كَسر الكلمة - العهد القديم -53- الأحد السابع من زمن الصليب

كَسر الكلمة - العهد القديم -53- الأحد السابع من زمن الصليب

الأحد السّابع بعد عيد الصَّليب
سفر أيّوب النّبي: 29 / 1 – 3 + 12 - 16
1 وعادَ أيّوبُ إِلى ضَربِ مَثَلِه فقال:
2 "مَن لي بمِثلِ الشّهورِ السَّالِفة ومِثْلِ الأيّامِ الَّتي كانَ اللهُ فيها حافِظي
3 حينَ كانَ مِصباحُه يُضيءُ على رأسي فأَسلُكُ الظُّلمَةَ في نورِه.
12 لأَنِّي كُنتُ أُنجِّي المِسْكينَ المُستَغيث وَاليَتيمَ الَّذي لا مُعينَ لَه
13 فتَحِلُّ علَيَّ بَرَكَةُ المائِت وأَجعَلُ قَلبَ الأَرمَلَةِ يَتَهَلَّل.
14 لَبِستُ البِرَّ فكانَ لِباسي  وكانَ حَقِّي حُلَّةً وتاجًا لي.
15 كُنتُ عَينًا لِلأَعْمى ورِجلًا لِلأعرَج
16 وكُنتُ أَبًا لِلمساكين أَستَقْصي قَضِيَّةَ مَن لم أَعرِفْه".

مقدّمة
وَقد وَصَلنا إِلى نِهايَةِ هذه السَّنةِ الطَّقسيّةِ، الَّتي تميَّزَت بِإِصدارِ كتابِ قراءاتِ العهدِ القديمِ لقُدَّاسِ الآحادِ وَالأَعيادِ الكُبرى، تَختارُ كنيسَتُنا قراءةً من سِفرِ أَيّوب. هوَ الرَّجلُ المستَقيمُ الحَكيمُ الَّذي بِسَببِ إِيمانِهِ وَمخافَتهِ للرَّبِ، أُسْلِمَ، لِكي يُمتَحَنَ كَالذَّهبِ، في نارِ الامتِحانِ وَالتَّجارِبِ (راجع يش 2 : 1 - 5).
أُلهِمَتْ كنيسَتنا في اختيارِ هذا النَّصِّ؛
معَ نصِّ رسالةِ بولُسَ الرَّسولِ إِلى أَهلِ رومَا، وَيَحثُّ فيها على المحبَّةِ الأخويَّةِ وَأَيضًا لِلأعداءِ: "إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فأَطْعِمْهُ، وإِنْ عَطِشَ فَأَسْقِهِ، فإِنَّكَ بِفِعْلِكَ هذَا تَرْكُمُ عَلى رأْسِهِ جَمْرَ نَار. لا تَدَعِ الشَرَّ يَغْلِبُكَ، بَلِ اغْلِبِ الشَرَّ بِالْخَيْر" (روم 12 : 20 - 21).
ومعَ نصِّ إنجيلِ الدَّينونةِ العُظمى في متى 25: 31 – 46؛ وفيهِ يُعلِنُ الرَّبُ يَسوعُ أَنَّ الَّذينَ يُدعَونَ أبناءَ اللهِ هم أَصحابُ الرَّحمَةِ وَالخيرِ وَالصّلاح، أَمَّا الآخَرينَ فَيُطرَحونَ خارِجًا، لِقَساوَةِ قُلوبِهِم وَتمرُّدِهِم.
لِتَترُكَ رِسالةً لِأيامِنا الحاضِرَةِ، حيثُ العالَمُ بِكامِلِهِ؛ يَتخبَّطُ بِتجارِبِ الكُفرِ وَالتَّمرُّدِ على الرَّبِ وَمَشروعِهِ الخَلاصيِّ لِخَلائِقهِ، وَيَنغَمِسُ في حروبٍ دامِيَةٍ بلا رَحمةٍ ولا شَفقَةٍ. وَالرِّسالةُ الّتي يَحمِلُها نَصُّ العهد القَديمِ، هيَ "الاعتِرافُ بِقُدرةِ الرَّب". فَلنَدعو اليومَ الرَّبَّ معًا: "مارانا تَــا"! "تعالَ يا ربَّنا"! وَانشُرْ نورَكَ في ظُلُماتِ عالَمِنا! وَأَعِدْ صَوغَ صورَتنا على مثالِكَ وَصورَتِكَ! وَهَبِ السَّلامَ لنا نحنُ أَبناءَكَ وَلِخَليقَتِكَ صُنعِ يَدَيكَ!

تفسير الآيات
1 وعادَ أيّوبُ إِلى ضَربِ مَثَلِه فقال:
يَبدَأُ خِطابُ أَيّوبَ بِعِبارَةٍ لَم يَستَعمِلها إِلاَّ مَرَّتَينِ في سِفرِهِ، هنا وَفي (27 : 1).
وَتَعبيرُ "مَشَلْ" أَو مَثل يَعني كَلامٌ مِلؤُهُ حِكمةٌ وَوَحيٌ. تُسْتَعمَلُ هذه العِبارةُ، بالصّيغَةِ نَفسِها كما تَرِد هُنا "مشَلُو" أَي مَثَلهِ، عدَّةَ مرّاتٍ في سِفرِ العَدَد وَالمتكلِّم هوَ بالأَغلبِ بِلعامَ الوثنيّ (عدد 23 - 24). وَالجَذرُ "مَشَلْ" يَظهرُ بشكلٍ خاصٍّ في الأسفارِ الحِكميَّةِ (المزامير وَالأَمثال) وَفي أَسفارِ الأنبياءِ الكِبارِ خاصَّةً أَشعيا وَإِرميا. أَلنَّظرةُ العامَّةُ لِهذا التَّعبيرِ تُظهِرُ أَهميَّتها وَميزَتها، إِذ النَّاطِقُ بِالـمَثَلِ لا يَفوهُ بِكلامٍ صادرٍ عن حِكمَتهِ الخاصَّةِ، بَل عن الحِكمةِ التي تَلقَّنها منَ الله.

2 "مَن لي بمِثلِ الشّهورِ السَّالِفة ومِثْلِ الأيّامِ الَّتي كانَ اللهُ فيها حافِظي
يَبْدَأُ أَيّوبُ خِطبَتهُ بِصيغةِ التَّأسُّفِ على الأَشهُرِ السَّالِفَةِ، حينَ كانَ يَعيشُ في حِمَى الرَّبِ وَعِنايَتهِ. يَتأَسَّفُ أَيّوبُ على الآياتِ الخَمسِ الأُولَى من سِفرِهِ، وَالَّتي يَصِفُ فيها الكاتِبُ البَركةَ الـمُميَّزةَ وَالغِنى الكَبيرَ اللَّذَينِ كانَ أَيّوبُ يَنعَمُ بِهمَا؛ فكانَ أَبًا لِسَبعةِ بَنينَ وَثلاثِ بناتٍ، وَكانَ لَديهِ أَملاكًا كَثيرَةً وَوَفرَةَ خَدَمٍ، بِاخْتِصارٍ "كانَ ذَلكَ الرَّجُلُ أَعظَمَ أَبناءِ الـمَشرِقِ جَميعًا" (أي 1 : 3ب؛ راجع أي 29 : 6). "كانَ اللهُ فيها حافِظي" يَقولُ أَيّوبُ، لِأَنَّ البَرَكةَ وَالغِنَى هُما علامَةٌ على عِنايَةِ الرَّبِ وَحِفظِهِ لِلإِنسَانِ من كُلِّ شرٍّ أَو مُعاكَسةٍ.

3 حينَ كانَ مِصباحُه يُضيءُ على رأسي فأَسلُكُ الظُّلمَةَ في نورِه.
مِصباحُ اللهِ هوَ كَلمتُه وَوصَاياهُ (مز 119 : 105). كَانَ أَيّوبُ رَجلاً "كامِلاً مُستَقيمًا، يتَّقي اللهَ وَيُجانِبُ الشَّرَ" (أي 1 : 1ب)، أَي كانَ يَحفَظُ وَصايا الرَّبِ وَيَعمَلُ بِها وَيَخشَى اللهَ مُجانِبًا كُلَّ سَبَبِ شرٍّ، لِذا كَانَ نورُ الرَّبِ يُنيرُ دُروبَهُ حتَّى وَلو كانَتِ الظُّلمَةُ حَالِكةٌ. إِلاَّ أَنَّ الرَّبَ أَحيانًا، يَحجُبُ وَجهَهُ عنِ الإِنسَانِ وَيَسمَحُ بِأَن يُجرَّبَ منَ الشّريرِ (أي 1 : 6 – 2 : 13)، لِتَظهرَ أَمانَتَهُ وَلِيَتشَدَّد بِإِيمانِهِ وَجِهادِهِ.
يَتذَكَّرُ أَيّوبُ في خِطابِهِ نورَ الرَّبِ الَّذي كانَ يَهدي خَطواتِهِ، وَيَعضُدَهُ في وَسَطِ الظُّلمَةِ. اخْتَبَرَ أَيّوبُ قُوَّةَ الرَّبِ، وَكانَ مُطمَئِنًّا لَها في كُلِّ حالٍ: "حينَ كُنتُ في أَيَّامِ خَريفي، وَكانَ اللهُ يُجالِسُني في خَيمَتي، وَالقَديرُ لَم يَزَل مَعي" (أي 29 : 4-5أ). أَمَّا الآنَ فَعِندَما غَابَ الرَّبُ، ابْتَعَدَت عَن أَيّوبَ قُوَّتَهُ وَأَضحَى وَحيدًا، بِلا عَضَدٍ وَسَنَدٍ، فَباتَتِ الظُّلمَةُ تُرعِبُهُ وَتُبَلبِلُ داخِلَهُ، لِأَنَّ كَلمةَ الرَّبِ أَيضًا أَخفَتْ نورَها عَنهُ.

12 لأَنِّي كُنتُ أُنجِّي المِسْكينَ المُستَغيث وَاليَتيمَ الَّذي لا مُعينَ لَه
13 فتَحِلُّ علَيَّ بَرَكَةُ المائِت وأَجعَلُ قَلبَ الأَرمَلَةِ يَتَهَلَّل.

كَلمةُ الرَّبِ كانَت لَهُ حياةً وَقوَّةً وَشَجاعةً، فَكانَ أَيّوبُ يَعضُدُ المسْكينَ وَيُعينُ اليَتيمَ، يَدفِنُ الموتَى وَيَعتَني بِالأرامِلِ. كُلُّ هذه الأَعمالِ الصَّالحَةِ هيَ وَصايا الرَّبِ وَفرائِضَهُ. وَاليَومَ، ها إِنَّ أَيّوبَ نَفسَهُ صارَ مِسكينًا مَذلولاً، يَسْتَغيثُ وَلا مُعينَ لَهُ، سِوى الرَّبِ الَّذي حَجَبَ وجهَهُ عَنهُ، تارِكًا إِيَّاهُ في سَاحَةِ التَّجرِبَةِ القَاسِيَة.

14 لَبِستُ البِرَّ فكانَ لِباسي وكانَ حَقِّي حُلَّةً وتاجًا لي.
هَذهِ الآيَةُ تَفصِلُ بينَ قِسمَينِ مُتوازِيَينِ في النَّصّ، هُما مَجموعَتانِ من أَعمالِ البرِّ وَالحَقِّ الَّتي كانَ يُمارِسُها أَيّوبُ الصِّديقُ، حينَ كانَ الرَّبُ قَريبًا منهُ. أَلبرُّ هوَ الصَّلاحُ وَكُلَّ خيرٍ وَكانَ يُتَرجِمهُ أَيّوبُ في أَعمالِهِ المذكورَةِ على جانِبَي هذه الآيَة. يُسَمّي البرَّ لِبَاسًا، قاصِدًا بهِ أَعمالَهُ وَخِدمَتهُ. أَمَّا الحقُّ فهوَ العَدلُ وَالقَضاءُ المستَقيمُ في كُلِّ أَمرٍ: "أَختارُ طَريقَهُم فَأَجلِسُ في الصَّدرِ، وَأَحِلُّ حُلولَ الملِكِ في الجَيشِ، وَالمعزِّي منَ الـمَحزونين" (أي 29 : 25). كانَ أَيّوبُ مُمتَلئًا من نورِ الرَّبِ وَحِكمتَهُ وَمن روحِ التَّمييزِ في كُلِّ أَمرٍ، لِذا كانَ يَفتَخرُ بهِم كحُلَّةٍ وَتاجٍ على رَأسِهِ: "وَكنتُ أَقول: يَسْتمعونَ لي مُنتَظرينَ وَيُنصِتونَ لِمَشورَتي، وعلى كلامي لا يَزيدُون، وَأَقوالي تَقطُرُ عَلَيهِم. يَنتَظِرونَني كما يُنتَظَرُ الغَيثُ وَيَفتَحونَ أَفواهَهُم كَأَنَّني مُتأَخِّرُ المطَر" (أي 29 : 18أ، 21 – 23 راجع أي 29 : 7 - 11).

15 كُنتُ عَينًا لِلأَعْمى ورِجلًا لِلأعرَج
16 وكُنتُ أَبًا لِلمساكين أَستَقْصي قَضِيَّةَ مَن لم أَعرِفْه".

يَعودُ أيّوبُ هُنا إِلى ذِكرِ أَعمالِهِ الصَّالِحةِ الَّتي كانَ يَقومُ بِها بِقوَّةِ الرَّبِ وَكَلمتِه. فكانَ رجلاً صادِقًا، إِذ الأَعمى لا يَرى شَيئًا بل يَسْتَسلِمُ لِمن يُساعِدهُ. وَرجلاً متواضِعًا في خِدمَتهِ لِأَضعَفِ النَّاسِ، وَكانَت خِدمَتهُ كامِلةً وَمُتساوِيَةً لِلجميعِ، لِلَّذينَ يَعرِفُهم كمَا لِمَن لا يَعرِفُهم.

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
يَقولُ القدّيسُ بولُسَ في رسالَتهِ إِلى أَهلِ روما: "لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُم بِلا رِيَاء: تَجَنَّبُوا الشَرّ، ولازِمُوا الخَيْر" (روم 12 : 9 - 10). تُعَلِّمُنا قراءَةُ العهدِ القديمِ اليَومَ، أَنَّ كُلَّ صلاحٍ وَبرٍّ وحقٍّ هُم منَ الرَّبِ وَمن قُوَّةِ حُضورِهِ في حياتِنا (راجع أف 5 : 9)، فَإِذا غابَ أَو حجَبَ وَجهَهُ، ضَعُفَ الإِنسَانُ وَهَوَى في ضُعفِهِ.
في نهايَةِ السَّنةِ اللّيتورجِيَّةِ المارونِيَّةِ، تُشَجِّعُنا قراءَةُ العَهدِ القَديمِ وَتَحُثَّنا على التَّضَرُّعِ إِلى الرَّبِ القادِرِ وَحدَهُ، أَن يَنتَشِلَنا من سُقوطِنا وَأَن يُقيمَ نُفوسَنا من غَفوَةِ الموتِ وَاللاَّمبالاةِ. وَلْنَطلُب منهُ قوَّةَ روحِهِ القدّوسِ لِيُجدِّدَ أَرضَنا وَقُلوبنا نحنُ البَشَرِ أَجمَعينَ بِالرَّحمةِ وَالرّأفَةِ وَالسّلامِ وَالإِنسانِيَّةِ.


تحميل المنشور