الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-10-13
تفسير الآيات
2 إِنِّي نائِمَةٌ وقَلْبي مُستَيقِظ إِذا بصَوتِ حَبيبي قارِعًا أَنِ اْفتَحي لي يا أخْتي يا خَليلَتي يا حَمامتي يا كامِلَتيِ فإِنَّ رَأسي قدِ اْمْتَلأ مِنَ النَّدى وخَصائِلي من قَطَراتِ اللَّيل.
هَذهِ القَصيدَةُ الشِّعريَّةُ تَقُصُّ حِكايَتَها في وَقتٍ مُتَأَخِّرٍ، في اللَّيلِ. أَلـمَشْهَدُ الأَوَّلُ يَحدُثُ في مَكانَينِ: الحَبيبَةُ النَّائِمةُ في دَاخِلِ البَيت، وَفي الخَارِجِ يَقِفُ حَبيبَها وَيَقرَعُ البَابَ. بَينَما الحَبيبَةُ مُسْتَسلِمةٌ لِلنَّوم، قَلبُها يَقِظٌ: إِنَّها صُورَةٌ عَن الجَسَدِ الضَّعيف وَالرّوح النَّشيطَة (متى 14 : 38) الَّتي تَستَطيعُ، رغمَ ضُعفِ هِمَّةِ الجَسَد، أَن تَسمعَ صوتَ الحَبيب.
هَذه اللَّوحةُ تَجِدُ بَعضَ صُوَرِها في نصِّ إِنجيلِ العذارى العَشر، إِذ كُنَّ ساهِراتٍ في اللَّيلِ، يَحمِلنَ مصابيحَهُنَّ وَيَنتَظِرنَ وُصولَ العَريس.
صَوتُ الحَبيبِ مُلِحٌّ جِدًّا، إِذ يُنادِي حَبيبَتَهُ بِأَربَعِ صِفاتٍ (أُختي، خَليلَتي، حَمامَتي وَكامِلَتي) يُعَبِّرُ لَها فيها، لا فقطَ عن إِلْحاحِهِ، بَل أَيضًا عن حُبِّهِ الكَبيرِ وَالصَّادِقِ لَها. فَالأُختُ تُعبِّرُ عنِ الثِّقَةِ وَالاحْتِرامِ وَالمعرِفَةِ الفِطرِيَّة بينَ الحَبيبَين. أَلخَليلَةُ هيَ العَشيقَةُ أَي الحَبيبَة الّتي تَنجَذِبُ أَشواقُهُ إِليها. ألحَمامُ يَرمُزُ إِلى الأَمانَةِ في الحُبّ. أَمَّا صِفةُ الكَمال، فَتُعبِّرُ عن جَمالِ الحَبيبَةِ في نَظَرِ حَبيبِها. لَقَد نادَى الحَبيبُ عَشيقَتهُ بِأَجمَلِ الصِّفاتِ وَأَلحَّ عَليها لِتَقومَ وَتَفْتَحَ لهُ البَاب، إِلاَّ أَنَّها لَم تَزَل مُسْتَسْلِمةً لِثِقلِ وَهنِ الجَسَد. فَعادَ وَأَلحَّ بِأُسلوبٍ آخَر، لِيُجْبرَها على الاستيقَاظِ، فَصَوَّرَ لها مَا كانَ يَحصَلُ في الخَارِج (نَدًى يَتسَاقَطُ على رَأسِهِ وَلَيلٌ وَصَقيعٌ يُبَلِّلُ خَصَائِلَ شَعْرِهِ)، عَلَّ مَشَاعِرَ قَلبِها تَدْفَعُ جَسَدَها خارِجَ الفِراشِ فَتَفْتَحُ لَهُ!
3 قد نَزَعتُ ثَوبي فكَيفَ أَلبَسُه؟ قد غَسَلتُ رِجلَيَّ فكَيفَ أوَسِّخُهما!؟
وَلَكِنِ الحَبيبَةُ مَا لَبِثَتْ مُهتَمَّة في ذَاتِها وَفي شَرائِعِ النَّظافَةِ وَقانونِ التَّصَرُّفِ في وَقتِ اللَّيلِ، الَّذي يَقضِي بِالـمُكوثِ في الفِراشِ، في ثِيابِ النَّومِ بَعدَ إِتمامِ شَريعَةِ غَسلِ الأَرجُل. فَنَسمَعُها تَترَدَّدُ، وَتُفَكِّرُ بِأُمورٍ ثانَويَّة، تُفَكِّر بِالعَودَةِ إِلى الماضي (لِبس الثَّوب القَديم، وَساخَة الأَرجُل)، بَينَما حَبيبُها يَنتَظِرُها أَمامَ الباب وَهوَ يَعْلَمُ جِدًّا أَنَّ الوَقتَ الَّذي أَتَى فيهِ غَيرُ مُناسِبٍ. لَكِنَّهُ أَتَى، فَلِمَ الحَبيبَةُ لَيسَت مُسْتَعِدَّة؟ هُنا أَيضًا، يُحاوِرُ النَّصُ نَصَّ الإِنجيل، فَتصَرُّفُ الحَبيبَةُ يُشبِهُ تصَرُّفَ العَذارَى الخَمس اللَّواتي جِئنَ لانتِظارِ العَريسِ من دونِ اسْتِعْدَادٍ وَمَصابيحُهنَّ فارِغَةٌ.
إِلاَّ أَنَّ صَوتَ الحَبيبِ يُنادِي حَبيبَتهُ لِتَفتَحَ لَهُ الآن، كَما هيَ. يَدعوها وَقَد أَتمَّت ما تَقتَضيهِ الشَّريعَة، إِلى ما هوَ أَسمى منَ الشَّريعةِ القَديمَة. يَدعوها إِلى شَريعَةٍ جَديدَةٍ، تُحَرِّرُها منَ الأولى الَّتي قَسَّتْ قَلبَها وَأَضْعَفَت جَسَدَها، فَأَدخَلَتها في مَنطِقِ العُبودِيَّةِ.
هَذه الآيةُ مَليئَةٌ بِرموزٍ عَن إِسرائِيلَ في سِفرِ الخُروج. في مِصرَ، اعْتادَ الشَّعبُ الإِسرائيليُّ على مَنطِقِ حياةِ العُبودِيَّةِ لِلمصرِيِّينَ. فَعِندَما أَرسَلَ اللهُ موسَى لِيُحَرِّرَهم، خافُوا منَ الخُروجِ من مِصرَ ومنَ الحرِّيَّة، فَما كانَ على الله إِلاَّ أَنْ أَجْبَرَهُم على الخُروج وَعلى الحرِّيّة، فقَادَتهم يَدهُ في الصَّحراءِ أَربَعينَ سَنةٍ.
4 حَبيبي أَرسَلَ يَدَه مِنَ الثَّقْب فتَحَرَّكَت لَه أحْشائي
5 فقُمتُ لأَفتَحَ لِحَبيبي وكانَت يَدايَ تَقطُرانِ مُرًّا وأَصابِعي بِالمُرِّ السَّائِل على مِقبَضِ المِزْلاج.
وَإِذْ وَجَدَ الحَبيبُ، الَّذي صَبَرَ وَقتًا طَويلاً في الخَارِجِ، حَيثُ الصَّقيعُ وَالنَّدى وَظلامُ اللَّيل، أَنَّ قَلبَ حَبيبَتهِ غارِقٌ في أُمورِ الشَّريعَةِ وَالحَرف، اقْتَحَمَ بِيَدهِ البابَ الَّذي لَم تَفتَحهُ، فَاسْتَيقَظَت فيها مَشَاعِرُ الحُبّ، إِذ الأَحشَاءُ هي مَهدُ العَواطِفِ وَالمشَاعِر وَالحَياة. حينَئذٍ، قامَتْ لِتَفتَحَ لِحبيبِها.
وَلَكن، نُلاحِظُ الوَصْفَ الـمُسْتَفيضَ الَّذي تَقومُ بهِ الحَبيبَةُ عن ذاتِها، معَ كُلِّ بِدايَةِ حَدثٍ جَديد. إِنَّها مُنطَوِيَةٌ على ذاتِها وَجمالِها، فَلم تَتَحرَّر بَعدُ من ذاتِها. ألعُطورُ الَّتي تَعطَّرَت بِها، أَو الـمُرُّ، هوَ من أَثمَنِ العُطورِ وَأَجمَلها رائِحةً وكانَ يُستَعمَلُ لِجَذبِ العاشِقينَ. لَقد اسْتَفاضَتِ الحَبيبَةُ في تَعطيرِ يَدَيها، فَصارَ المرُّ يَسيلُ على مِقبَضِ المزلاجِ. وَحتَّى الآنَ، لَم تَفْتَح لِحَبيبِها.
6 ففَتَحتُ لِحَبيبي لَكِنَّ حَبيبي وَلَّى ومَضى. نَفْسي فاضت من تَواريه إِلتَمَستُه فما وَجَدتُه ودَعَوتُه فلم يُجبْني.
وَلَّى الحَبيبُ، إِذ انتَظَرَ وقتًا طَويلاً جِدًّا (أَربَعُ آياتٍ)، فَما نَفعُ الـملامَة؟ نُلاحِظُ تَغيُّرَ أُسلوبِ الحَبيبَة، فَقَد انتَقلَت منَ الكَلامِ عن نَفسِها، لِتَتكلَّمَ عن حَبيبِها. بغِيَابِهِ ضَعُفَت نَفسُها، فَقَدَت قُوَّتَها. بَحَثَتْ عنهُ بِنَظَرِها، فَلم تَرَه، وِبِصَوتِها نادَتهُ، فَلم يُجِبْ. تَأَخَّرَتْ كَثيرًا.
7 صادَفَني الحُرَّاسُ الطَّائِفونَ في المَدينَة فضَرَبوني وجَرَحوني وحُرَّاسُ الأَسْوارِ نَزَعوا عَنِّي رِدائي.
عِندَما تَأَكَّدَت من تَواريهِ، ذَهَبَتْ تَطوفُ في المدينَةِ ليلاً. لَقَد عَرَّضَت نَفسَها لِكافَّةِ المخاطِرِ، إِذ في اللَّيلِ، يَخرُجُ اللُّصوصُ لِلسَّرِقَة وَأَصْحابَ السَّمَرِ لِلَّهو، وَهذا كُلُّهُ يَحصَلُ في المدينَة. في هَذه الآيَةِ رَمزِيَّةٌ وَصُوَرٌ عن شَعبِ إِسرائِيلَ الَّذي تَرَكَ الرَّبَ وَتدَنَّسَ بِعاداتِ الأُمَمِ وَأَوثانِهِم، إِذ لَم يُطِقْ انتِظارَ موسَى الَّذي صَعِدَ الى الجَبَلِ لِيَستَلِمَ الشَّريعةَ منَ الرَّب.
كما أَنَّ الحُرَّاسَ الطَّائِفونَ، هُم الجُيوشُ الَّذينَ احْتَلُّوا أَرضَ إِسرائِيل، البابِليُّونَ، الأَشوريُّونَ، الكَلدانِيُّون، الفُرس. على أَيدي هذه الشُّعوبِ الغَريبَةِ، سُبِيَ شَعبُ إِسرائيل (الحَبيبَةُ)، وَالضَّربُ وَالجِراحُ هُم عَلامةٌ لِقَساوَةِ سِني السَّبي وَالجَلاءِ. عُرِي الحَبيبَةِ من ثِيابِها، رمزٌ لِخرابِ أَماكِنِ العِبادَةِ وَتَدنيسِها. ألثِيابُ تَسْتُرُ الضُّعف، وَقد وَهبَ الرَّبُ شَعبَهُ شَريعةً وَوَصايا، يَجدُ فيها مَأْوًى منَ الوُقوعِ في الخَطيئَة، وَسِلاحًا في وَجهِ العِبادَاتِ الوَثنِيَّة.
8 أَستَحلِفُكُنَّ يا بَناتِ أورَشَليم: إِن وَجَدتُنَّ حَبيبي بِماذا تُخبِرْنَه؟ بِأَنَّ الحُبَّ قد أَسقَمَني.
معَ هذهِ الآيَةِ القَافِلَة لِلقَصيدَة، تَدخُلُ شَخصِيَّاتٌ جَديدَةٌ، بَناتُ أُورَشَليم، وِحُضورُهنَّ يَنشُرُ السَّلامَ وَالطَّمأنينَةِ لِلحَبيبَةِ المجروحَة. تُرسِلُهنَّ في مهمَّةِ البَحثِ عن حَبيبِها وَتُسَلِّمهُنَّ رِسالَةَ حُبِّها السَّقيمِ لهُ.