كَسر الكلمة - العهد القديم -43- الأحد الثالث عشر من زمن العنصرة

كَسر الكلمة - العهد القديم -43- الأحد الثالث عشر من زمن العنصرة

الأحد الثالث عشر من زمن العنصرة
سفر التكوين: 2 / 8 – 10 + 15 - 17
8 وغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً في عَدْنٍ شَرْقًا وجَعَلَ هُناكَ الإِنسانَ الَّذي جَبَلَه.
9 وأَنبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرضِ كُلَّ شَجَرَةٍ حَسَنَةِ المَنظَر وطَيِّبَةِ المأكَل وشَجَرَةَ الحَياةِ في وَسَطِ الجَنَّة وشَجَرَةَ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ.
10 وكانَ نَهرٌ يَخرُجُ مِن عَدْنٍ فيَسْقي الجَنَّة ومِن هُناكَ يَتَشَعَّبُ فيَصيرُ أَربَعَةَ فُروع. 
15 وأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ الإنسانَ وجَعَلَه في جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَفلَحَها ويَحرُسَها.
16 وأَمَرَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ قائلًا:"مِن جَميعِ أشْجارِ الجَنَّةِ تأكُل،
17 وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا".

مقدّمة
في زمنِ الرُّوحِ القُدُسِ، تَعْتَني كَنيسَتُنا المارُونِيَّةُ بِتَذْكيرِنا، نَحنُ أَبْناءَها، بِأَهمِّيّةِ الإِصغَاءِ لِكَلمَةِ الرَّبِ بِعِنايَةٍ وَانْتِبَاهٍ، عِلْمًا منها أَنَّ نُفوسَنا تَحْتاجُ إِلى هذا الغِذاءِ الرُّوحيّ. لِذا، فَقِراءاتُ هذا الأحدِ الثالثِ عَشَر من زمنِ العَنصَرَةِ، تَتمَحْوَرُ حولَ "كَلمةِ الرَّب"، فنصُّ سِفرِ التَّكوينِ يُحدِّثُنا عَن قِصَّةِ خَلقِ جَنَّةِ عَدْنٍ، أَيْ "جَنَّةِ الرَّبِ وَالأَرضِ الأُولَى" بِحَسَبِ المصْدَرِ اليَهوِيّ. في هذا النَّصِ، يَغْرِسُ الرَّبُ في قَلبِ الإِنسَانِ وَصِيَّتَهُ الأُولَى: "مِنْ جَميعِ أَشْجارِ الجَنَّةِ تَأْكُل، وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا" (تك 2 / 16 - 17). وَفي نَصِّ الرِّسالَةِ الأولى إِلى أَهلِ قورِنتُس، يُشَدِّدُ بولُسُ وَمعهُ بَرنابا، على أَنَّ كلِمةَ الرَّبِ تَنمو في قُلوبِ البَشَرِ بِنِعمةِ الرَّب، فَالفَضْلُ لَا يَعودُ لِلرُّسُلِ، بَل لِلرَّب: "فَنَحْنُ مُعَاوِنَانِ لله، وأَنْتُم حَقْلُ اللهِ وَبِنَاءُ الله" (1قو 3 / 9). أَمَّا في نَصِّ الإِنجيلِ من لوقا الرَّسولِ، يَفتَحُ الرَّبُ يَسوعُ فَمهُ بِحكْمَةِ مَثَلِ الزَّارِعِ، أَمامَ حَشْدِ الجَماهيرِ الَّتي كَانَت تَتْبَعُهُ. فَيَصِفُ أَنواعَ الأَرضِ الَّتي تَقعُ فيها كَلمتُهُ، دَاعِيًا ضَمائِرَ السَّامِعينَ إِلى الفَهمِ: "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ سَامِعَتَانِ فَلْيَسْمَعْ" (لو 8 / 8ب).
وَأَنا اليَوم، مَاذا تَعْني لي كَلِمةُ الرَّب؟ ما هيَ نَوعِيَّةُ أَرضِي؟

تفسير الآيات
8 وغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً في عَدْنٍ شَرْقًا وجَعَلَ هُناكَ الإِنسانَ الَّذي جَبَلَه.
9 وأَنبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرضِ كُلَّ شَجَرَةٍ حَسَنَةِ المَنظَر وطَيِّبَةِ المأكَل وشَجَرَةَ الحَياةِ في وَسَطِ الجَنَّة وشَجَرَةَ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ.
10 وكانَ نَهرٌ يَخرُجُ مِن عَدْنٍ فيَسْقي الجَنَّة ومِن هُناكَ يَتَشَعَّبُ فيَصيرُ أَربَعَةَ فُروع.

إِنَّ الكَاتِبَ اليَهوِيَّ هوَ صَاحِبُ أَقْدَمِ نُصوصِ سِفرِ التَّكوين. فَهوَ يُصَوِّرُ اللهَ بِصُورَةِ إِنسَانٍ، جَاعِلاً لهُ صِفاتَ البَشَر: يَجْبُلُ الإِنسَانَ بِتُرابِ الأَرضِ "كَعَامِلِ الطِّينِ" (تك 2 / 7)، يَغْرِسُ الأَرضَ وَيُنْبِتُ النَّباتَ وَالأَشْجارَ "كَالفَلاّح" (2 / 9).
إِنَّ هذهِ الآيَاتِ تُقْسَمُ إِلى قِسْمَين: (8 – 10) وَ(15 – 17)، إِذْ نُلاحِظُ تَكْرارًا في تَصَرُّفِ الرَّب، فَفي الآية 8 يَجْعَلُ اللهُ الإِنسَانَ في جَنَّةِ عَدنٍ، ثُمَّ يُعاوِدُ هَذا الأَمر في الآيَةِ 15. هَذا التَّكْرارُ يَدُلُّ عَلى أَنَّ النَّصّ تمَّ تَصْحيحُهُ أَو الزِّيَادَةَ عَلَيهِ. فَنَجِدُ اللهَ نَفسَهُ يُنبِتُ الأَشجارَ على أَصْنافِها، في هذا القِسْمِ الأَوَّل، وَكَانَتِ الأَرضُ تَعْتَني بِنَفسِها، فَيَخرُجُ منها نَهرٌ وَيتفَرَّعُ أَربَعةَ فُروعٍ وَيَسْقي أَشجارَها وَمَزروعَاتِها. وَكَأَنَّ لا حَاجَةَ لِعَملِ الإِنسَانِ، إِذِ الأَرضُ تُروِي نَفسَها وَتُنْبِتُ الأَشجارَ وَالنَّبَاتَ. إِنَّها صُورَةٌ عَن عَملِ الرَّبِ الكَامِلِ، وَعَنِ الحَياةِ المِثالِيَّةِ في حَضْرَةِ الرَّب.
إِنَّ نَوعِيَّةَ هَذهِ الأَرض "طَيِّبةٌ"، فَالرَّبُ كَانَ يُنْبِتُ فيها أَشْجارًا جَميلَةَ المنْظَرِ وَطَيِّبَةَ الـمَأْكَلِ. وَلَكِنَّ اللهَ لَم يَكْتَفِ بِهذهِ الأَصْنافِ فقَط، بَلْ أَنْبَتَ أَيْضًا شَجَرَتا الحَياةِ وَمَعرِفةَ الخيرِ وَالشَّرِ وَهُما شَجَرتانِ رَمْزِيَّتانِ، جَعَلَهُما الرَّبُ في جَنَّةِ عَدْنٍ، بِهَدَفِ امْتِحَانِ الإِنْسَانِ وَأَمانَتهِ على مَا تَسَلَّمهُ منَ الرَّب.

15 وأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ الإنسانَ وجَعَلَه في جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَفلَحَها ويَحرُسَها.
16 وأَمَرَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ قائلًا:"مِن جَميعِ أشْجارِ الجَنَّةِ تأكُل،
17 وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا".

أَمَّا في هذا القِسْمِ الثَّاني، فَاللهُ يَضَعُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِعِنايَةِ الإِنْسَانِ الَّذي جَبَلهُ، لِيَفْلَحَها وَيَحْرُسَها، أَيْ لِيَعْمَلَ فيها وَلِيَحْفَظَها. وَكَأَنَّ الرَّبَ، في القِسمِ السَّابِقِ، أَعْطَى لِلإِنسَانِ مِثَالاً لِكَيفِيَّةِ عَمَلِ الأَرض لِلحِفَاظِ عَلَيها. إِلاَّ أَنَّ لِلعِنايَةِ بِالأَرضِ وَالنَّبَاتِ، عَلى الإِنسَانِ أَنْ يُطيعَ وَصِيَّةَ الرَّبِ، فَمسؤُولِيَّتَهُ إِذًا، لا تُعْطيهِ سُلطَةً مُطْلَقَةً على الأَرضِ، لِأَنَّهُ يَبْقَى مَخلوقٌ مِثلَ الخَليقَةِ، أَي خَاضِعًا لِنِظامٍ سَنَّهُ الخَالِقُ وَهوَ وَحدَهُ لَهُ السُّلطَةُ الـمُطْلَقَةُ على خَليقَتِه.
هَذهِ الوَصِيَّةُ الأُولَى، أَرادَها الرَّبُ لِبِناءِ عَلاقَةِ ثَقَةٍ معَ الإِنسَانِ، فَتكونَ لهُ الحَياةُ. إِلاَّ أَنَّ الإِنسَانَ اخْتَارَ الموتَ وَالعُصْيَانَ، لِيُثْبِتَ أَنَّ قَلبَهُ لا يُمكِنُهُ أَن يَكونَ أَرضًا طَيِّبةً يَغْرِسُ فيها الرَّبُ كَلِمتَهُ. لِذا، وَفي مِلءِ الأَزمِنَةِ أَرسَلَ الرَّبُ كَلمَتهُ، أَي ابْنَهُ الوَحيدَ، لِتُغْرَسَ في قَلبِ الإِنسَانِ وَتُحوِّلَهُ إِلى أَرضٍ طَيِّبَةٍ.

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
كَلِمةُ الرِّبِ هيَ يُنبوعُ حَياةٍ لِلإِنسَان. في هَذا النَصِّ، تَظْهَرُ عِنايَةُ الرَّبِ الـمُميَّزةِ بِالإِنسَانِ، إِذْ عَمِلَ الأَرضَ وَأَنْبَتَها، جَاعِلاً إِيَّاها جَنَّةً أَو فِرْدَوسًا جَميلاً، لِيَعيشَ فيهَا الإِنسَان. وَكَما أَنَّ الرَّبَ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنْ خَلائِقِهِ أَنظِمةً لِتَكونَ لها فيها الحَياةُ وَالاسْتِمرارِيَّة، هَكذا أَرادَ أَنْ تَكونَ وَصِيَّتهُ لِلإِنْسَانِ، طَريقَ حَياةٍ وِعَيشٍ في ظِلِّ عِنايَتِهِ.
يَحفَظُ لَنا سِفرُ المزاميرِ، أَطوَلَ مزمورٍ 119، لِيَصِفَ كَلمةَ الرَّبِ وَعمَلها في حَياةِ الإِنسَانِ: فَهيَ النُّورُ لِخُطَى الإِنسَان (119 / 105)، وَفيها رَجاؤُهُ (114)، وِحِكمَتُهُ (98) وَحَياتُه  (93)، إِنَّها كُلُّ شَيءٍ لِلإِنسَان، وَمِنْ دونِهَا يَفقِدُ الإِنسَانُ كُلَّ شَيء.


تحميل المنشور