كَسر الكلمة - العهد القديم -47- الأحد الأول من زمن الصليب

كَسر الكلمة - العهد القديم -47- الأحد الأول من زمن الصليب

الأحد الأوّل بعد عيد الصَّليب
سفر تثنية الاشتراع: 17 / 14 - 20
14 إِذا دَخَلتَ الأَرضَ الَّتي يُعْطيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِيَّاها ووَرِثتَها وسَكَنتَ فيها، فقُلتَ: أُقيمُ علَيَّ مَلِكًا كسائِرِ الأُمَمِ الَّتي مِن حَولي،
15 فأَقِمْ علَيكَ مَلِكًا، مَن يَخْتارُه الرَّبُّ إِلهُكَ. مِن بَينِ إِخوَتكَ تُقيمُ علَيكَ مَلِكًا، ولا يَحِلُّ لَكَ أَن تُقيمَ علَيكَ رَجُلًا غَريبًا لَيسَ بِأَخيكَ.
16 لَكِن لا يُكثِرْ لِنَفْسِه مِنَ الخَيل، ولا يَرُدَّ الشَّعبَ إِلى مِصرَ لِيُكثِرَ مِنَ الخَيل، فقَد قالَ لَكُمُ الرَّبُّ: لا تَعودوا إِلى الرّجوعِ في هذه الطَّريق.
17 ولا يُكثِرْ لِنَفسِه مِنَ النِّساء، لِئَلَّا يَحيدَ قَلبُه، ولا يُبالِغْ في الإِكْثارِ مِنَ الفِضَّةِ والذَّهَب.
18 ومَتى جَلَسَ على عَرْشِ مُلكِه، فلْيَنسَخْ لَه نُسْخَةً مِن هذه الشَّريعةِ في سِفْرٍ مِن عِندِ الكَهَنَةِ واللاَّوِيين.
19 ولتكُنْ عِندَه، يَقرأُ فيها كُلَّ أَيَّامِ حَياتِه، لِكَي يَتَعَلَّمَ كَيفَ يَتَّقي الرَّبَّ إِلهَه حافِظًا كَلامَ الشَّريعةِ كلَّه وهذه الفَرائِضَ لِيَعمَلَ بِها،
20 لِئَلَّا يَشمَخَ قَلبُه على إِخوَته ولئَلَّا يَحيدَ عنِ الوَصِيَّةِ يَمنَةً أَو يَسرَةً، ولكَي يُطيلَ أَيَّامَه على مَملَكَتِه، هو وبَنوه، في وَسْطِ إِسْرائيل.

مقدّمة
معَ بدايةِ زمنِ الصّليبِ المقدَّسِ، تَدعونا كَنيسَتُنا المارونِيَّة في هذا الأَحدِ الأوَّل، لِلتَّأمُّلِ في عُودِ الصَّليبِ الَّذي صارَ عَرشًا لِملكِ الملوكِ، ربَّنا يسوعَ المسِيح. فَتَختارُ قراءَةَ العهدِ القَديمِ، نَصًّا من سفرِ تثنيَةِ الاشْتِراعِ، يَعودُ الى عَهدِ الـمَلَكيَّةِ وَيُشَجِّعُهُ. كما يُخبِرَنا عن مَهمَّةِ الملِكِ وَمَسؤُولِيَّتهُ أَمامَ الرَّبِ. أَمَّا نَصُّ الرّسالَةِ، فَهوَ مَكتوبُ تَشْجيعٍ يوجِّهُهُ بولُسُ الرَّسُول إِلى تِلميذِهِ طيموتَاوُسَ، يَحُثُّهُ فيهِ بالتَّمسُّكِ بِنعمَةِ الرَّبِ يَسوعَ، لِيَثبُتَ في الجِهادِ وَيَتحمَّلَ المشَقَّاتِ، كَجُندِيٍّ في سَاحَةِ مَعرَكةِ الإِيمَانِ بالرَّبِ يَسوعَ الّذي ماتَ وَقامَ. وَتَأتي في الخِتامِ، قِراءَةُ إِنجيلِ مَرقُسَ عَن طَلَبِ ابْنَا زَبَدَى لِلجُلوسِ عن جانِبِ الرَّبِ في الملَكوتِ، لِتُعَلِّمَنا أَنَّ وُجهَةَ سَيرِنا عَليها أَن تَمُرَّ بِصَليبِ الرَّبِ وَآلامِهِ.
هَذهِ القِراءاتُ تَفْتَتِحُ زَمنَ الصَّليبِ المقَدَّسَ، بِتَعليمٍ إِيمانيٍّ عن حَقيقَةِ حَياةِ الإِنسَانِ المسيحِيّ، الَّذي لَبِسَ الرَّبَ في سِرِّ العِماد، وَاتَّحدَ بهِ في سرِّ المناوَلَة، وَلِيَلتَقيهِ عَليهِ أَن يَمرَّ في سرِّ الصَّليبِ أَي سرِّ المحبَّةِ وَالغُفران.

تفسير الآيات
14 إِذا دَخَلتَ الأَرضَ الَّتي يُعْطيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِيَّاها ووَرِثتَها وسَكَنتَ فيها، فقُلتَ: أُقيمُ علَيَّ مَلِكًا كسائِرِ الأُمَمِ الَّتي مِن حَولي،
15 فأَقِمْ علَيكَ مَلِكًا، مَن يَخْتارُه الرَّبُّ إِلهُكَ. مِن بَينِ إِخوَتكَ تُقيمُ علَيكَ مَلِكًا، ولا يَحِلُّ لَكَ أَن تُقيمَ علَيكَ رَجُلًا غَريبًا لَيسَ بِأَخيكَ.

هذا النَّصُّ التَّابِعُ لِـمُؤَيِّدِي الـمُلكِيَّةِ في إِسرائيلَ، يَجِدُ نَصًّا مُوازِيًا في سِفرِ صموئيلَ الأَوَّل (8 / 11 - 18). يَبْدَأُ النَّصُ بِالعِبارَةِ الّتي تُميِّزُ فُصولَ سِفرِ تَثْنيَةِ الاشْتِراع "الأرضُ الّتي يُعْطيكَ الرَّبُ إِلَهُكَ" (تث 16 / 20؛ 18 / 9؛ 24 / 4 ؛ 26 / 1؛ 27 / 2 - 3). إِذِ الأَرضُ هيَ عَطِيَّةٌ منَ الرَّبِ الخَالِقِ، وَهوَ يُوكِلُها لِشَعْبِهِ لِكي يُحافِظَ عَلَيها. كَما أَنَّ بِدايَةَ النَّصِ مع "إِذا" الشَّرطِيَّةِ، تُظهِرُ أَنَّها تُعبِّرُ عن واقِعٍ، وَلَيسَت شَرطِيَّةً إِفْتِراضِيَّة. فَهذا النَّصُ هوَ عِبارَةٌ عن وَصِيَّةٍ دُوِّنَت تَعبيرًا عَن واقِعٍ حَدثَ في الماضِي، وَاخَتبَرَ بِسَبَبِهِ الشَّعبُ كُلَّهُ مُختَلَفَ التَّجارِبِ، كَملوكٍ اسْتَعمَلوا سُلطَتَهُم بِطريقَةٍ مُطلَقَة وَاسْتَغَلُّوا الشَّعبَ الفَقير.
نُذكِّرُ أَنَّ كَلماتَ هذا السِّفرِ تَلاها موسَى على مَسامِعِ الشَّعبِ، الّذي كَانَ واقِفًا على أَبوابِ الأَرضِ الجَديدَةِ، أَرضِ كَنعان المشْهورَةِ آنَذاكَ بِعبادَةِ الأَصْنامِ.
إِنَّ طَريقَةَ صِياغَةِ هاتانِ الآيَتانِ تُوضِحُ رِسَالَتهُما، وَهيَ: مَلِكُ إِسرائِيلَ يَخْتارُهُ الرَّبُ الإِلَه من شَعبِ إِسرائيلَ، يَكونُ أَخًا للشَّعبِ وَمَلكًا. هَكذا يَتميَّزُ شَعبُ إِسرائيلَ عَنِ الأُمَمِ الغَريبَة.

16 لَكِن لا يُكثِرْ لِنَفْسِه مِنَ الخَيل، ولا يَرُدَّ الشَّعبَ إِلى مِصرَ لِيُكثِرَ مِنَ الخَيل، فقَد قالَ لَكُمُ الرَّبُّ: لا تَعودوا إِلى الرّجوعِ في هذه الطَّريق. 
17 ولا يُكثِرْ لِنَفسِه مِنَ النِّساء، لِئَلَّا يَحيدَ قَلبُه، ولا يُبالِغْ في الإِكْثارِ مِنَ الفِضَّةِ والذَّهَب.

نُلاحِظُ العَلاقَةَ الوَثيقَةَ بينَ هاتَينِ الآيَتَينِ، من خِلالِ تَكْرارِ كَلمة "إِكْثار" الَّتي تَعني الإِفْراطَ في الـمُقْتَنَيات. هَذا الأَمرُ هوَ آفَةٌ تُدَمِّرُ الإِنسَان، وَبِالأَخَصِّ الملوك، إِذْ تُبْعِدَهُم عن رِسَالَتهِم وَمَسؤُولِيَّتِهِم. فَالمقْتنى يُبْعِدُ قَلبَ الإِنسَانِ عنِ الرَّب، فَيَعودَ الشَّعبُ المدعُوُّ لِلدُخولِ إِلى أَرضِ الميعَادِ، لاخْتِبارِ حَياةَ العُبودِيَّةِ كَما في أَيَّامِ مِصرَ. إِنَّ مِحوَرَ هاتانِ الآيَتانِ هو: " فقَد قالَ لَكُمُ الرَّبُّ: لا تَعودوا إِلى الرّجوعِ في هذه الطَّريق "، إِنَّها وَصِيَّةٌ منَ الرَّب وَتَنبيهٌ وَإِنذارٌ قَاطِع. في هاتانِ الآيَتانِ صَدًى لِكلامِ بولُسَ الرَّسول: " ومَا مِنْ جُنْدِيٍّ يَنْهَمِكُ في الأُمُورِ المَعِيشِيَّة، إِذا أَرادَ أَنْ يُرْضِيَ مَنْ جَنَّدَهُ " (2 طيم 2 / 3).

18 ومَتى جَلَسَ على عَرْشِ مُلكِه، فلْيَنسَخْ لَه نُسْخَةً مِن هذه الشَّريعةِ في سِفْرٍ مِن عِندِ الكَهَنَةِ واللاَّوِيين.
19 ولتكُنْ عِندَه، يَقرأُ فيها كُلَّ أَيَّامِ حَياتِه، لِكَي يَتَعَلَّمَ كَيفَ يَتَّقي الرَّبَّ إِلهَه حافِظًا كَلامَ الشَّريعةِ كلَّه وهذه الفَرائِضَ لِيَعمَلَ بِها،

رَفضُ المقْتَنياتِ لَهُ هَدفٌ واضِح: "حِفْظُ شَريعَةِ الرَّب" لِكَي يَكونَ مَلكُ إِسرائيلَ مُتَّقِيًا لِلرَّبِ، لا صَاحِبَ مُقْتنَيات. فَالشَّريعَةُ هيَ عَهدُ الرَّبِ معَ شَعبِهِ، وَهيَ دُستورُ حَياةٍ لَهُ وَلِلأجيالِ الجَديدَةِ. وَالكَهنةُ وَاللاَّويُّونَ كانُوا مُؤتَمَنينَ على نَسخِ شَريعَةِ الرَّبِ وَحِفظِها. فَمن واجِبِ الملِكِ أَن يَتفَرَّغَ من الحُروبِ وَالاهْتِماماتِ الزَّمنيَّةِ، وَالتَّكرُّسِ لِلرَّبِ بِطريقَةٍ كامِلَة، لِكي تَصْدُرَ أَحكامَهُ عن مَعرِفةٍ لِمشيئَةِ الرَّب. فَيَنسُخَ هوَ لِنَفسِهِ نَسخةً عنِ نَصِّ الشَّريعَةِ، أَي يُصْبِحَ عالِمًا بِكلمَةِ الرَّبِ كَالكَهنةِ وَاللاَّوِيِّينَ.
يَرِدُ هُنا حَقيقَةٌ عِلميَّةٌ: إِثباتٌ على أَنَّ للشَّريعَةِ نُسَخٌ عَديدَةٌ. أَي النُّسخَةُ الّتي بينَ أَيدينا وَالَّتي حَكمَت السُّلطَةُ الكَنسيَّةُ أَن تكونَ مَرجعِيَّتَنا، هيَ نُسخَةٌ من بينِ غيرِها.

20 لِئَلَّا يَشمَخَ قَلبُه على إِخوَته ولئَلَّا يَحيدَ عنِ الوَصِيَّةِ يَمنَةً أَو يَسرَةً، ولكَي يُطيلَ أَيَّامَه على مَملَكَتِه، هو وبَنوه، في وَسْطِ إِسْرائيل.
غَايَةُ حِفظِ الشَّريعَةِ هوَ التَّواضُع وَالطَّاعَةَ لِلرَّبِ، وَالمحبَّةَ للإِخوَة. بِها يَتبارَكُ الملكُ وَالمملَكةُ.

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
معَ رَبِّنا يَسوعَ المسيحِ المصلوبِ، عَرَفنا شَريعَةَ المحبَّةِ اللاّمَحدودَةِ، الّتي تَفوقُ الشَّرائِعَ وَالأَحكام جَميعَها.
نَصُّ سِفرِ التَّثنيَةِ هوَ مرجَعيَّةٌ لِكُلِّ إِنسَانِ وَليسَ لأَصحابِ السُّلطةِ فقَط، لِيَرذُلوا المقتَنياتِ وَيَتَّقوا الرَّبَ من خِلالِ دِراسَةِ كَلمَتهِ. إِذ السُّلطَةُ هيَ عَطيَّةٌ منَ الرَّبِ، وَعلى المسؤُولِ أَن يُؤَدِّيَ حِسَابًا لِلرَّبِ عن كيفيَّةِ اسْتخدامِهِ لِهذه السُّلطَة.


تحميل المنشور