الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-10-27
2 "مَن لي بمِثلِ الشّهورِ السَّالِفة ومِثْلِ الأيّامِ الَّتي كانَ اللهُ فيها حافِظي
يَبْدَأُ أَيّوبُ خِطبَتهُ بِصيغةِ التَّأسُّفِ على الأَشهُرِ السَّالِفَةِ، حينَ كانَ يَعيشُ في حِمَى الرَّبِ وَعِنايَتهِ. يَتأَسَّفُ أَيّوبُ على الآياتِ الخَمسِ الأُولَى من سِفرِهِ، وَالَّتي يَصِفُ فيها الكاتِبُ البَركةَ الـمُميَّزةَ وَالغِنى الكَبيرَ اللَّذَينِ كانَ أَيّوبُ يَنعَمُ بِهمَا؛ فكانَ أَبًا لِسَبعةِ بَنينَ وَثلاثِ بناتٍ، وَكانَ لَديهِ أَملاكًا كَثيرَةً وَوَفرَةَ خَدَمٍ، بِاخْتِصارٍ "كانَ ذَلكَ الرَّجُلُ أَعظَمَ أَبناءِ الـمَشرِقِ جَميعًا" (أي 1 : 3ب؛ راجع أي 29 : 6). "كانَ اللهُ فيها حافِظي" يَقولُ أَيّوبُ، لِأَنَّ البَرَكةَ وَالغِنَى هُما علامَةٌ على عِنايَةِ الرَّبِ وَحِفظِهِ لِلإِنسَانِ من كُلِّ شرٍّ أَو مُعاكَسةٍ.
3 حينَ كانَ مِصباحُه يُضيءُ على رأسي فأَسلُكُ الظُّلمَةَ في نورِه.
مِصباحُ اللهِ هوَ كَلمتُه وَوصَاياهُ (مز 119 : 105). كَانَ أَيّوبُ رَجلاً "كامِلاً مُستَقيمًا، يتَّقي اللهَ وَيُجانِبُ الشَّرَ" (أي 1 : 1ب)، أَي كانَ يَحفَظُ وَصايا الرَّبِ وَيَعمَلُ بِها وَيَخشَى اللهَ مُجانِبًا كُلَّ سَبَبِ شرٍّ، لِذا كَانَ نورُ الرَّبِ يُنيرُ دُروبَهُ حتَّى وَلو كانَتِ الظُّلمَةُ حَالِكةٌ. إِلاَّ أَنَّ الرَّبَ أَحيانًا، يَحجُبُ وَجهَهُ عنِ الإِنسَانِ وَيَسمَحُ بِأَن يُجرَّبَ منَ الشّريرِ (أي 1 : 6 – 2 : 13)، لِتَظهرَ أَمانَتَهُ وَلِيَتشَدَّد بِإِيمانِهِ وَجِهادِهِ.
يَتذَكَّرُ أَيّوبُ في خِطابِهِ نورَ الرَّبِ الَّذي كانَ يَهدي خَطواتِهِ، وَيَعضُدَهُ في وَسَطِ الظُّلمَةِ. اخْتَبَرَ أَيّوبُ قُوَّةَ الرَّبِ، وَكانَ مُطمَئِنًّا لَها في كُلِّ حالٍ: "حينَ كُنتُ في أَيَّامِ خَريفي، وَكانَ اللهُ يُجالِسُني في خَيمَتي، وَالقَديرُ لَم يَزَل مَعي" (أي 29 : 4-5أ). أَمَّا الآنَ فَعِندَما غَابَ الرَّبُ، ابْتَعَدَت عَن أَيّوبَ قُوَّتَهُ وَأَضحَى وَحيدًا، بِلا عَضَدٍ وَسَنَدٍ، فَباتَتِ الظُّلمَةُ تُرعِبُهُ وَتُبَلبِلُ داخِلَهُ، لِأَنَّ كَلمةَ الرَّبِ أَيضًا أَخفَتْ نورَها عَنهُ.
12 لأَنِّي كُنتُ أُنجِّي المِسْكينَ المُستَغيث وَاليَتيمَ الَّذي لا مُعينَ لَه
13 فتَحِلُّ علَيَّ بَرَكَةُ المائِت وأَجعَلُ قَلبَ الأَرمَلَةِ يَتَهَلَّل.
كَلمةُ الرَّبِ كانَت لَهُ حياةً وَقوَّةً وَشَجاعةً، فَكانَ أَيّوبُ يَعضُدُ المسْكينَ وَيُعينُ اليَتيمَ، يَدفِنُ الموتَى وَيَعتَني بِالأرامِلِ. كُلُّ هذه الأَعمالِ الصَّالحَةِ هيَ وَصايا الرَّبِ وَفرائِضَهُ. وَاليَومَ، ها إِنَّ أَيّوبَ نَفسَهُ صارَ مِسكينًا مَذلولاً، يَسْتَغيثُ وَلا مُعينَ لَهُ، سِوى الرَّبِ الَّذي حَجَبَ وجهَهُ عَنهُ، تارِكًا إِيَّاهُ في سَاحَةِ التَّجرِبَةِ القَاسِيَة.
14 لَبِستُ البِرَّ فكانَ لِباسي وكانَ حَقِّي حُلَّةً وتاجًا لي.
هَذهِ الآيَةُ تَفصِلُ بينَ قِسمَينِ مُتوازِيَينِ في النَّصّ، هُما مَجموعَتانِ من أَعمالِ البرِّ وَالحَقِّ الَّتي كانَ يُمارِسُها أَيّوبُ الصِّديقُ، حينَ كانَ الرَّبُ قَريبًا منهُ. أَلبرُّ هوَ الصَّلاحُ وَكُلَّ خيرٍ وَكانَ يُتَرجِمهُ أَيّوبُ في أَعمالِهِ المذكورَةِ على جانِبَي هذه الآيَة. يُسَمّي البرَّ لِبَاسًا، قاصِدًا بهِ أَعمالَهُ وَخِدمَتهُ. أَمَّا الحقُّ فهوَ العَدلُ وَالقَضاءُ المستَقيمُ في كُلِّ أَمرٍ: "أَختارُ طَريقَهُم فَأَجلِسُ في الصَّدرِ، وَأَحِلُّ حُلولَ الملِكِ في الجَيشِ، وَالمعزِّي منَ الـمَحزونين" (أي 29 : 25). كانَ أَيّوبُ مُمتَلئًا من نورِ الرَّبِ وَحِكمتَهُ وَمن روحِ التَّمييزِ في كُلِّ أَمرٍ، لِذا كانَ يَفتَخرُ بهِم كحُلَّةٍ وَتاجٍ على رَأسِهِ: "وَكنتُ أَقول: يَسْتمعونَ لي مُنتَظرينَ وَيُنصِتونَ لِمَشورَتي، وعلى كلامي لا يَزيدُون، وَأَقوالي تَقطُرُ عَلَيهِم. يَنتَظِرونَني كما يُنتَظَرُ الغَيثُ وَيَفتَحونَ أَفواهَهُم كَأَنَّني مُتأَخِّرُ المطَر" (أي 29 : 18أ، 21 – 23 راجع أي 29 : 7 - 11).
15 كُنتُ عَينًا لِلأَعْمى ورِجلًا لِلأعرَج
16 وكُنتُ أَبًا لِلمساكين أَستَقْصي قَضِيَّةَ مَن لم أَعرِفْه".
يَعودُ أيّوبُ هُنا إِلى ذِكرِ أَعمالِهِ الصَّالِحةِ الَّتي كانَ يَقومُ بِها بِقوَّةِ الرَّبِ وَكَلمتِه. فكانَ رجلاً صادِقًا، إِذ الأَعمى لا يَرى شَيئًا بل يَسْتَسلِمُ لِمن يُساعِدهُ. وَرجلاً متواضِعًا في خِدمَتهِ لِأَضعَفِ النَّاسِ، وَكانَت خِدمَتهُ كامِلةً وَمُتساوِيَةً لِلجميعِ، لِلَّذينَ يَعرِفُهم كمَا لِمَن لا يَعرِفُهم.