كَسر الكلمة - العهد القديم -42- الأحد الثاني عشر من زمن العنصرة

كَسر الكلمة - العهد القديم -42- الأحد الثاني عشر من زمن العنصرة

الأحد الثاني عشر من زمن العنصرة
سفر راعوت: 1 / 15 – 19أ
15 فقالَت نُعْمي:"هذه سِلفَتُكِ قد رَجَعَت إِلى شَعبِها وآِلهَتِها، فٱرجِعي أَنتِ على أَثَرِ سِلفَتِك".
16 فقالَت راعوت: "لا تُلِحِّي علَيَّ أَن أَترُكَكِ وأَرجعَ عَنكِ، فإِنِّي حَيثُما ذَهَبتِ أَذهَبْ وحَيثُما بِتِّ أَبِتْ شَعبُكِ شَعْبي وإِلهُكِ إِلهي
17 وحَيثُما تَموتي أَمُت وهُناكَ أُدفَن. لِيَصنعِ الرَّبُّ بي هكذا ولْيَزِدْ هكذا إِن فَرَّقَ بَيني وبَينَكِ غَيرُ المَوت.
18 فلَمَّا رأَتْها مُصِرَّةً على الذَّهابِ مَعَها، كفَّت عن مُحادَثَتِها بِالأَمْر.
19أ وذَهَبَتا كِلْتاهما حتَّى وَصَلتا إِلى بَيتَ لَحْم.

مقدّمة
إِنَّ روحَ الرَّبِ لا يُقَيَّدُ، لا بِأَماكِنَ وَلا بِأَزمِنَةٍ وَلا بِشرائِعَ وَلا بِتقَاليدَ مُحَدَّدة، بَل هوَ روحُ الحرِيَّةِ وَالحَقّ. بِهذا الخَطِّ، تَخْتارُ كنيسَتُنا المارونِيَّةُ قراءاتَ هَذا الأَحَدِ، من إِنجيلِ متّى الَّذي يُخْبِرُنا عَن إِيمانِ المرأَةِ الكنعَانِيَّةِ، وَتُعادِلهُ قراءَةُ العَهدِ القَديمِ من سِفرِ راعُوتَ الوآبِيَّةُ المؤْمِنَةُ. وَفي نصِّ الرِّسالَةِ إلى أَهلِ أَفَسُس، يُوضِحُ بولُسَ الرَّسولِ سرَّ المسيحِ الَّذي كانَ مَخفِيًّا عن معرِفةِ البَشَر، وهوَ أَنَّ الأُممَ سيَنالونَ ميراثَ الملكوتِ معَ المؤمِنينَ، بِإيمانِهِم بيسُوعَ المسيحِ ابْنِ الله.
سِفرُ راعوتَ يُخْبِرُنا عَن عَملِ روحِ الرَّبِ في ضَمائِرِ الأُمَمِ، منذُ العَهدِ القَديم. فَتُصْبحُ راعوتُ مِثالاً لمغامَرةِ الإِيمانِ، الّتي جعَلَت منها جَدَّةً لِداوُدَ الملِكِ، وَجدَّةً للسِّبطِ الَّذي بارَكهُ الرَّبُ للأَبَدِ وَحُفِظَ ذِكرُها في نَسَبِ الرَّبِ يسوع لِمدى الدُّهور: "بوعَزُ وَلَدَ عوبيدَ منْ راعوت، وَعوبيدُ وَلدَ يسَّى، وَيَسَّى وَلدَ الملِك داوُد" (متى 1 / 5- 6).

تفسير الآيات
سُمِّيَ هذا السِّفرُ بِاسْمِ بَطَلةِ القِصَّة، راعُوتُ الموآبِيَّة. يُفَسِّرُ بَعضَ الشُّراحِ اسْمَ "راعُوتَ" بِأَنَّهُ يَعني "الـمُتشَدِّدَة" وَيُوحِي بِالثّباتِ وَالتَّعلُّق، بِخِلافِ اسْمِ "عُرْفَة" سِلْفَتِها، الّذي يُوحي بِـــ"قَفا العُنُق" أَي يَدُلُّ على الانْصِرافِ وَالارْتِدَادِ. رَاعُوت هيَ امْرَأَةٌ مُوآبِيَّةٌ، أَي تَابِعَةٌ لِشَعْبٍ هوَ أَلَدُّ عَدوٍّ لِلشَّعبِ الإِسرائِيلِيّ. فَالتَّاريخُ يُخْبِرُنا أَنَّ مَلِكَ موآبَ، بالاقُ بْنُ صِفُّورَ، اسْتَنْجَدَ بِبِلعَامَ بْنِ بَاعورَ العَرَّاف (يش 13 / 22)، لِيَلْعَنَ شَعْبَ إِسْرائيلَ (عد 22 / 6)، إِلاَّ أَنَّ الرَّبَ حوَّلَ قَلْبَ بِلعَامَ، فَبَارَكَ شعبَ الرَّبِ (راجِع عد 22 / 1 – 25 / 9). وَراعُوتُ وَثَنيَّةٌ، من عَابِدَاتِ الإِله كِمُوشْ (راجع عد 21 / 29؛ 1مل 11 / 7 . 33) صَنمُ الـمؤابِيّينَ، إِلاَّ أَنَّها ارْتَدَّتْ إِلى عِبَادَةِ الإِلَهِ الواحِدِ بَعْدَ مَوتِ زَوجِها مَحْلون "مَرَضْ"، وَرُؤيَتِهَا أَلَمَ كَنَّتَها نُعْمي "جَميلَتي". وَرَاعُوتُ الوَثَنيَّةُ المؤمِنَةُ سَتَكونُ فيمَا بَعدُ جَدَّةُ دَاوُدَ الـمَلِك، وَهيَ مِثَالٌ لِلتَّقوَى يَحْفَظُهُ التَّاريخُ عَلى مَدَى الأَجْيَالِ وَالدُّهُورِ. وَقَدْ دَخَلَتْ شَرعِيًّا في أُسْرَةِ الشَّعبِ الإِسْرائِيليّ، وَفي العَائِلَةِ الّتي مَلكَتْ "إِلى الأَبَدِ"؛ بِحسَبِ قَولِ الرَّبِ وَوَعْدِهِ لِداوُدَ (راجع 2صم 7 / 17)؛ وَمِنها خَرَجَ الرَّبُ يَسوعُ، بِزواجٍ دَبَّرَتهُ العِنَايَةُ الإِلَهيَّةُ، بِحسَبِ شَريعَةِ أَخي الزَّوج (راجع تث 25 / 5 – 10؛ وَلِلعلاقَةِ بينَ موآبَ وَدَاوُد: 1صم 22 / 3 – 4).

15 فقالَت نُعْمي:"هذه سِلفَتُكِ قد رَجَعَت إِلى شَعبِها وآِلهَتِها، فٱرجِعي أَنتِ على أَثَرِ سِلفَتِك".
يَرِدُ فِعلُ هَلَخْ "رَجِعَ" 18 مرَّةً في سِفْرِ رَاعوت. وَفي هَذهِ الآيَة،ِ كمَا في آيَاتٍ أُخْرَى (را 1 / 8 . 11. 12. 16)، يَدُلُّ عَلى الرُّجوعِ إِلى أَرضِ الماضِي وَإِلى عِبَادَة الآلِهَةِ الأُولَى الوَثَنِيَّة. رَاعوتُ فَهِمَتْ مَا مَعْنَى الأَلَم الَّذي تُعاني مِنهُ نُعمي، أَلَمُ الوِحْدَةِ وَفُقدانُ مَعْنَى الحَيَاةِ. لِذا، أَصَرَّتْ عَلى الـمُكوثِ مَعَها، لِتَخْفيفِ أَلَمِها.
نُلاحِظُ صِيَاغَةَ هذهِ الآيَةِ، إِذْ طَرَفَاها الأوَّل وَالأَخيرِ مُتوازِيَينِ بِالفِعلِ وَصِفَةِ القَرابَة، أَمَّا الـمِحْوَر فَهوَ مَعْنى فِعْل "رَجِعَ": "إِلى الشَّعب" الّذي تَنْتَمي إِليهِ راعوت وَ"إِلى الآلِهَةِ" الوَثَنيَّة الّتي تَعْبُدُها.
إِنَّ عُرْفَةَ رَجِعَتْ إِلى مَاضِيها، أَمَّا راعُوتُ فقَدْ اخْتَارَتْ البَدْء بِحَياةٍ جَديدَةٍ، تارِكَةً وَراءَها كُلَّ ماضِيهَا، شَعْبَها، أَرضَها، أَهْلَها وَآلِهَتها. إِنَّها شَخْصِيَّةٌ مُغَامِرَةٌ وَقَوِيَّة، مُسْتعِدَّةٌ لِلتَّعرُّفِ وَالانْفِتَاحِ عَلى الإِلهِ الأَحَد الَّذي تَعْبُدهُ نُعْمي.

16 فقالَت راعوت: "لا تُلِحِّي علَيَّ أَن أَترُكَكِ وأَرجعَ عَنكِ، فإِنِّي حَيثُما ذَهَبتِ أَذهَبْ وحَيثُما بِتِّ أَبِتْ شَعبُكِ شَعْبي وإِلهُكِ إِلهي 
17 وحَيثُما تَموتي أَمُت وهُناكَ أُدفَن. لِيَصنعِ الرَّبُّ بي هكذا ولْيَزِدْ هكذا إِن فَرَّقَ بَيني وبَينَكِ غَيرُ المَوت".

وَهَذا هُوَ اعْتِرافُها وَقَسَمُها. إِنَّ قَرارَ رَاعُوتَ واضِحٌ وَغَيرُ مُتَزَعْزعٍ، فقَدْ اخْتارَت ما اخْتارَتهُ عَن صِدقٍ وَيَقينٍ، فلا مَجالَ لِلمُباحَثةِ عن مَوضُوعِ العَودَةِ إِلى الوَراء. وَأَعْلَنَتْ لِنُعمي عَنْ انتِسَابِها الكَامِلِ إِلى الشَّعبِ الإِسرائيليّ وَإِلى الرَّبِ وَحْدهُ وَإِلى عَائِلتِها وَإِلى مَصيرِها مهما كَانَ في الحَياةِ وَفي الممَاتِ. فَالكَلِمات الَّتي تَسْتعمِلُها راعوتُ "شَعبكِ شَعْبي ... إِلهُكِ إِلهي"، تُذَكِّرُنا بِكلماتِ العَهدِ بينَ الرَّبِ وَشَعبَهُ "سَتَكونونَ لي شَعبًا، وَأَكونُ لكُم إِلهًا" (تك 17 / 7 – 8؛ خر 6 / 7؛ تث 29 / 13).
تَرِدُ صِيَغُ "قَسَمِ اليَمين" في عِدَّةِ مراجِعَ في الكِتابِ المقدَّس: أَقسَمَ إِتَّايَ الجِتِّيّ الوَثنيّ، وَهو من جِتّْ الفِلستِيَّةَ، لِداوُدَ قائِلاً: "حيٌّ الرَّب! وَحيٌّ سَيّدي الملِك! فَحيثُما كَانَ سَيِّدي الملك، سَواءٌ كَانَ لِلموتِ أَو لِلحَياةِ، فَهُناكَ يَكونُ عَبْدُكَ" (2صم 15 / 21). " لِيَصنعِ الرَّبُّ بي هكذا ولْيَزِدْ " (راجِع 1صم 20 / 13؛ 1صم 14 / 44).
إِنَّ قَسَمَ راعوت يُلقي عَليها مَسْؤُولِيَّةَ الأَمانَةِ لِعَهْدِها معَ الرَّبِ وَمع نُعمي، مَهما حَصَلَ لَها مِنْ مَصَائِبَ وَمَشَاكِلَ في هذهِ الطَّريق الّتي اخْتارَتها.

18 فلَمَّا رأَتْها مُصِرَّةً على الذَّهابِ مَعَها، كفَّت عن مُحادَثَتِها بِالأَمْر.
19أ وذَهَبَتا كِلْتاهما حتَّى وَصَلتا إِلى بَيتَ لَحْم.

أَمَامَ إِصْرارِ راعُوتَ وَصِدْقِها الَّذي عبَّرَت عنهُ بِقَسَمِها، ما كَانَ على نُعْمي إِلاَّ قَبولَها في عَائِلَتِها وَبَلدَتِها بيتَ لَحم وَفي شَعْبِها. تَبْقَى راعُوتُ الموآبِيَّةُ المؤمِنَةُ مِثَالَ الوَثنِيِّينَ المؤْمِنينَ، كَالمرأَةِ الكَنعانِيَّةِ في إِنجيلِ متَّى، هذهِ المرأةُ الجَريئَةُ الَّتي عَرَفَت أَن تَنتَصِرَ على قَلْبِ الرَّبِ وَمَنطِقِ الشَّريعَةِ المحْدودِ، فَتنالَ بِإِيمانِها بالرَّبِ الشِّفاءَ لابْنَتِها: "أيَّتُهَا الـمَرْأَة، عَظِيْمٌ إِيْمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا تُريدِين" (متى 15 / 28).

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
إِنَّ قراءاتَ هَذا الأَحَدِ تُعْلِنُ عَملَ الرُّوحِ القُدُسِ أَيضًا، في قُلوبِ وَضَمائِرِ كُلِّ الشُّعوبِ الغَريبَةِ عَن الإِيمانِ بِالرَّبِ الواحِد. فَالرُّوحُ قَادِرٌ أَن يُعَلِّمَ الوَثنِيِّينَ طَريقَ الحَقِّ، وَيَهدِيَهُم بِضَمائِرِهم. فَهذا هوَ سِرُّ فَهمِ بولُسَ الرَّسُولِ لِسِرِّ الـمَسيح، إِذ يَقول: "حِينَئِذٍ يُمْكِنُكُم، إِذَا قَرَأْتُمْ ذلِكَ، أَنْ تُدْرِكُوا فَهْمِي لِسِرِّ الـمَسِيح، هذَا السِرِّ الَّذي لَمْ يُعْرَفْ عِنْدَ بَنِي البَشَرِ في الأَجْيَالِ الغَابِرَة، كَمَا أُعْلِنَ الآنَ بِالرُوحِ لِرُسُلِهِ القِدِّيسِينَ والأَنْبِيَاء، وهُوَ أَنَّ الأُمَمَ هُم، في الـمَسِيحِ يَسُوعَ، شُرَكَاءُ لَنَا في الـمِيرَاثِ والجَسَدِ والوَعْد، بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيل" (أف 3 / 4 - 6).
تُعَلِّمُنا راعوتُ أَنَّ الإِلهَ الحَقَّ هوَ الرَّبُ الَّذي يَسيرُ معَ الإِنسَانِ وَيُرافِقُهُ في دُروبِهِ وَأَحْداثِ حَيَاتِهِ، وَهوَ ليسَ صَنمًا مُرْتَبِطًا بِشَعبٍ مُحدَّدٍ وَمكانٍ مُعيَّنٍ. لَقَد تَعرَّفَت راعوتُ على الرَّبِ بِسَبَبِ نُعمي اليَهودِيَّةَ، الَّتي عاشَت أَمينةً لإِيمانِها في أَرضِ موآبَ الوَثنِيَّةَ وَشَهِدَتْ لِحُضورِ الرَّبِ معَها في غُرْبَتِها.
فَلْنَكُن إِذًا، نحنُ المؤْمِنينَ بِالرَّبِ يَسوعَ، جُسُورًا بينَ الرَّبِ وَالشُّعوبِ الغَريبَةِ عنِ الإِيمانِ، كمَا كانَت نُعْمي لِراعُوت.


تحميل المنشور