كَسر الكلمة - العهد القديم -49- الأحد الثالث من زمن الصليب

كَسر الكلمة - العهد القديم -49- الأحد الثالث من زمن الصليب

الأحد الثالث بعد عيد الصَّليب
سفر النَّبيّ دانيال: 7 / 9 - 14
9 وبَينَما كُنتُ أَنظُر إِذ نُصِبَت عُروش، فجَلَسَ قَديمُ الأَيَّام، وكانَ لِباسُه أَبيَضَ كالثَّلْج وشَعَرُ رَأسِه كالصُّوفِ النَّقِيّ وعَرشُه لَهيبَ نار وعَجَلاتُه نارًا مُضطَرِمَة.
10 ومِن أَمامِه يَجْري  وَيخرُج نَهرٌ مِن نار وتَخدُمه أُلوفُ أُلوف وتَقِفُ بَينَ يَدَيه رِبْواتُ رِبْوات. فجَلَسَ أَهلُ القَضاء وفُتِحَت أَسْفار
11 وكُنتُ أَنظُرُ بِسَبَبِ صَوتِ الأقوالِ العَظيمةِ الَّتي يَتَكَلَّمُ بِها القَرْن. وبَينَما كُنتُ أَنظُر، إِذ قُتِلَ الحَيَوانُ وأُبيدَ جِسمُه وجُعِلَ وَقودًا لِلنَّار.
12 وأَمَّا باقي الحَيَوانات، فأُزيلَ سُلطانُها. لكِنَّها أُتِيَت طولَ حَياةٍ إِلى زَمانٍ ووَقْت.
13 وكنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلًا فإِذا بِمِثلِ ٱبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه.
14 وأُوتِيَ سُلْطانًا ومَجدًا ومُلكًا فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيٌّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض.

مقدّمة
صَليبُ ربِّنا يَسوعُ المسيحِ، هوَ حِكمَتُنا ضِدَّ جهالاتِ العالَم. في قراءاتِ هذا الأحد الثّالث من زمن الصَّليب، تُنَبِّهُنا كنيسَتُنا من خَطر الجَهلِ، الَّذي يَدفَعُنا، نحنُ المؤمنينَ بِرَبِّنا يسوع، إِلى خطَرِ الضّلالِ ونُكرانِ صَليبِهِ. ففي نصِّ العهدِ القَديمِ لِلنبيّ دانيال، رُؤيا مجيءِ الرَّبِ وَالدّينونَة، وَفي نصِّ الرِّسالةِ إلى أَهلِ فيلبّي تَحذيرٌ منَ الَّذينَ يَسلُكونَ ضِدَّ صليبِ المسيح، وَنصُّ الإِنجيلِ نُهيَويٌّ يُحذِّرُ فيهِ الرَّبُ يسوع منَ الـمُسَحاءِ الدّجّالينَ وَيَصفِ مجيئَهُ بِظهورِ علامةِ ابنِ الإِنسَان في السَّماء. في هذه النّصوصِ، تُساعِدنا كنيسَتنا على التَّفكيرِ في "يومِ مجيءِ الرَّب"، مُحذِّرةً من خطرِ اسْتِبدالِ صليبِ المسيح، بِأقوالٍ وَآراءٍ مُضَلِّلَة.
منَ الأَهميَّةِ أَن نوضِحَ في بِدايَةِ دِراسَةِ نصِّ العهدِ القديمِ، أَنَّ سِفرَ دانيال النّبيّ لا يَنقُلُ للقارئِ مَعلوماتٍ تاريخيَّةٍ، لِأنَّ كاتِبَهُ غَريبٌ عن تاريخ الشَّرقِ القَديم، وَهدفُ كِتابِهِ مُزدَوجٌ: التَّعليم أَو haggadah، وَالرُّؤيا. نَصُّنا اليَوم، يَتَّسِمُ بِالأدبِ الرّؤيَويّ وَهو أدبٌ انتَشَر بسُرعةٍ في زمنِ الجَلاءِ إلى بابِل، لِكي يَتمكَّن اليَهوديّ وحدَهُ مِن أَن يُفَكفِكَ رُموزَهُ، الّتي تبقَى مَجهولةً منَ الشُّعوب الغَريبَة. إنَّ الأدبَ الرّؤيَويّ يُستَعملُ في أَزمنةِ الاضطِّهاد، لِكي لا يَفهَمُهُ إِلاَّ الـمُضطَّهَدينَ، وهوَ يَحمِلُ بِالإِجمالِ، رِسالةَ رجاءٍ وَوَعدٍ إِلهيٍّ بِاقتِرابِ الخَلاص.
كمَا أنَّ الـمَصادِرَ الكِتابيَّةَ لِنصِّنا الرّؤيَويِّ يَعودُ إلى كتابِ أَخنوخَ الـمَنحول، هذا كُتِبَ في العَصرِ الهِلِّينيّ. وَنصُّنا اليَوم، هوَ أحَدُ هذهِ النُّصوصِ الَّتي تَسْتَنِدُ إِلى الـمَصدَرِ الـمَنحول.

تفسير الآيات
9 وبَينَما كُنتُ أَنظُر إِذ نُصِبَت عُروش، فجَلَسَ قَديمُ الأَيَّام، وكانَ لِباسُه أَبيَضَ كالثَّلْج وشَعَرُ رَأسِه كالصُّوفِ النَّقِيّ وعَرشُه لَهيبَ نار وعَجَلاتُه نارًا مُضطَرِمَة.
إِنَّ رُؤيا العُروشِ تَنتَمي إِلى مَجموعَةِ مراجِعَ كِتابيَّةٍ : 1مل 22 : 19؛ أش 6؛ حز 1؛ 3 : 22 – 24؛ 10: 1، بالإِضافَةِ إلى مَرجعيَّةِ نصِّ 1 أخنوخ 14 : 18 – 23؛ 60 : 2؛ 90 : 10. إِنَّ موقِعَ نَيلِ الرّؤيا غير مُحدَّد، فَلسنا نَعلمُ إِن كانَت هذه الرّؤيا تَقصُدُ الأَرضَ أَم سَتحصَلُ في السّماءِ، حيثُ عُروشُ الرَّب. في 1 أخنوخ 90 : 20، يَضعُ الكاتِبُ هذه الرّؤيا في أرضٍ خَصبَة (راجع مز 122 : 5). "قَديمُ الأيَّامِ" هوَ الرَّبُ الإِلهُ الحيُّ، وَلَقبُهُ خاصٌّ بالنّبيّ دانيال، تحديدًا في هذه الآيَة. لِباسُهُ الأَبيضُ النَّاصِعُ يرمُزُ إِلى نَقائِهِ وَطهارَتهِ الصَّافِيَتَينِ وَالخاصَّتَينِ بِالأُلوهِيَّة، أَمَّا شَعرُ رَأسِهِ النَّقيّ اللَّونِ، يَرمزُ إِلى قِدَمِهِ وَطولِ سِني حَياتِهِ "أَزليَّتهِ وَسَرمديّتهِ" وإِلى حِكمَتهِ الكَامِلَةِ. أَمَّا صُورةُ لهيبِ النّارِ وَالنّارُ الـمُضطَّرِمَة، فَمأخوذَةٌ من سِفر حزقيّالَ النَّبيّ (1 : 4؛ 13 - 14)، وَهيَ رمزٌ لِلألوهِيَّةِ الَّتي تَسطَعُ كالنَّارِ، فَلا أَحدَ يُمكنُهُ الاقْتِراب.

10 ومِن أَمامِه يَجْري  وَيخرُج نَهرٌ مِن نار وتَخدُمه أُلوفُ أُلوف وتَقِفُ بَينَ يَدَيه رِبْواتُ رِبْوات. فجَلَسَ أَهلُ القَضاء وفُتِحَت أَسْفار
إِنَّ مَشهَدَ "قَديمِ الأيَّام" مَملوءٌ نارٌ وَنورٌ، وَمَصدَرُ النُّورِ بِأَغلَبهِ هيَ النّار، مَشهدٌ رَهيبٌ وَهائِلٌ. أَمَّا الخُدَّامُ الـمُحيطونَ بِالجالِسِ، هُم أَعدادٌ هائِلةٌ من كائِناتٍ، على الأَرجَحِ نارِيَّةٍ، لِتتمكَّن من الاقْتِرابِ وَالخِدمة. "أَهلُ القَضاءِ" هُم القِدّيسونَ الَّذينَ يَدينونَ أَعداءَهُم وَالأُمَم. وَبَدأَ الـمَحفِلُ بِفَتحِ الأَسفار، وَهيَ تَحوي تاريخَ الجميع بِإيجابيّاتِهِ وَسَلبيَّاتِهِ (إر 17 : 1؛ ملا 3 : 16؛ مز 40 : 8؛ 56 : 9).
يُصَوِّرُ النّبيُّ دانيال، مَشهدَ الدَّينونَةِ بصورةِ مَحفلٍ قضائيٍّ، يترأَّسُه القاضي الأَعظم، وَمَجلِسُهُ.

11 وكُنتُ أَنظُرُ بِسَبَبِ صَوتِ الأقوالِ العَظيمةِ الَّتي يَتَكَلَّمُ بِها القَرْن. وبَينَما كُنتُ أَنظُر، إِذ قُتِلَ الحَيَوانُ وأُبيدَ جِسمُه وجُعِلَ وَقودًا لِلنَّار.
12 وأَمَّا باقي الحَيَوانات، فأُزيلَ سُلطانُها. لكِنَّها أُتِيَت طولَ حَياةٍ إِلى زَمانٍ ووَقْت.

صورَةُ "القَرن" هي من نصِّ رُؤيا الحيواناتِ (دا 7 : 1 - 8) وَهوَ القَرنُ الخاصُّ بِالحيوانِ الرّابعِ الـمُريعِ وَكانَ لدَيهِ عشرةُ قرونٍ، إِلاَّ أَنَّ قَرنًا صغيرًا أَفرَعَ من بينهِم، ولهُ عيونٌ كَعيونِ الإِنسان، وَفَمٌ ناطِقٌ. يَرمُزُ هذا القَرن إِلى أَنطيوخُس الرَّابع إبيفانيوسُ (175 – 163 ق.م.)، الَّذي تخلَّصَ منَ ملوكِ السُّلالَةِ السَّلوقِيَّةِ، وَارتَفعَ شَأنَهُ على الجميعِ وَكانَ فَصيحًا، مُتعَجرِفًا (راجع 1مك 1). وَ"باقي الحَيوانات" هيَ الـمَمالِكُ الأُخرى، وَلكِنَّها فقَدَت سُلطانَها على شَعبِ الرَّبِ، فَدامَت سِني مُلكِها لِوقتٍ مَحدودٍ، إِلاَّ أَنَّها ما عادَت تُشَكِّلُ مَخاطِرَ على المؤمِنين.

13 وكنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلًا فإِذا بِمِثلِ ٱبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه.
وَحينَ حَلَّ اللَّيلُ وَدانيالُ في رُؤياهُ، رَأَى "مِثلِ ابنِ إِنسان" أَي كائِنًا إِنسَانًا وَلَهُ سُلطةٌ وَوجهٌ إِلهيٌّ، إِذْ يَركَبُ الغَمام. وَالغَمامُ يَرمزُ لِحضورِ الرَّبِ وَبهِ كانَ يَظهرُ لِشَعبِ إِسرائيلَ في البرَّيةِ، على جبلِ سيناءَ وَفي خِباءِ المحضَر، وَعندَ أشعيا في الهَيكَل. إِذًا، "ابنُ الإِنسانِ" هوَ إِنسانٌ – إِلهٌ، لِهذا تمكَّنَ منَ البُلوغِ إِلى "قَديمِ الأيّامِ" وَالاقترابِ منهُ.
إِنَّ لقبَ "ابْنِ الإِنسان" يُعنى بهِ عدَّةُ شَخصيّاتٍ: "النّبيّ" في سفرِ حزقيّال، "القدّيسون" (دا 7 : 18 - 22) الَّذينَ أَخذوا الـمُلكَ إِلى أَبدِ الآبِدين، "الجَماعة" وَلكن بِشَكلٍ شَخصيٍّ، أَي رَأسُ الجماعة، والرَّبُ يسوعُ اتَّخذَ هذا اللَّقب بِشَكلٍ شَخصيٍّ وَحقَّقَ فيهِ وُعودَ الأَنبياء. كمَا قالَ الرّبُ مُخبِرًا تلاميذَهُ عن يوم ِمَجيئِهِ: "وترى ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا على سُحُبِ السَمَاءِ بِقُدْرَةٍ ومَجْدٍ عَظِيم" (متى 24 : 30ب).

14 وأُوتِيَ سُلْطانًا ومَجدًا ومُلكًا فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيٌّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض.
"ابنُ الإِنَسانِ" أُعطِيَ لهُ مجدُ "قديمِ الأيَّامِ" وَسُلطانٌ وَمُلكٌ أبَديٌّ، لا يَزولُ وَلا يَنقَرِض؛ ثلاثُ صِفاتٍ لِوَصفِ السُّلطانِ الَّذي أُوتِيَهٌ ابنُ الإِنسَان. هذه الصّفاتُ التي تُكَرِّرُ المعنَى نَفسَهُ، تَعني السُّلطةَ اللاَّمحدودَةَ في الزَّمان، لا قُدرةَ لِلفناءِ على سُلطانِهِ، فلهُ الحَياةُ وَهيَ فقَط.

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
في صليبِ المسيحِ تلاقَى العَهدانِ، القديمُ وَالجَديد، لِيَشهدا معًا على حَقيقَةِ اللهِ الـمُتجسِّدِ لِخلاصِ البَشَر.
إِنَّ القراءةَ من سفرِ دانيال، تَحملُ لنا بُشرى خلاصِ "قديمِ الأيّامِ" وَابنِ الإِنسَانِ لِكُلِّ مؤمنٍ بهما. لأنَّهُ بِسُلطانِهما فقط، يَحلُّ العَدلُ وَيَسطَعُ نورُ الحَقيقَة. صحيحٌ أنَّ النَّص مَليءٌ بِالرُّموزِ وَالرُّؤَى، إِلاَّ أنَّهُ لا يَكتُمُ الحقيقَةَ، بل يَنقُلها بِأُسلوبٍ جديد.
لِنُحاوِلُ النَّظَر إِلى تاريخِ حياتِنا وَأحداثِ هذا التَّاريخِ من خِلالِ صَليبِ ربِّنا يسوعَ المسيح، فاللهُ قالَ بهِ كُلَّ شَيءٍ، قالَ: الرَّحمةَ، الحُبَّ، الغُفرانَ، الجَمال، النَّقاء، الطُّهر، الفرح، الحياة، ...
الإِنسَانُ في هذا العَالَمِ، لهُ أن يَختارَ بينَ صالحٍ وَشِرّير. مِثلُ الأمِّ الصَّالحَةُ الَّتي تَعمَلُ على تَطريزِ وُرودٍ جميلَةٍ على رُقعَةِ قِماش. فيَأتي ابنُها وَيَجلِسُ بجانِبها وَيَرى جمالَ الوُرودِ، إِلاَّ أَنَّه يَختارُ أن يَجلِسَ في الأَسفَل لِيَرى ما الّذي يَحدُثُ خلالَ عملِها، فيَبدَأُ بِالتَّذمُّر "أُمّي! شُغلُكِ ليسَ جميلاً". فَتَدعوهُ أُمُّه لِلنَّظرِ إِلى وَجهِ الرُّقعَة لِيَرى الألوانَ في مكانها الصّحيح وَالقُطَب التي تملأُ الورودَ بشَكلٍ جَميل. إِلاَّ أَنَّهُ يَختارُ النَّظر من أَسفَل. لِمَ نَنظُرُ دائِمًا إلى تاريخِنا من أَسفَلِ  الصُّورة، حيثُ الحقيقَةُ مُشوَّهة؟ يومُ مجيءِ الرَّبِ هوَ يومُ خلاصٍ للمؤمنينَ وَيومُ دينونةٍ للكُفَّار. فالمؤمنونَ الـمُضطَّهَدونَ وَالشُّهداء، الفقراء، المرضى،... ينظرونَ الى هذا العالم من أَعلى الصُّورة، أَي يَرونَ عملَ الله الخلاصيِّ من خلالِ آلامِهم وَعنائِهم وَجِهادهم، مُدرِكينَ أَنَّ حياتَهم سَتُضفي جمالاً على مَشروعِ الله الخلاصيّ. أَمَّا الـمُتذَمِّرونَ وَأَعداءُ الله فهم الَّذينَ يَأبَون الحقيقة وَيَعيشونَ في أسفل الصّورة حيثُ كلُّ شيءٍ مُشوَّه. هذا التَّشويه لا بُدَّ منهُ للقيامِ بالعمل، إِلاَّ أنَّهُ ليسَ الحقيقَة!


تحميل المنشور