لكي أصبح أنا محطّ أنظار المؤمنين، أو لكي يمجّدونني أنا، بل لكي يتسنّى ليسوع أن يتجسّد في القربانة في مكانٍ إضافيّ. هي كنيسة يسوع لا كنيستي! أنا إبنة يسوع وهو عطشان إلى النّفوس وأرادني أن أكون رسولته لأنقل إلى قلوب العالم عطش الربّ لها. لا أريد أن يترك النّاس رعاياهم وكنائسهم ليأتوا إلى كنيستي أنا، لا أريد أن أصبح من المشاهير، أنا التّي كما فعل شربل، فعلت، فتركت العالم ومجده لأربح المسيح... أرجوكم لا تنسوا يسوع هو الأساس لا أنا..."
فجأةً لمحتُ ظلاًّ مضاءً قادمًا نحوي، ومع اقترابه، سمعته يُردّد: "نعم! لا تنسوا يسوع هو الأساس لا أنا". إنّها العذراء مريم المتّشحة بالحُلّة البيضاء، تتكلّم والغصّة في قلبها:
"إبني حبيبي وإلهي هو محور الإيمان، والربّ اختارني أمَةً له لكي يُظهِر مجدَ ابنهِ من خلالي للعالم. لقد رفعني فوق كلّ المخلوقات لأنّي حمَلت إبن الله في أحشائي فأضحَيتُ هيكلاً مقدّسًا لله بفعل نعمته هو الذي اختارني من قبل ولادتي. أقول للمؤمنين اليوم ما قلته يومًا في قانا: إفعلوا ما يأمركم به ابني. إقرأوا الإنجيل وتعمّقوا بكلامه وليُصبح هو دستور حياتكم! لا تبحثوا عن الحقيقة حصرًا في الظّهورات والأعاجيب، لأنّها تُضلِّلكم، بل ابحثوا عن الرسالة الموجّهة من خلالها التّي هي الأساس، والرسالة واحدة: عودوا إلى الربّ! توبوا وعودوا إليه لأنّه هو وحده سيّد الحياة. تذكّروا أنّ أعظم أعجوبةٍ في التاريخ هي تحوّل القربانة والخمر، في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، بنعمة الروح القدس، إلى جسد ودم المسيح! هي الأعجوبة الوحيدة التي لا تنتهي مدّة صلاحيّتها؛ فما دامَ هناك قدّاسٌ إلهيّ يُقام في أيّ مكان وزمان، ستظلّ هذه الأعجوبة قائمة".
ثم صمَتت للحظة متأمّلة ودمّعت عيناها وخاطبتني قائلة: "أرجوك يا بنيّ، قُل للمؤمنين أبنائي أمرًا مهمًّا جدًّا تناسَوْه: أنا لست كثيرة الكلام ولا أحبّ الظّهور، ففي الأناجيل، اخترت الابتعاد عن الأضواء لأفسح المجال ليسوع، لكي يفعل ما عليه أن يفعله وقد كنتُ أشاهد كلّ تلك الأمور من بعيد وأتأمّلها في قلبي. لم أتدخّل إلاّ مرّةً واحدة فقط في عرس قانا الجليل لكي أدفعه إلى بدأ رسالته. لذلك إن كان الربّ يريدني أن أظهر اليوم في أماكن عديدة فذلك لأنّه اختارني أنا أمّه الأعزّ على قلبه لكي يوصل رسالةً هامّةً جدًّا إلى أبنائه وأبنائي على السواء، في مكانٍ وظرفٍ معيّنَين، كما حصل في فاطيما مثلاً. أنا لست هاوية ظهورات وإذا لم أكن أبدًا في حياتي الأرضيّة كثيرة الكلام، فهل سأصبح في آخر المطاف ثرثارةً لا تتوقّف عن الكلام ؟! ظهوراتي النادرة في بعض الظروف غايتها التّذكير ببعض الأمور وتفسيره، لا أكثر ولا أقلّ! لا أريدهم أن يذهبوا إلى آخر الدّنيا للقائي والله! أنا وابني حاضرَين معهم في كلّ مكان. يكفي أن يدخلوا حجرتهم، كما قال يسوع، ويُغمِضوا عيونهم ويصلّوا لكي يجدوننا! فالأماكن التي ظهَرت فيها هي أماكن حجٍّ وصلاة، ولكنّها ليست المكان الحصريّ لسَكَني!".
بعد أن انتهت من الحديث وعاد النّور إلى وجهها، ابتسموا لي جميعهم، آملين منّي أن أوصِل هذه الرسالة التوضيحيّة للعالم علّهم يفهمون ما لم يكُن واضحًا لهم سابقًا. ثمّ غادرتُ السماء وعُدت إلى عالمي الأرضيّ حاملاً معي سؤالاً واحدًا: لما لا تقوم السمماء بتوجيه رسالةٍ واضحةٍ إلى الأرض مرّة واحدة وللأبد عن كلّ هذه الأمور؟ فأتاني الجواب سريعًا في ذهني: لدى الأرض الإنجيل الذي فيه قال الله كلّ شيء، وبعد ألفَي سنة لا زال الكثيرون غير مؤمنين في هذه الحقيقة، فهل سيؤمنون حقًّا إذا تكلَّمت السماء اليوم؟