الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-06-16
8 ففَضَّلتُها على الصَّوالِجَةِ والعُروش وعَدَدتُ الغِنى كَلا شَيءٍ بِالقِياسِ إِليها.
9 ولم أعادِلْ بها الحَجَرَ الّذي لا يُقَدَّر لأَنَّ كُلَّ الذّهَبِ بِإِزائِها قليلٌ مِنَ الرَّمْل والفِضَّةَ عنِدَها تُحسَبُ طينًا.
صَحيحٌ أَنَّ سُليمانَ لم يَطلُبْ منَ الرَّبِ لا الغِنى، ولا السُّلطةَ ولا الانتِقامَ ولا أيَّ شَيءٍ آخَرَ منَ الجَاهِ وَمظاهِرِ العَظمَة، بَلِ اختارَ الأَفضَل أَي الحِكمة (1 مل 3 / 11). فلا شَيءَ يُساوِي الحِكمَةَ، وَهوَ وَضَعها في أَفضليَّةِ اختياراتِه وأَولويَّةً على احتياجاتِه. وَيَقولُ سُليمانُ في شَأنِ العُروش، نَاصِحًا الـمُلوك: "فَإِنْ طَابَتْ لَكُم العُروشُ وَالصَّوالِجَةُ، يا مُلوكَ الشُّعوبِ، فَأَكْرِمُوا الحِكمَةَ لِكَي تَمْلِكُوا لِلأَبَد" (حك 6 / 21).
كما أَنَّهُ بالرَّغمِ من تَدفَّقِ الذَّهبِ وَالأَحجارِ الكَريمَةِ عَليهِ، لَم يُفضِّل سُليمانُ أَيًّا منها على الحِكمَة. فمَلكَةُ سَبأَ جاءَت إِلى الملِكِ سُليمانَ وَأَهدَتهُ ذهبًا وَأطيابًا وَحجارَةً كريمةً (راجع 1مل 10 / 1 - 13)، بالإِضافَةِ إلى رِبحِهِ في التِّجارَةِ الّذي دَفَّقَ عليهِ الذَّهبَ الكَثيرَ، حتّى إِنَّهُ "لَم تكُنِ الفِضَّةُ تُحسَبُ شيئًا في أَيّامِ سُليمان" (راجع 1مل 10 / 21 - 22). "وَكانتِ الأرضُ كُلُّها تَلتَمِسُ مُواجَهةَ سُليمانَ، لِتَسمَعَ حِكمتَهُ الّتي أَودَعها اللهُ في قَلبِهِ" (1مل 10 / 24).
10 وأَحبَبْتُها فوق العافِيةِ والجَمال وآثَرْتُ أن أتَّخِذَها قبل النّور لأَن رَونَقَها لا يَقِرُّ لَه قَرار.
سُليمَانُ عَرِفَ سِرَّ الحِكمَةِ، أَنَّها تَقودُ إلى الملَكوتِ وَإِلى الخُلود، فَأَحبَّها كَعروسَتِهِ: "هيَ الّتي أَحْبَبْتُها وَالْتَمَستُها مُنذُ حَداثَتي، وَسَعَيتُ أَن أَتَّخِذَها لي عَروسًا، وَصِرتُ لِجمَالِها عَاشِقًا" (حك 8 / 2). كَما عَرَفَ أنَّ الحِكمَةَ هيَ إِنعِكَاسٌ لِلنُّورِ الأَزَليِّ، وَأَنَّها نِعمَةٌ تُلْتَمَسُ منَ الرَّب (راجِع حك 7 / 26؛ 8 / 17 - 21). إِنَّها أَسطَعُ منِ النُّور "وَإِذا قيسَتْ بِالنُّورِ ظَهرَ تَفَوُّقَها. لِأَنَّ النُّورَ يَعْقُبُهُ اللَّيل، أَمَّا الحِكمَةُ فلا يَغْلِبُها الشَّر" (راجع حك 7 / 29 - 30).
11 فأَتَتني معَها جَميعُ الخَيرات وعن يَدَيها غِنىً لا يُحْصى.
12 فسُرِرتُ بِهذه الخَيرات كُلِّها لأَنَّها بِإِمرَةِ الحِكمة ولم أكُن عالِمًا بِأنَّها أُمٌّ لَها جَميعًا.
يَعْتَرِفُ سُليمانُ بِالغِنى العَظيمِ الّذي اكْتَسَبَهُ معَ الحِكمَة، فَفاقَ بِها حُكماءَ الـمَشرِقِ وَمِصرَ (راجع حك 5 / 9 - 14). كَمَا فَاقَت مَعْرِفتُهُ الأَيّامَ الحاضِرَةَ وَالأَشياءَ الـمَنظورَةَ "عَرَفتُ كُلَّ ما خَفِيَ وَكُلَّ ما ظَهَرَ، لِأَنَّ مُهَندِسَةَ كُلِّ شَيءٍ عَلَّمَتني، وَهيَ الحِكمَة" (حك 7 / 21). معَ الحِكمَةِ، سُليمانُ تكَلَّمَ بِكُلِّ عِلمٍ منَ العُلومِ على اخْتِلافِها (راجع حك 7 / 17 - 21).
أَمَّا أَنَّ الحِكمَةَ هيَ أُمٌّ لِجميعِ الخَيرات، فتَقولُ هيَ بِنَفسِها: "مَعي الغِنَى وَالمجد وَالأَموالُ الثَّابِتَة وَالبِرّ. ثَمري خَيرٌ منَ الذَّهَبِ وَالإِبْريز، وَغلَّتي أَفضَلُ منَ الفِضَّةِ الخَالِصَة" (مثل 8 / 18 - 19).
13 وما تَعَلَّمتُه بِإِخلاصٍ أُشرِكُ فيه بِسَخاء ولا أَكتُمُ غِناها.
14 فإنَّها كَنزٌ لِلنَّاسِ لا يَنفَد والَّذينَ ٱقتَنَوه كَسِبوا صداقَةَ الله وقَد أوصَته بِهم المَواهِبُ الصَّادِرَةُ عنِ التَّأديب.
ما كَسِبَهُ الملِكُ سُليمانُ منَ الحِكمَةِ، شَارَكَ بهِ الأَجيالَ الكَثيرةَ حتَّى يومِنا هذا. فهو الّذي "قالَ ثلاثةَ آلافِ مثَل، وَكانَت أَناشيدُهُ أَلفًا وَخمسَةَ أَناشيد" (راجع 1مل 5 / 12 - 13). كما أَنَّ بعضَ مقاطعِ سفرِ الحِكمَةِ وَسفرِ الأَمثالِ، سِفرُ الجامِعَة وَسفرُ نَشيدِ الأَناشيد تُنسَب إِليه. فَسِفرُ الأَمثالِ يُفتَتَحُ بهذهِ الكَلماتِ: "أَمثالُ سُليمانَ بْنِ دَاوُدَ، مَلِكِ إِسرائِيل" (مثل 1 / 1). وَلَم يَكْتُم سُلَيمانُ على الأَسرارِ الّتي تعلَّمَها منَ الحِكمَةِ، كَما يَقولُ: "وَأَنا أُخبِرُكُم ما الحِكمَةُ وَكيفَ نَشَأَت، وَلا أَكْتُمُ عَنكُمُ الأَسْرَار. فَتأَدَّبوا بِأَقوالي تَسْتَفيدُوا مِنها" (حك 6 / 22. 24). أَمَّا بِدَايَةُ طَلَبِ الحِكمَةِ، فَهوَ القُبولُ بِالتَّأديب وَالرَّغبَةُ بِهِ كَعلامَةِ محبَّةٍ لِلهِ الخَالِقِ وَوَاهِبِ الحِكمَةِ لِلجَميع: "فَأَوَّلُها الرَّغْبَةُ الصَّادِقَةُ في التَّأديبِ، وَالاهْتِمَامُ بِالتَّأديبِ هوَ المحبَّةُ" (حك 6 / 17)، "تَمسَّك بِالتَّأديبِ، لا تُطلِقهُ، إِحْفَظهُ فَإِنَّهُ حياةٌ لَك" (مثل 4 / 13).