الأحد الثالث بعد عيد الصَّليب
سفر التكوين: 41 / 38 - 44
38 فقالَ فِرعَونُ لِحاشِيَتِه:"هل نَجِدُ مِثْلَ هذا رَجُلًا فيه رُوحُ الله؟"
39 وقالَ فِرعَونُ لِيُوسف: "بَعدَما أَعلَمَكَ الله هذا كُلَّه، فلَيسَ هُناكَ فَهيمٌ حَكيمٌ مِثْلُكَ.
40 أَنتَ تَكونُ على بَيتي وإِلى كَلِمَتِكَ يَنْقادُ كُلُّ شَعْبي، ولا أَكونُ أَعظَمَ مِنكَ إِلَّا بِالعَرْش".
41 وقالَ فِرعَونُ لِيُوسف: "أُنظُرْ: قد أَقَمتُكَ على كُلِّ أَرضِ مِصْر".
42 ونَزَعَ فِرعَونُ خاتَمَه مِن يَدِه وجعَلَه في يَدِ يوسف، وأَلبَسَه ثِيابَ كَتَّانٍ ناعِم وجَعَلَ طَوقَ الذَّهَبِ في عُنُقِه،
43وأَركَبَه مَركَبَتَه الثَّانِيَة، ونادَوا أَمامَه:"اِحذَرْ". وهكذا أَقامَه على كُلِّ أَرضِ مِصْر.
44 وقالَ فِرعَونُ لِيُوسف: "أَنا فِرعَون، بِدونِكَ لا يَرفَعُ أَحَدٌ يَدَه ولا رِجلَه في كُلِّ أَرضِ مِصْر".مقدّمة
معَ مثلِ العَبدِ الأمينِ الحَكيم (متى 24 : 45 - 51)، تَختارُ كَنيسَتُنا منَ العَهدِ القَديمِ، قِصَّةَ مُكافَأةِ فِرعَونَ لِيُوسُفَ ابْنِ يَعقوبَ، الَّذي أُوتِيَ منَ الرَّبِ مَوهِبةَ تَفسيرِ الأَحْلامِ، وَبها خَلَّص شَعبَ مصرَ وَشَعبَهُ الإِسرائيليّ وَشعوبَ الأَرضِ منَ الجوعِ وَالفَقر (راجع تك 41 : 54 - 57). فَهو مِثالٌ حَيٌّ لِـمَنْ قالَ فيهِ الرَّبُ يَسوع : "مَنْ هُوَ العَبْدُ الأَمِينُ الحَكِيْمُ الَّذي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلى أَهْلِ بَيتِهِ، لِيُعْطِيَهُمُ الطَعَامَ في حِينِهِ؟ طُوبَى لِذلِكَ العَبْدِ الَّذي يَجِيءُ سَيِّدُهُ فَيَجِدُهُ فَاعِلاً هكَذَا! أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يُقِيْمُهُ عَلى جَمِيعِ مُمْتَلَكَاتِهِ". معَ هذهِ القِراءاتِ، تُضافُ رِسالَةُ القِدّيس بولسَ الرَّسولِ إِلى التّسالونيكِيِّينَ (1تس 5 : 1 - 11)، لِتُحذِّرَنا منَ الخُمولِ وَالاسْتِسلامِ لِلضُّعف : " نَحْنُ أَبْنَاءَ النَهَار، فَلْنَصْحُ لابِسِينَ دِرْعَ الإِيْمَانِ والـمَحَبَّة، ووَاضِعِينَ خُوذَةَ رَجَاءِ الْخَلاص".
معَ الأسبوعِ الرّابعِ من زمنِ الصَّليبِ، تُدخِلُنا كَنيسَتُنا في مَنطِقِ السَّهرِ وَالصَّبرِ وَالانتِظار، داعِيَةً إِيَّانا لِعَيشِ حَياتِنا بِمنطِقِ الرَّبِ يسوع، لا بِمنطِقِ العالَم الاسْتِغلاليّ.
تفسير الآيات
38 فقالَ فِرعَونُ لِحاشِيَتِه:"هل نَجِدُ مِثْلَ هذا رَجُلًا فيه رُوحُ الله؟"يَأتي موضُوعُ هذا النّصِ نَتيجةً لِتَفسيرِ حُلمِ فِرعونَ. كَانَ يوسُفُ ابنُ يَعقوبَ مُفَسِّرَ أَحلامٍ، والرَّبُ كانَ يُحَدِّثُهُ وَيوحِي لَهُ كُلَّ شيءٍ بِواسِطَةِ الحُلم. فَكانَت هَذهِ النِّعمَةُ منَ الرَّبِ سَبَبَ خلاصٍ لَهُ وَلِإِخوَتهِ وَلِشَعبِ إِسرائيلَ الَّذي تكَوَّنَ وَكَثُرَ في مِصرَ.
فِرعَونُ هوَ كاهِنُ أُون الـمُتعبِّدِ لِلشَّمسِ، فكانَ التَّاجُ على رَأسِهِ يَحمِلُ شِعارَ الشَّمسِ، وَكانَ لِكهنوتِهِ دورٌ سياسيٌّ مهمٌّ جِدًّا. وَكانَ يَعلَمُ أَنَّ يوسُفَ يَعبُدُ الله لا رَجُلاً وَثنيًّا عابِدَ، البَعَل وَالأَصْنام، لِذا قالَ فيه: "رَجلٌ فيهِ روحُ الله".
أَرضُ مِصْرَ كانَت أَرضُ السَّحَرةِ وَالحُكَماء، إِلاَّ أَنَّ اللهَ أَرادَ رَفعَ شَأنَ اسمِهِ على أَسماءِ الأَوثانِ، فَحجَبَ قُدْرةَ سَحَرةِ وَحُكماءِ مِصرَ، لِيَعتَرِفَ فِرعونُ بِالاسْمِ المقدَّس.
39 وقالَ فِرعَونُ لِيُوسف: "بَعدَما أَعلَمَكَ الله هذا كُلَّه، فلَيسَ هُناكَ فَهيمٌ حَكيمٌ مِثْلُكَ.
40 أَنتَ تَكونُ على بَيتي وإِلى كَلِمَتِكَ يَنْقادُ كُلُّ شَعْبي، ولا أَكونُ أَعظَمَ مِنكَ إِلَّا بِالعَرْش".
يَعْتَرِفُ فِرعَونُ مرَّةً ثانِيَةً، وَبِتعابيرَ أَوضَحَ، بِاسمِ اللهِ العَظيمِ على جميعِ الآلِهَة، وَكَأنَّهُ يَقول: "اللهُ وَحدَهُ قادِرٌ أَن يَجعلَ الإِنسَانَ حَكيمًا، فَهيمًا". بِهذا، يَكونُ فرعَونُ قَد أَعلَنَ وَلاءَ وَمُلكَ اللهِ على مِصرَ بِواسِطَةِ يوسُف. فَيُسَلِّمُ يُوسُفَ بَيتَهُ أَي عائِلَتَهُ وَفيما بَعد، سَيُصبِحُ يوسُفَ صِهرَ فِرعون، وَشَعبَهُ أَي الشَّعبَ المصرِيَّ. ما عَدا العَرش، لِأَنَّهُ عَرشُ إِلهِ الشَّمس، فَكانَ يُعْتَقَد أَنَّ فِرعَونُ قَد اخْتارَهُ إِلهُ الشَّمس. صَحيحٌ أَنَّ فرعَونَ اعْترَفَ بِاللهِ وَقُدرَتهِ، إِلاَّ أَنَّ آلِهةَ مِصرَ هي حامِيَةُ مِصرَ وَالمصرِيِّينَ، وَلا آلِهةَ غَيرَها تَتسَلَّطُ على مِصر.
41 وقالَ فِرعَونُ لِيُوسف: "أُنظُرْ: قد أَقَمتُكَ على كُلِّ أَرضِ مِصْر".
42 ونَزَعَ فِرعَونُ خاتَمَه مِن يَدِه وجعَلَه في يَدِ يوسف، وأَلبَسَه ثِيابَ كَتَّانٍ ناعِم وجَعَلَ طَوقَ الذَّهَبِ في عُنُقِه،
43وأَركَبَه مَركَبَتَه الثَّانِيَة، ونادَوا أَمامَه:"اِحذَرْ". وهكذا أَقامَه على كُلِّ أَرضِ مِصْر.
نُلاحِظُ طَريقَةَ صِياغَةِ هذهِ الآياتِ الثَّلاث، إِنَّها تتَمحوَرُ حَولَ علاماتِ الـمُلكِ الَّتي وَهَبها فرعونُ لِيوسُف. فَالجُملَةُ القُطْب، أَي الّتي تُحيطُ بِالجُمَلِ الـمَوضوع هي: "أَقام على أَرضِ مِصر". وَباقِي المعْلوماتِ هيَ الرِّسَالَةُ الأَساسِيَّة: سَلَّمَ فِرعونُ خاتَمَ مُلكِهِ، أَي خَتمَهُ أَيضًا، إِلى يَدِ يوسُفَ فَصارَ يُصْدِرُ الأَحكامَ وَيَخْتِمُها بِخاتَمِ فِرعَون. ثِيابُ الكَتَّانِ عَلامَةُ الـمُلكِ وَعُلوِّ الشَّأن، أَمَّا طَوقُ الذَّهَبِ، فَهوَ علامَةُ مُلكٍ تحتَ سُلطانِ فِرعَون. وَأَخيرًا، رُكوبُ مَركَبَةِ فِرعونَ الثَّانِيَة، أَي إِعلانِهِ فِرعَونًا على مِصرَ، دائِمًا تحتَ سُلطَةِ الفِرعَون. أَمَّا الـمُناداةُ أَبْرِخْ الـمُترجَمَةُ بِــ"احْذَر"، تَرِدُ خَمسَ مرَّاتٍ في العهدِ القَديم، وَفي كُلِّ هذه الـمَراجِع تَعني "بارِكْ"، وَهُناكَ تَرجماتٍ لِهذهِ العِبارَة تَقول "اْرْكَعُوا" (راجع مز 16 : 7؛ 26 : 12؛ 132 : 15؛ حج 2 : 19). كُلِّ هذه الاحْتمالاتِ تَدُلُّ على أَنَّ العِبارَةُ تُخاطِبُ الشَّعبَ الـمِصرِيَّ بِالطَّاعَةِ لِيوسُفَ، الَّذي مَلَّكَهُ فرعونُ على كامِلِ أَرضِ مِصر.
44 وقالَ فِرعَونُ لِيُوسف: "أَنا فِرعَون، بِدونِكَ لا يَرفَعُ أَحَدٌ يَدَه ولا رِجلَه في كُلِّ أَرضِ مِصْر".
"أَنا فِرعَون" هيَ طَريقةٌ لِلقَسَم بِحياتِهِ، فقد أَقسَمَ فرعَونُ لِيوسُفَ وَهذا القَسَمُ لا رُجوعَ عَنهُ. وَمَضمونُ القَسَمِ هوَ أَن يكونَ يوسُفَ الـمَرجَعِيَّةَ الأَساسِيَّةَ لِكُلِّ ما يُفَكِّرُ، أَو يَعمَلُ بهِ المصْرِيُّون. حَياةُ المصرِيِّينَ، بِتفاصِيلِها، صارَت خاضِعةً لِيوسُف.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
في إِطارِ موضوعِ الانتِظارِ، تُعلِّمُنا قِراءَةُ العَهدِ القَديمِ أَنَّ الرَّبَ لا يُهمِلُ مُختاريهِ وَخائِفيهِ. هَا حياةُ يوسُفَ بْنِ يَعقوبَ تَشْهَدُ لِقيمَةِ الانتِظارِ وَلِوَقتِ الرَّبِ وَمُكافَأَتهُ. نَحنُ، بِطَبيعَةِ حَياتِنا وَبِسَببِ التَّقدُّمِ السَّريعِ، على كافَّةِ الأَصْعِدَة، الَّذي اجْتاحَ عالَمَنا، فقَدْنا مَعْنَى الانتِظَارِ وَالصَّبْرِ وَأَهمّيَّةِ الـمَراحِل الَّتي نَـمرُّ بِها. فَحَلَّ مَكانَ هَذهِ الفَضائِلِ، السُّرعَة وَاسْتِغلالِ الوَقت لِلقيامِ بِأَكبَر عَدد منَ الأُمور، وَالفَوضَى وَالغَضَب.
عَرَفَ يُوسُفُ كيفَ يَسْتَفيدُ من سِنيهِ في العَمَلِ الخَفيِّ كَعبدٍ لِفرعَون، لَم يَتذمَّر، صَّلّى. لَم يَطلُب تَغييرَ مَصيرِهِ، صَبَرَ. لَم يَفقِد إِيمانَهُ، وَثِقَ بِرَبِّهِ. فَاسْتجابَ لَهُ الرَّبُ، إِذ أَعطاهُ حِكمةَ تَفسيرِ الأَحْلام، وَرفعَهُ في بَلدٍ وَثنيٍّ، مَلكًا آمِرًا وَمَهيبًا.تَدعونا كَنيسَتُنا المارونِيَّة لِأَخذِ مَسافَةٍ من طَريقَةِ عَيشِنا وَمن أَولوِيَّاتِنا، من روتينِنا اليَوميّ وَمن كَميَّةِ العَمَل الّتي نُؤَدِّيها. وَلْنتسَاءَل: هَل نحنُ في حالَةِ انتِظارٍ لِلرَّب؟ هَلْ لَدينا الوَقت لِنَنتَظِرَهُ، هوَ الَّذي يَنتَظِرُ رُجوعَنا إِليهِ سِنينَ عَديدَة؟ كَيفَ وَبِأَيِّ هدَفٍ نَعمَل؟ قِصَّةُ يوسُفَ تُلفِتُ انتِباهَنا إِلى هَدفِ عَملِهِ، وَهوَ "تَحقيقُ مشيئَةِ الرَّب"، هيَ الَّتي حَفَظَت قَلبَهُ منَ الدَّينونَةِ وَالحِقدِ على إِخوَتهِ، فَكانَ غُفرانُهُ لهم سَهلاً وَصادِقًا (تك 42 - 46).