الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-09-01
8 لا تشمَتي بي يا عَدُوَّتي فإِنِّي إِذا سَقَطتُ أَقوم وإِذا سَكَنتُ في الظَّلام يَكونُ الرَّبُّ نورًا لي.
نتَسَاءَلُ عَن هُوِيَّة هَذه ال"عَدُوَّة" وَعَن هُوِيَّة الـمُتكَلِّمة -إِذ في اللُّغَةِ العِبْرِيَّةِ يُعَبَّر بِصيغَةِ المؤَنَّث-. إِنطِلاقًا من بِدايَةِ سِفرِ ميخا، نَستَنتِجُ أَنَّ عَدُوَّةَ صِهيونَ هيَ السَّامِرَة الَّتي صَارَت رَمزًا لِنينَوَى بِسَببِ خَطايَاها: "سَأَجعَلُ السَّامرَةَ أَطلالًا ... وَأَجعَلُ جميعَ أَصْنامِها دَمارًا، لأَنَّها جَمَعَتها من أُجْرَةِ زانِيَة، فَسَتَرجِعُ إِلى أُجْرَةِ زانِيَة" (راجع مي 1 / 2 - 7).
هَذه الآيَةُ تَحْوي "إِذا" الشَّرطِيَّة، وَهيَ تُعَبِّرُ عَن واقِعٍ حَقيقيٍّ، إِذ مَدينَةَ صِهيونَ قَدْ سَقَطَت وَاقْتيدَ أَبناؤُها إِلى الجَلاءِ وَتَدمَّرَت أَبْنِيَتها وَأُحْرِقَت بِسَبَبِ ابْتِعادِ الشَّعبِ عَن طَريقِ الحَقِّ وَالاسْتِقَامَة (راجع مي 3 / 9 - 12). كَما نُلاحِظُ صِياغَةَ الأَفعالِ في الجُملَتَينِ الشَّرطِيَّتَين، فَهُما في صِيغَةِ الماضي الّذي يَدُلُّ على زَمنِ المعاصِي وَالجَلاء، وَهيَ أَحداثٌ تاريخِيَّةٌ يَشْهَدُ لها تاريخُ إِسرائِيلَ وَالبِلادِ المجاوِرَة آنَذاك. أَمَّا النَّتيجَةَ فَهيَ فِعلُ إِيمانٍ يُطْلِقُهُ الكاتِبُ بِاسْمِ الشَّعب. في هذا القِسم الثّاني منَ الجُملَتَين الشَّرطِيَّتَينِ، رَجاءٌ وَثِقَةٌ بِالرَّبِ القَديرِ، فَهوَ يَهَبُ الرَّحمَةَ لِلسَّاقِطينَ، فيَقوموا. وَهوَ يُنيرُ ظُلُماتِ الضَّمائِرِ الّتي اسْتَسْلَمَت لِتَحريفِ الحَقِّ وَسُبُلِ الاسْتِقامَة وَشَوَّهَتِ العَدلَ وَالحَقّ، فيُميّزوا الحقَّ وَالعَدلَ. فَالرَّبُ إِذًا، هوَ رَبُّ الحَياةِ وَالغُفران، مَهما كَثُرَت آثامُ البَشَر وَعَظُمَت.
هَذا ما اسْتَطاعَت أَن تُدْرِكَهُ المرأَةُ الخاطِئَةُ، بينَما سِمعانُ الفَرّيسيُّ لَم يُدْرِكهُ من قَساوَةِ قَلبِهِ الـمُتعَلِّقِ بِشَريعَةِ الحَرف.
9 إِنِّي أَحتَمِلُ سُخطَ الرَّبّ لِأَنِّي خَطِئتُ إِلَيه إِلى أَن يُدافِعَ عن قَضِيَّتي ويُنصِفَني فيُخرِجُني إِلى النُّورِ وأَرى بِرَّه.
تَبْدَأُ هذهِ الآيَةُ في أَصْلِها العِبريّ بِالصِّفة "زَعَف" أَي "حَنَق أَو سُخْط" وجَذرُها يَرِدُ فقَط 12 مرَّةً في أَسفارِ العَهدِ القَديمِ، وَيُسْتَعمَلُ لِوَصفِ حَنقِ الملك وَغضَبِ الشَّعب وَهيجانِ البَحرِ، إِلاَّ أَنَّ مَعنى "حَنقُ الرَّبِ" لا يَرِدُ إِلاَّ في هذه الآيَةِ. سُخطُ الرَّبِ هوَ أَمرٌ يَتعلَّقُ بِالرَّبِ وَحْدَهُ، وَيَعْتَقِدُ ميخا، أَنَّهُ يُعَبَّرُ عَنهُ بِصَمْتِ الرَّبِ وَعَدَمِ تَدخُّلِهِ لإِنقاذِ شَعْبِهِ. وَعِبَاراتُ هَذهِ الآيَةِ تَدُلُّ عَلى وَعيٍ داخِليٍّ لِارْتِكابِ خَطيئَةٍ كَبيرَةٍ أَدَّتْ إِلى سُخطِ الرَّبِ وَحُلولِ الظَّلامِ مَكانَ النُّور.
18 مَن هو إِلهٌ مِثلُكَ حامِلٌ لِلآثام وصافِحٌ عنِ المَعاصي لِبَقِيَّةِ ميراثِه لا يُشَدِّدُ غَضَبَه لِلأَبَد لِأَنَّه يُحِبُّ الرَّحمَة.
19 سيَعودُ فيَرأَفُ بِنا وَيدوسُ آثامَنا وتَطرَحُ في أَعْمَاقِ البَحرِ جَمِيعَ خَطاياهم.
في هَذه العِباراتِ عَودَةٌ إِلى كَلماتِ "العَهدِ" الَّذي تمَّ تَجديدُهُ بينَ الرَّبِ وَشَعبِهِ (راجع خر 34 / 1 - 10). وَتَفصيلٌ لِما كَشَفهُ الرَّبُ لِـموسَى عَن ذاتِهِ: "ألرَّبُ الرَّبُ، إِلهٌ رَحيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَويلُ الأَناةِ وَكَثيرُ الرَّحْمَةِ وَالوَفاءِ. يَحْفَظُ الرَّحمَةَ لأُلوفٍ، وَيَحْتَمِلُ الإِثمَ وَالمعْصِيَةَ وَالخَطيئَة..." (خر 34 / 6 – 7؛ عد 14 / 18).
يُطْلِقُ الكاتِبُ في هذه الآياتِ الأَخيرَةِ من سِفْرِهِ، صَلاةً نابِعَةً من أَسفارِ الأَنبياءِ وَالمزاميرِ (راجع أش 12 ؛ 25 ؛ 26 ؛ 63 - 64). مُعْلِنًا أَنَّ رَحمَةَ الرَّبِ تَتطَلَّبُ منَ الإِنسَانِ التَّوبَةَ وَالعَودَةَ إِلى كَلماتِ العَهدِ وَالشَّريعَة. يَسْتَشْهِدُ الكاتِبُ بِنَشيدٍ مَنسُوبٍ إِلى حزقيّا مَلكِ يَهوذا، وَيَعودُ إِلى ما بَعدَ الجَلاء: "نَجَّيتَ (يا ربُّ) نَفسي من هُوَّةِ الهَلاكِ وَنَبَذتَ جميعَ خَطايايَ وَراءَ ظَهْرِكَ" (راجع أش 38 / 17؛ مز 116). في هاتانِ الآيَتانِ، يَعْتَرفُ المؤْمنُ بِرَحمةِ الرَّبِ العظيمَةِ الّتي تَفوقُ الخَطايا، لا بَل تَحْسَبُها شيئًا عابِرًا لا أَهميَّةَ لهُ. فَالرَّبُ أَعظَمُ من خَطايانا، هوَ يَدوسُها، لِأَنَّها كَلا شَيءٍ، وَيَطرَحُها في أَعماقِ البَحرِ، لِئَلاّ تُذكَرَ من بَعد وَلِئَلاّ يَبْقى لها من أَثَر.
20 تَمنحُ يَعْقوبَ الصِّدْقَ وإِبْراهيمَ الرَّحمَة كما أَقسَمتَ لِآبائِنا مُنذُ الأَيَّامِ القَديمة.
ألصِّدقَ وَالرَّحْمَةَ هُما الأَساسُ الَّذي بَنى عَليهِ الرَّبُ العَهدَ، معَ إِبراهيمَ وَيَعقوب (راجع تك 21 / 17 – 18؛ 28 / 13 - 15). نتَعجَّبُ من تَقدُّمِ يَعقوبَ عَلى إِبراهيمَ أَبي الآبَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الكاتِبَ يَذكُرهم بهذا التَّرتيبِ لِيُعلِنَ خاتِمَةَ سِفْرِهِ. أَي يَبدَأُ بِذِكرِ يعقوبَ الأَقرَبِ في التَّاريخِ إِلينا، ثمَّ يَبتَعِدُ في التَّاريخِ إِلى زمنِ إِبراهيمَ، لِيَعودَ إِلى نُقطَةِ البِداية "الأيّامِ القَديمة"، وَفيها يُقْفِلُ سِفرَهُ. لِيَدعونا هَكذا، لِلعَودَةِ إِلى قِراءَةِ أَحداثِ التَّاريخِ، بِهذا التَّرتيب، أَي إِنطلاقًا من الأيَّامِ القَديمَة، حتَّى بدايةِ السِّفرِ. فَيُدْرِكَ القارِئُ عملَ الرَّبِ في تاريخِ شَعبِ الله، وَعظمةَ رَحمَتهِ وَصِدقِهِ، علَّهم يَعودوا إِلى النَّور وَيَتوبوا (راجع مي 1 / 5).