الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-09-08
تفسير الآيات
21 لقَد أَبغَضتُ أَعْيادَكم ونَبَذتُها ولم تَطِبْ ليَ ٱحتِفالاتُكم.
هَذهِ الآياتُ القَليلَةُ تَختَصِرُ الوَضْعَ الدِّينيَّ الَّذي كَانَ سَائِدًا آنَذاكَ في إِسرائيلَ. إِذ عامُوسُ تَنَبَّأَ في أَيَّامِ يارُبَعامَ الثّاني مَلكِ إِسرائيلَ، الَّذي عَمِلَ عِجْلَينِ من ذَهبٍ، فَوضَعَ واحِدًا في بيتَ إِيل وَالآخَرَ في دان، وَأَقامَ عيدًا (راجع 1مل 12 / 26 - 33). كمَا كانَ الشَّعبُ يَعيشُ بِرَفاهيَةٍ زادَت عَن حُدودِ الـمَعقولِ وَالطَّبيعيّ، إِذ كانَ لِلأَغنياءِ بيتًا صيفِيًّا وَبيتًا شَتويًّا، بِالإِضافَةِ إِلى بيوتٍ منَ العَاج (عا 3 / 15). وَإِلى جانِبِ نوعِيَّةِ هذهِ الحياةِ وَالتَّرَفِ، كانُوا يُقدِّمونَ الذَّبائِحَ لِلرَّبِ في بيتَ إِيلٍ، رَمزِ العُصيانِ لِلرَّبِ وَالتَّمرُدِ عَلى مَشيئَتِهِ، إِذ كانَتِ العِبادَةُ الحَقيقيّة، آنَذاكَ، تُقامُ في أُورَشَليمَ (راجع يو 4 / 20). فَكانَ شَعبُ إِسرائِيلَ يَعيشُ إِزدِواجِيَّةً في العِبادَة، يُمارِسُ العُصيانَ لِوَصايا الرَّب من جِهَة، وَمن جِهَةٍ أُخْرَى يُكَرِّمُهُ بِذبائِحَ وَبِأَعيادٍ وَثنِيَّةٍ، سَائِرًا على خُطَى مَلكِهِ يارُبَعامَ عابِدِ العُجُول من ذَهَب. وَكانَت احْتِفالاتُهُم أَعمالَ كُفرٍ وَتمَرُّدٍ على الرَّب: "يَشْرَبونَ خَمرَ المغَرَّمينَ في بَيتِ إِلَهِهم"، وَيُسقونَ النُّذَراءَ خَمرًا وَيَأْمُرونَ الأَنبياءَ بِألاَّ يَتنَبَّأُوا (راجع عا 2).
لِهذا السَّبَبِ رَفضَ الرَّبُ أَعيادَهم وَاحْتِفالاتِهِم، الممزوجَةَ بِالرِّياءِ وَالكِبْرِياء. لِهذا قالَ الرَّبُ يَسوعُ عَن صَلاةِ الفرّيسِيّ، الّتي لا قوَّةَ وَلا شَفاعَةَ لَها أَمامَ الرَّبِ لأَنَّها مَمزوجَةٌ بِالكِبرياءِ: إِنَّها لَم تُبَرِّرُهُ " لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يُوَاضَع، وَمَنْ يُواضِعُ نَفْسَهُ يُرْفَع " (لو 18 / 14).
22 إِذا أَصعَدتُم لي مُحرَقات ... وتَقادمُكمِ لا أَرتَضي بِها ولا أَتَطَلَّعُ إلى الذَّبائحِ السَّلامِيَّة مِن مُسَمَّناتِكم.
المحرقاتِ وَالتَّقادِمَ وَالذَّبائِحَ السَّلامِيَّةَ، هُم رَمزٌ لِكافَّةِ أَنواعِ العِبَادَاتِ الَّتي كانَ الشَّعبُ يُقدِّمُها تَكفيرًا عن خَطايَاهُ وَعَلامَةَ تَوبَتهِ وَرُجوعِهِ لِلرَّب. هَذهِ كُلُّها ما عادَتْ تَنالُ رِضَى الرَّبِّ وَلا تَجْذِبُ انْتِباهَهُ أَبدًا. فَالرَّبُ يَطْلُبُ من شَعْبهِ مُمارَسَةَ الخَيرِ وَالحَقِّ وَالاسْتِقامَةِ (راجع عا 5 / 14 - 15).
يَظهَرُ الرَّبُ، في سِفرِ عاموس، جَريئًا في اتِّهامِهِ لِشَعبِهِ اللاّمُبالي وَرَحيمًا في انتِظارِهِ التَّوبَةَ، وَهوَ يَعلَمُ ما يَجولُ في ضَميرِ الإِنسَان (راجع عا 4 / 13) وَأَخيرًا، يَظهرُ عادِلاً في حُكمِهِ لِشَعبٍ حَرَّفَ حقَّ المسَاكينِ وَنَبذَ البارَّ (عا 5 / 10 – 13؛ 8 / 4 – 8). فَالمحرَقاتُ وَالذّبائِحُ وَالتّقادِم الّتي يَطْلُبُها الرَّبُ هيَ أَعمالُ الرَّحمَةِ. فقَد قالَ الرَّبُ مُسْتَهزِئًا بِتقادِمِ شَعبِ إِسرائيلَ، الّتي كانَت تُقدَّمُ بِكميّاتٍ كَثيرَةٍ وَلَكِن من دونِ ارْتِدادِ القَلب: "هَلُمّوا إِلى بيتَ إِيلَ وَاعْصُوا، وَفي الجِلجالِ أَكثِروا منَ المعاصِي، وَأْتُوا في الصّباحِ بِذبائِحِكُم وَفي كُلِّ ثلاثَةِ أَيّامٍ بِعُشورِكُم وَأَحْرِقوا منَ الخَميرِ ذَبيحةَ شُكرٍ وَنادُوا بِتقادِمَ طَوعِيَّةٍ وَأَعْلِنوها" (عا 4 / 4 - 5أ). هاتانِ الآيَتانِ تَدُلاّنِ على ازْدِواجِيَّةِ القَلبِ الّتي كانَ يَعيشُها الشَّعبُ، إِذ يَرتَكِبُ الخَطايا عاصِيًا أَمرَ الرَّبِ في تَكريمِهِ للعُجول، وَمن بَعدِها يَأتي لِيُقَدِّمَ الذَّبائِحَ لِلرَّب. لِهذا السَّبَبِ، حَجَبَ الرَّبُ نَظرَهُ أَي رَفضَ تَقادِمَ إِسرائِيلَ.
23 أَبعِدْ عنِّي جَلَبَةَ أَناشيدِكَ فلا أَسمَعْ عَزفَ عيدانِكَ
كانُوا "يَرْتَجِلونَ الأَغانيّ على صَوتِ العُودِ، وَمِثلَ داوُدَ يَخْتَرِعونَ آلاتِ الطَّرَب" (عا 6 / 5). عَاشَ الشَّعبُ في أَيّامِ عاموسَ حَياةَ الفُجورِ وَالطُّمَأنينَةِ الكَاذِبَة، يَهوَونَ الحَياةَ السَّهْلَةَ وَالـمُريحَةَ. إِلاَّ أَنَّهُم زادُوا على خَطاياهُم أَيضًا، أَنَّهم "باعُوا البارَّ بِالفِضَّةِ وَالمسْكينَ بِنَعْلَينِ، لِأَنَّهم يَدوسونَ رُؤُوسَ الضُّعَفاءِ على تُرابِ الأَرض وَيُحَرِّفونَ طَريقَ الوُضَعاء" (عا 2 / 6 - 7).
24 بل لِيَجْرِ الحَقُّ كالمِياه والبِرُّ كنَهرٍ لا يَنقَطِع.
أَلحَقُّ وَالبِرُّ هُما الذّبائِحُ السّلامِيَّةُ الّتي يَطْلُبُها الرَّبُ لِيَنالَ شَعبَهُ الخَلاصَ. إِنَّ صُورَةَ المياهِ وَالنَّهرِ هيَ مجازِيَّةٌ وَتَعني الاسْتِمراريَّةَ وَالحَثَّ الشَّديدَ على الارْتِدَادِ الجَذرِيّ عَنِ المظالِمِ وَالمعاصِي، وَنَشْرِ الحَقِّ وَالبِرّ. فَكما أَنَّ المياهَ في النَّهرِ تَجري في اتِّجاهٍ واحِدٍ، هكذا يُريدُ الرَّبُ أَن يَكونَ ارْتِدادُ شَعبِهِ عن سِيرَتهِ الخاطِئَة، ارْتِدادًا لا رُجوعَ فيهِ. وَهاتانِ الفَضيلَتانِ هما الضَّمانَةُ الأَكيدَةُ لِكرامَةِ الإِنسانِ وَلِلمساواةِ بينَ الجَميعِ، بينَ الفقراءِ وَالأَغنياء.