كَسر الكلمة - العهد القديم -33- الأحد الثالث من زمن العنصرة

كَسر الكلمة - العهد القديم -33- الأحد الثالث من زمن العنصرة

الأحد الثالث من زمن العنصرة
سفر الأمثال: 8 / 22 – 23 + 30 - 36
22 الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طُرُقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء
23 مِنَ الأَزَلِ أُقِمتُ مِنَ الأَوَّلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض.
30 وكنتُ عِندَه طِفْلاً وكُنتُ في نَعيمٍ يَوماً فَيوماً
31 أَلعَبُ أَمامَه في كُلِّ حين أَلعَبُ على وَجهِ أَرضِه ونَعيمي مع بَني البَشَر.
32 فاْسمَعوا لِيَ أَيُّها البَنون فطوبى لِلَّذينَ  يَحفظونَ طُرُقي.
33إسمَعوا التَّأديبَ وكونوا حُكَماء ولا تُهمِلوه.
34 طوبى لِلإِنْسانِ الَّذي يَسمَعُ لي ساهِراً عِندَ مَصاريعي يَوماً فيَوماً حافِظاً عَضَائِدَ أَبْوابي.
35 فإِنَّه مَن وَجَدَني وَجَدَ الحَياة ونالَ رِضىً مِنَ الرَّب
36 ومَن أَخطَأَ إِلَيَّ ظَلَمَ نَفسَه. كُلُّ مَن يُبغِضُني يُحِبُّ المَوت.

مقدّمة
إِنَّ حُلولَ الرُّوحِ القُدُسِ في حَياةِ الـمُؤمِنِ، يَجعَلُهُ هَيكَلاً لِسُكنَى الآبِ وَالابْنِ وَيَبقَى مَعهُ، يُرافِقُهُ، جَاعِلاً حُضورَ الرَّبِ يَسوعَ حَيًّا في حَيَاتِهِ. في هَذا الأحَدِ الثَّالِثِ، تَدعونَا كَنيسَتُنا الـمَارونِيَّةُ إِلى الانْفِتاحِ عَلى عَمَلِ روحِ الرَّبِ في حَياتِنا: أَوّلاً، من خِلالِ قِراءَةِ العَهدِ القَديمِ الحِكَمِيَّةِ، الّتي تُظهِرُ أَهمِّيّةَ حُضورِ الرّوحِ القُدُسِ الّذي يُحيِينا، يُعَلِّمُنا وَيَهَبَنا الحِكمَةَ لِفَهمِ أَسرارِ الرَّبِ وَالحَياة. ثانِيًا، بِواسِطَةِ الرِّسالَةِ إِلى أَهلِ قُورِنتُس، فيها يُخبِرُنا الرَّسولُ بولُسَ عَن روحِ الرَّبِ الَّذي يَعرِفُ أَعماقَ أَسرارِ الله: "مَا لَمْ تَرَهُ عَيْن، ولَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُن، ولَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَر، قَدْ أَعَدَّهُ الله لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. لكِنَّ الله أَعْلَنَهُ لَنَا بِرُوحِهِ، لأَنَّ الرُوحَ يَسْبُرُ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ الله." (1قور 2 / 9 - 10). وَأَخيرًا، في نَصِّ إِنجيلِ يوحنّا، يُشَدِّدُ فيهّ الرَّبُ يَسوعُ على حُلولِ الرُّوحِ القُدسِ بينَ التَّلاميذِ، ليُعلِّمَهُم كُلَّ شيءٍ، وَيُذكِّرَهم بِتعَاليمِهِ وَوَصايَاهُ، ويُفهِمَهُم تدريجيًّا سِرَهُّ الكَامِلِ (يو 14 / 21 - 27).

تفسير الآيات
22 الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طُرُقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء
23 مِنَ الأَزَلِ أُقِمتُ مِنَ الأَوَّلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض.

هَذا النَّشيدُ في العَهدِ القَديمِ، يَصِفُ الحِكمَةَ كَإِنسَانٍ مُتجَسِّدٍ خَلَقَهُ الرَّبُ بِكرًا لِأَعمالِهِ. أَلفِعلُ العِبريُّ  "قَانَني" وَهو أَكَادِيُّ الأَصلِ، يَعني الاقْتِناء أَو الامْتِلاك إِلى جانِبِ الـمَعنى "خَلقَ". (ألرَّبُ اقْتَنانِي) يَدُلُّ على أَنَّ الحِكمَةَ الـمُتجَسِّدَةَ هيَ خَاصَّةُ الرَّبِ وَحدَهُ، فَهيَ لَهُ وَمِنهُ. مِنَ الأَسفَارِ الحِكَميَّةِ الّتي تَصِفُ الحِكمَةَ الـمُتجسِّدَةَ مِن لَدُنِ الرَّب، سِفرُ يَشوعَ بنِ سيراخ وَهوَ يُخْبِرُ عَنها بِوُضُوحٍ: "قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ خُلِقَتِ الحِكمَةُ. أَلرَّبُ هوَ الَّذي خَلَقَها وَرآهَا وَأَحْصَاها وَأَفاضَها عَلى جَميعِ أَعمَالِه"  (سي 1 / 4 . 9).
هَذهِ الحِكمَةُ كَانَت أَوَّلَ أَعمالِ الرَّبِ في الخَليقَةِ، قَبْلَها لَم يَكُنْ شَيء (مِنَ الأَوَّلِ أَي مِنَ البِدايَةِ، قَبْلَ أَن يَكونَ كَائِنٌ). فَكُلُّ عِبارَةٍ في هَاتَينِ الآيَتَينِ (أُولَى، قَبلَ أَعمالِهِ، مُنذُ البَدءِ) تَدُلُّ على أَنَّ الحِكمَةَ الـمُتجَسِّدَةَ بِصِفاتِ بَشَرٍ، كمَا تَدُلُّ الآيَاتُ اللاَّحِقَةُ، هيَ بِدَايَةُ أَعمالِ الرَّب وَأَوَّلَ مَخلوقَاتِهِ، لِكي تَكونَ بِكرَ الخَليقَة. وَهيَ تَعتَرِفُ بِصُنعِ الرَّبِ لَها (الرَّبُ خَلَقَني)، وَأَنَّها خَارِجَةٌ منْهُ، فَهوَ مَصْدَرُها الوَحيدُ وَمِن دُونِهِ لَم تَكُنْ، كَحالِ كُلِّ الخَليقَةِ. هِيَ مِنَ الأَزَلِ أَي كَانَت حَاضِرَةً معَ الرَّبِّ حينَ صَمَّمَ الخَلق (راجِع مثل 8 / 22 – 26؛ 27 - 31). فَهيَ لَيسَت شَاهِدةً على الخَلقِ فقَط، بَل هيَ بِكرُ الخَلْقِ أَجمَع، وَمِنها تَأْخُذُ البَشرِيَّةُ حَيَاةً.
لَقَدْ طَبَّقَ الإِنجيلِيُّ يوحَنَّا هَذهِ الصِّفَاتُ الحِكَميَّةُ، في بِدَايَةِ إِنجيلِهِ، عَلى الكَلِمَةِ الـمُتجَسِّدَةِ يَسوعَ الـمَسيح: "في البَدْءِ كَانَ الكَلِمة، وَالكَلمةُ كانَت معَ الله، وَكانَ الكَلِمةُ الله... كُلُّ شيءٍ بهِ كُوِّن، وَبِغيرِهِ ما كُوِّنَ أَيُّ شَيء." (راجِع يو 1 / 1 – 4أ).

30 وكنتُ عِندَه طِفْلاً وكُنتُ في نَعيمٍ يَوماً فَيوماً
31 أَلعَبُ أَمامَه في كُلِّ حين أَلعَبُ على وَجهِ أَرضِه ونَعيمي مع بَني البَشَر.

أَلعِبَارَةُ العِبرِيَّةُ "أَمُون" تَعني عِدَّة أُمور، فَهيَ الـمُهَندِسَ (آ 30) وَالطِّفل (آ 31ت) وَالـمُعلِّم (آ 32). ما يَعني، أَنَّ "الحِكمَةَ الـمُتجسِّدَةَ" الّتي يَتكلَّمُ عَنها الشَّاعِرُ الحِكَمِيُّ هي كُلُّ إِنسَانٍ يَبْرَعُ في أَعمالٍ مُتنَوِّعَة. فَالطِّفلُ أَو الـمُهندِسُ أَو الـمُعلِّمُ، كُلٌّ مِنهُم يُمكِنهُ أَن يَقتَني الحِكمَةَ بِحسَبِ إِمكَانِيَّاتِ وَقُدُراتِ كُلٍّ منهُم. وَالحَكيمُ هوَ الإِنسَانُ الّذي يَعيشُ حَياتَهُ في نَعيمٍ أَي بِفَرَحٍ. لِذا، نُلاحِظُ وُرودَ عِبَاراتِ الفَرَح هُنا "نَعيمٍ، نَعيمي وَاللَّعِب". هَذهِ الحِكمَةُ الـمُتجَسِّدَةُ تَنْعَمُ وَتَفرَحُ جِدًّا في مُشَارَكةِ الرَّبِ أَعمالَهُ، كَما تَفرَحُ بِسُكناهَا معَ بَني البَشَر. مَهما فَعَلَت، فَهي تُسَرُّ بِعَملِها لِأَنَّها نَقِيَّةٌ شَفَّافَةٌ كَالطِّفلِ، وَكُلُّ عَملٍ هوَ بِالنِّسبَةِ لَها مَوضوعَ فرحٍ (لَعبٍ) وَبَهجَةٍ لِأَنَّها حُرَّةٌ وَمُطيعَةٌ لِلرَّبِ خَالِقِها: "لَولا أَنَّ شَريعَتكَ نَعيمي، لَهَلِكتُ في بُؤسِي" (مز 119 / 92).

32 فاْسمَعوا لِيَ أَيُّها البَنون فطوبى لِلَّذينَ  يَحفظونَ طُرُقي.
33إسمَعوا التَّأديبَ وكونوا حُكَماء ولا تُهمِلوه.
34 طوبى لِلإِنْسانِ الَّذي يَسمَعُ لي ساهِراً عِندَ مَصاريعي يَوماً فيَوماً حافِظاً عَضَائِدَ أَبْوابي.

هَذهِ الآيَاتُ تَصِفُ الحِكمةَ كَرجُلٍ شَيخٍ بارٍّ، وَكَأنَّ الـمُتكَلِّمَ هوَ الشَّيخُ الأَبُ في سِفر يَشوع بن سيرَاخ: "طوبَى لِلرَّجُلِ الّذي يَتأَمَّلُ في الحِكمَة وَيُفكِّرُ بِعَقلِه وَيتَأَمَّلُ في طُرُقِها في قَلبِهِ وَيُمعِنُ النَّظرَ في أَسرارِها" (سي 14 / 20).
ألفِعلُ "سَمِعَ" يَترَدَّدُ في هَذه الآياتِ وَهوَ يَخلُقُ بينَها وَحدَةً في الـمَعنَى وَالهَدَف. أَلإِصغاءُ إلى الحِكمَةِ يَجعَلُ منَ الإِنسانِ شَخصًا قَريبًا منَ الرَّبِ، بارًّا، حَكيمًا أَو طوبَاوِيًّا أَي مَغبوطًا. وَفي الإِصغاءِ إِليها، وَالسَّعي وَراءَها سُكنًى وَمجدًا في حِماها ليلاً نهارًا، كَما يَقولُ يَشوعُ في (سي 14 / 22 - 27).
لَكنَّ الـمُصغي إِليها، عَليهِ أَن يَقبَلَ التَّأديبَ وَهوَ علامَةُ الـمُتواضِعِ الحَكيمِ. فَمِنَ الحِكمَةِ أَن يَقبَلَ الإِنسانُ التّأديبَ لِكَي يُقَوِّمَ سُبُلَهُ في طَريقِ الحَقّ. بِالتَّأديبِ يَتعلَّمُ الإِنسَانُ الطّاعَةَ لِصَوتِ الرَّبِ وَلِشَريعَتِهِ، لِذلِكَ يَصيرُ حَكيمًا فَهيمًا.

35 فإِنَّه مَن وَجَدَني وَجَدَ الحَياة ونالَ رِضىً مِنَ الرَّب
36 ومَن أَخطَأَ إِلَيَّ ظَلَمَ نَفسَه. كُلُّ مَن يُبغِضُني يُحِبُّ المَوت.

نُلاحِظُ أَنَّ هاتَينِ الآيَتَينِ مُركَّبَتانِ عَلى شَكلِ X بِمعانٍ متناقِضَة:
مَن وَجدَني وَجدَ الحَياة // كُلُّ مَن يُبغِضُني يُحبُّ الموت
نالَ رِضًى منَ الرَّب // ظَلَم نَفسَهُ
هَاتَانِ الآيَتانِ تُلخِّصَانِ كامِلَ النَّشيدِ، فَمَن سَعى وَراءَ الحِكمَةِ وَجَدَ طَريقَ الحَياةِ، أَمَّا مَن أَهمَلها وَأَبغَضَها، فَسينالُ الـمَوتَ وَالظُّلمَ. ما يُذكِّرُنا في الطَّريقَانِ الَّلذانِ وَضَعهُما اللهُ أَمامَ الإِنسانِ لِيَختارَ بينَ الموتِ وَالحَياة، بينَ الشَّرِّ وَالخَير (راجِع تث 30 / 15 – 20). أَلحِكمَةُ هُنا مُمثَّلةٌ بِشَيخٍ مُعلِّمٍ حَكيمٍ، سَكَبَ حِكمَتهُ أَمامَ القَارِئِ تارِكًا أَمامَهُ حُريَّةَ الاخْتِيارِ بينَ الحَياةِ وَالموت.

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
لَقَد عَرفَ العَهدُ القَديمُ الحِكمَةَ في وَصَايا الرَّبِ أَي الشَّريعَةَ. كَما نَسَبها إِلى أكبَرِ ملوكِ إِسرائيلَ منَ السُّلالَةِ الدَّاوُدِيَّة أَي سُلَيمانَ الحَكيمِ إِبنِ داوُدَ، فَهوَ الشَّخصُ الّذي تَتجسَّدُ فيهِ الحِكمة. بِالإِضَافَةِ إِلى ربَّةِ المنزِلِ أَو الـمَرأةِ الفَاضِلَة الّتي تُجَسِّدُ الحِكمَةَ في عَمَلِها وَسَهرِها وَأُمومَتِها وَفِطنَتِها (أم 31 / 1 - 31). وَأَيضًا، النَّبيُّ حزقيّالُ يُخبِرُ عن البَحَّارِ الحَكيم الـمُدرَّب (27 / 8) وَغيرِهِم منَ الحُكماءِ مُتْقِني مِهنَتَهُم وَضيعةً كانَت أَم على مُستَوى السِّياسَةِ وَالحُكم. هَذا هو مفهوم الحكمةُ الـمُتجسِّدَةُ، بِحَسَبِ المنطِقِ القَديم.
أَمَّا في العَهدِ الجَديد، فقَد تَجسَّدَ الرَّبُ الكَلِمَةُ في شَخصِ يَسوعَ الـمَسيحِ وَهوَ حِكمَةُ اللهِ السَّاكِنةُ فينا: " مَنْ كَانَتْ لَدَيْهِ وَصَايَاي ويَحْفَظُهَا، هُوَ الَّذي يُحِبُّنِي. ومَنْ يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وأَنَا أُحِبُّهُ وأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي. مَنْ يُحِبُّنِي يَحْفَظُ كَلِمَتِي، وأَبِي يُحِبُّهُ وإِلَيْهِ نَأْتِي، وعِنْدَهُ نَجْعَلُ لَنَا مَنْزِلاً." (راجع يو 14 / 21 - 23). الرَّبُ يَسوعُ أَعطانَا الرُّوحَ القُدُسَ لِيُعلِّمَنا الحِكمةَ الحقَّةَ وَيُذكِّرَنا بِها، وَهي جَهالَةٌ لِلأُمَمِ وَشَكٌّ لِغيرِ المؤمِنينَ. فَحِكمَةُ العَهدِ الجَديدِ هيَ "يَسوعُ الـمَرفوعُ على الصَّليب" أَقسَى دَرجاتِ التَّواضُعِ وَالانسِحاق، فَإِنْ فَهِمنا مَنطِقَ الصَّليبِ صِرنا بِحقٍّ حُكماءَ.
فَمنَ الـمُمكِنِ أَن يَجهَلَ الإِنسانُ المؤمِنُ إِتقانَ حِرفَةٍ أَو مِهنَةٍ، فَالحِكمَةُ ليسَت مَحصورَةً فيها. أَمَّا مَنْ لا يُحاوِلُ أَن يَنظُرَ إِلى الـمَصلوبِ وَيَفهَمَ سرَّ التَّواضُعِ وَالمحبَّةِ اللامَحدودَةِ، فَلَا يُمكِنُهُ أَن يَصيرَ حَكيماً البَتَّة.


تحميل المنشور