الأحد الثاني من زمن العنصرة
سفر التكوين: 18 / 1 - 8
1 وتَراءى الرَّبُّ لَه عِندَ بَلُّوطِ مَمْرا، وهو جالِسٌ بِبابِ الخَيمَة، عِندَ ٱحتِدادِ النَّهار.
2 فرفَعَ عَينَيه ونَظَر، فإِذا ثَلاثَةُ رِجالٍ واقِفونَ بِالقُربِ مِنه. فلَمَّا رَآهُم، بادرَ إِلى لِقائِهم مِن بابِ الخَيمَة وسَجَدَ إِلى الأَرض.
3 وقال: "سَيِّدي، إِن نِلتُ حُظْوَةً في عَينَيكَ، فلا تَجُزْ عن عَبدِكَ،
4 فيُقَدَّمَ لكم قَليلٌ مِنَ الماء فتَغسِلونَ أرجُلَكم وتَستَريحونَ تَحتَ الشَّجَرة،
5 وأُقدِّمَ كِسرَةَ خُبْزٍ فتُسنِدونَ بِها قُلوبَكم ثُمَّ تَمْضونَ بَعدَ ذلك، فإِنَّكم لِذلِك جُزتُم بِعَبدِكم". قالوا: "اِفعَلْ كَما قُلتَ".
6 فأَسرَعَ إِبراهيمُ إِلى الخَيمَةِ إِلى ســارةَ وقـــال: "هـَلُمِّي بِثَلاثَةِ أَصْواعٍ مِن السَّميدِ النَّاعِم فاَعجِنيها وٱصنَعيها فَطائر".
7 وبادَرَ إِبْراهيمُ إِلى البَقَر، فأَخَذَ عِجْلًا رَخْصًا طَيِّبًا وسَلَّمَه إِلى الخادِم فأَسرَعَ في إِعْدادِه.
8 ثُمَّ أَخَذَ لَبَنًا وحَليبًا والعِجْلَ الَّذي أَعَدَّه وجَعَلَ ذلك بَينَ أَيْديهِم وهو واقِفٌ بِالقُربِ مِنهم تَحتَ الشَّجرة، فأَكلوا.مقدّمة
في الأحدِ الثاني من زمَنِ العنصَرَة، تَحتَفِلُ الكَنيسَةُ جَمعاءَ بِعيدِ اللهِ الثّالوثِ الأَقْدَسِ، وَتُعلِنُ إِيمَانَها بِهذا السِّرِّ مُتَذَكِّرَةً وَمُؤمِنيها، سِرَّ العِمادِ الّذي يَجعَلُ من كُلِّ مُؤمِنٍ إِبنًا لِلآبِ، وَأَخًا لِلابْنِ وَهَيكَلاً للرُّوحِ القُدُسِ (متى 28 / 19). لِذا، تَختارُ كَنيسَتُنا نَصَّ قِراءَةَ العَهدِ القَديمِ، وَهوَ الوَحيدُ الَّذي يَتكَلَّمُ عَنِ الرَّبِّ الحَاضِرِ بِثلاثَةِ أَشخاصٍ معَ إِبراهيمَ. فَالرَّبُ تَراءَى لِإبراهيمَ ثالوثًا، مُعلِنًا أَنَّهُ إِلَهًا مُنفَتِحًا، لا يَعيشُ بِمفْرَدِهِ مُتَقَوقِعًا عَلى ذَاتِهِ، وَهيَ الـمَرَّةُ الوَحيدَةُ في العَهدِ القَديم الّتي فيها لا يَتراءَى الرَّبُ مُنفَرِدًا. أَمَامَ هذا السِّرِّ الثّالوثِيِّ، وَهوَ سِرُّ الـمحبَّةِ اللاّمُتناهِيَةِ، نُعلِنُ انْدِهَاشَنا بِتَرْدَادِ كَلماتِ بُولُسَ الرَّسُول: " فَيَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ ومَعْرِفَتِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الإِدْرَاك، وطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقصَاء! فَمَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَبّ؟ أَو مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟ أَو مَنْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا فَيَرُدَّهُ الله إِلَيْه؟ لأَنَّ كُلَّ شَيءٍ مِنْهُ وَبِهِ وَإِلَيْه." (روم 11 / 33 - 36).
تفسير الآيات
1 وتَراءى الرَّبُّ لَه عِندَ بَلُّوطِ مَمْرا، وهو جالِسٌ بِبابِ الخَيمَة، عِندَ ٱحتِدادِ النَّهار.إِنَّنا في صَدَدِ رُؤيَا في وَسَطِ أَحداثِ التّاريخِ، كَما يُشيرُ الفِعلُ الإِفتِتاحيُّ لِلنَّص، لِأَنَّ الرَّبَ يَأتي إِلى إِبراهيمَ في يَومٍ مُشرِقٍ وَفيهِ، حَرارَةُ الشَّمسِ مُرتَفِعَةٌ جدًّا. منَ الجَديرِ بِنا أَن نَنتَبِه إِلى أَنَّ مَوقِعَ النَّصِ في الفَصلِ 18، يُحَضِّرُ لِلفَصلِ 19 الّذي فيهِ نَقرَأُ حَدَثَ تَدميرِ مَدينَةِ سَدُوم. إِلاَّ أَنَّ الـمَعلومَاتِ في هذه الآيَةِ، خَاصَّةً مَكانِ سُكْنَى إِبْراهيمَ في بَلُّوطِ مَمْرا في خِيَامٍ، تَتبعُ الفَصل 13 حينَ افْتَرَقَ لوطٌ عَنهُ، فَهذا سَكَنَ في سَدومَ وَعَمورَةَ وَإِبراهيمُ في بَلّوطِ مَمْرا، الَّتي بِحَبْرونَ، بِحَسَبِ طَلَبِ الرَّب (تك 13 / 14 - 18). لِذا، فَلو تَبِعَ نَصَّنا الفَصل 13، لَكَانَتِ تَراتُبِيَّةِ الأَحداثِ مَنطِقِيَّةً أَكْثَر (راجِع خاصَّةً وَعدَ الرَّبِ لِسَارَةَ بِحَملِها ابنًا في شَيخوخَتِها، فَلا ذِكرَ هُنا لِهاجَرَ المصرِيَّةَ بَعدُ، في تك 18 / 9 - 15).
يَصِفُ الكَاتِبُ إِبْراهيمَ جَالِسًا على بَابِ الخَيمَةِ، في احْتِدادِ حَرارَةِ شَمسِ النَّهار. إِنَّ حَالَةَ الجُلوسِ تُشيرُ إِلى وَضْعِيَّةِ انْتِظَارٍ لِما يُحَدِّدُهُ الرَّبُ لإِبراهيمَ، أَمَّا الجُلوسُ بِبَابِ الخَيمَةِ، فَيَدُلُّ عَلى اشْتِدَادِ الحَرِّ وَإِبْراهيمُ يَبحثُ عَنِ الظِّلَّ، وَبابُ الخَيمَةِ هو المكَانُ الوَحيدُ الَّذي يُؤَمِّنُهُ. منَ الـمُلفِتِ أَنَّ الرَّبَ تراءَى لهُ أَيضًا عندَ مَغيبِ الشَّمسِ (15 / 12 - 16)، وَمرَّةً أُخرى، عِندَما غابَتِ الشَّمسُ وَخيَّمَ الظّلامُ (تك 15 / 17). فَالشَّمسُ إِذًا، تُرافِقُ ترائِي الرَّبِ لِأَبرامَ. وَلِكن، لِمَاذا هذه الـمَرَّةُ يَتراءَى الرَّبُ في نهارٍ شَمسُهُ حادَّةٌ جِدًّا؟ لِماذا يَضطَّرُّ الرَّبُ لِلمجيءِ بِنَفسِهِ إِلى أَبرامَ، في وَسَطِ نهارٍ احتدَّت فيهِ حَرارَةُ الشَّمس، وَلا مَجالَ لِلظِّل؟
2 فرفَعَ عَينَيه ونَظَر، فإِذا ثَلاثَةُ رِجالٍ واقِفونَ بِالقُربِ مِنه. فلَمَّا رَآهُم، بادرَ إِلى لِقائِهم مِن بابِ الخَيمَة وسَجَدَ إِلى الأَرض.
مِنَ الـمُمكِنِ أَنَّ الرَّبَّ وَمُرافِقيهِ اخْتارَ "الوُقوفَ بِالقُربِ من إِبْراهيمَ" وَليسَ "أَمامَهُ" كمَا في سِفرِ يَشوع (يش 5 / 13)، لِأَنَّهُم كَانُوا يَبحَثونَ عَن مَكانِ ظِلٍّ من شِدَّةِ حَرارَةِ الشَّمسِ، فَاقْتَرَبُوا من بَابِ الخِيمَةِ حَيثُ كانَ إِبراهيمُ جَالِسًا. لَقَد كانَ الرَّبُ نَفسُهُ قَد طَلَبَ من إِبراهيمَ اخْتِيارَ هذا المكَانَ لِسُكناهُ، بَعيدًا عن لوط (راجع تك 13 / 14 – 18)، وَالرَّبُ الّذي يَعتَني بِهِ سَيَأتي إِلَيهِ وَسَيُكَمِّلُ وَيُحَقِّقُ لِعبدِهِ مَواعيدَهُ، كَما أَشارَ إِليهَا سَابقًا. فَفي الفَصلِ 15، نَرى أَنَّ الرَّبَّ تراءَى لِأبرامَ مرَّةً أُولى، وَوَعدهُ بِابْنٍ من صُلبِهِ (تك 15 / 4)، وَنَصُّنا يُكمِّلُ هَذا الوَعدَ بِطَريقَةٍ أُخرَى.
وَمنَ الـمُلفِتِ في هذا النَّصّ، أَنَّ العِبَارةَ "فَرفعَ عَينَيهِ وَنظَرَ" في إِطَارٍ رُؤيَويٍّ، مَوجودَةٌ أَيضًا في سِفرِ يَشوعَ بنِ نونٍ (5 / 13) عِندَما تَراءَى لهُ الرَّبُ حينَ كَانَ يستَعِدُّ لِفَتحِ أَريحَا. كَما أَنَّنا نَجِدُ أَيضًا، التَّعبيرَ الجَسديَّ نَفسَهُ أَمامَ الرَّب أَي السُّجودُ إِلى الأرض، وَأَيضًا تَسمِيَةَ "السَّيِد وَعَبْدِه" (يش 5 / 14). هَذهِ الأَحداثُ الـمُتَشَابِهَةُ بينَ النَّصَّينِ تَدُلُّ على أَنَّ تَرائِيَ الرَّبِ يَحمِلُ مَعهُ تَحَوُّلاً جَديدًا في حَياةِ إِبْراهيمَ، كمَا حَصَلَ معَ يَشوعَ وَالشَّعب (راجِع يش 6).
إِنَّ الوَصفَ الـمُفصَّلَ لِأَحداثِ هذِه الآيَةِ، يَدفَعُنا لِلتَوقَّفِ عندَ الأَفعالِ "رَفعَ عَينَيهِ، نَظرَ، رَآهُم، سَجدَ"، فَالفِعلَينِ "نَظرَ وَرَأَى" يَدُلاَّنِ على تَدَرُّجٍ في مَعرِفةِ الأَشخاصِ، وَرُبَّما أَيضًا، تَدَرُّجٌ في تَمييزِهِم كَونَهُم واقِفونَ تحتَ نُورِ الشَّمسِ القَويّ. في الحَالَتَينِ، عَرَفَ إِبراهيمُ أَنَّهُ في حَضْرَةِ أَشخاصٍ غيرِ عَادِيِّينَ، فَسَجَدَ أَمامَهُم على الأَرضِ كَما يَليقُ بِاسْتِقبالِ سَّيِدٍ، من قِبَلِ عَبْدهِ.
3 وقال: "سَيِّدي، إِن نِلتُ حُظْوَةً في عَينَيكَ، فلا تَجُزْ عن عَبدِكَ،
4 فيُقَدَّمَ لكم قَليلٌ مِنَ الماء فتَغسِلونَ أرجُلَكم وتَستَريحونَ تَحتَ الشَّجَرة،
إِنَّ العِبارةَ "إِن نِلتُ حُظوةً في عَينَيكَ" تَرِدُ 15 مرَّةً في العَهدِ القَديمِ، وَفيها الرَّبُ لا يَرفُضُ سُؤلَ عَبْدِهِ، لِأَنَّ الطَّلبَ في هَذهِ الحَال يَكونُ مَنطِقيًّا وَمُستَقيمًا، على الأَغلَب. إِنَّ الدَّعوةَ إِلى غَسلِ الأَرجَلِ يَدُلُّ على حُسنِ ضِيافَةِ إِبراهيمَ (راجع تك 19 / 2). إِلاَّ أَنَّنا نَتعجَّبَ من وُجودِ شَجرةٍ في سَاحَةِ خَيمَةِ إِبراهيمَ! فَلماذا لا يَستَظلُّ فيها، بَدلَ بابِ الخَيمَة؟! مِنَ الوَاضِحِ، أَنَّ مَجيءَ الرَّبِّ فَتحَ أَعيُنَ إِبراهيمَ، وَحوَّلَ حَياتَهُ من رَجلٍ جَالسٍ لا يَعرِفُ أَن يَجِدَ الظِّلَّ إِلى رَجُلٍ يَقومُ بِالخِدمَةِ وَتَسيرُ في جَسَدِهِ الحَياة.
5 وأُقدِّمَ كِسرَةَ خُبْزٍ فتُسنِدونَ بِها قُلوبَكم ثُمَّ تَمْضونَ بَعدَ ذلك، فإِنَّكم لِذلِك جُزتُم بِعَبدِكم". قالوا: "اِفعَلْ كَما قُلتَ".
هَذهِ الآيَةُ تُظهِرُ سُهولَةَ العَلاقَةِ بينَ إِبراهيمَ وَالرَّبِ، عَكسَ عَلاقَتِهِ معَ لُوطٍ السَّاكِنِ في سَدومَ (تك 19 / 1 - 3): "إفعَل كمَا قُلتَ". فَالأَوَّلُ نالَ وَعدًا بِابنٍ من صُلْبِهِ، أَمَّا الثّاني فَنالَ إِنذارًا بِالهَرَبِ من وَجهِ الشَّرِ الحَالِّ في سَدومَ.
6 فأَسرَعَ إِبراهيمُ إِلى الخَيمَةِ إِلى ســارةَ وقـــال: "هـَلُمِّي بِثَلاثَةِ أَصْواعٍ مِن السَّميدِ النَّاعِم فاَعجِنيها وٱصنَعيها فَطائر".
7 وبادَرَ إِبْراهيمُ إِلى البَقَر، فأَخَذَ عِجْلًا رَخْصًا طَيِّبًا وسَلَّمَه إِلى الخادِم فأَسرَعَ في إِعْدادِه.
8 ثُمَّ أَخَذَ لَبَنًا وحَليبًا والعِجْلَ الَّذي أَعَدَّه وجَعَلَ ذلك بَينَ أَيْديهِم وهو واقِفٌ بِالقُربِ مِنهم تَحتَ الشَّجرة، فأَكلوا.
نُلاحِظُ هُنا أَنَّ إِبراهيمَ يَستَعمِلُ تارَةً صيغَةَ الـمُفرَد، وَتارَةً أُخرى صيغَةَ الجَمعِ في حَديثِهِ معَ زَائِريهِ الثّلاثَة: "سَيِّدي؛ آ 3 ثمّ َصيغة الجمع في آ 4 - 5". فَسَّرَ آباءُ الكَنيسَةِ هَذا التَّبدُّل في الصّيغَةِ على أَنَّ الأَشخاصَ الثَّلاثَةَ هُم اللهُ الّذي اعْتَلَنَ بِسرِّ ثالُوثِهِ لِإبراهيمَ، منذُ العَهدِ القَديم بِهذه الصّورَة: الله وَمَلاكَانِ.
هَذهِ الآياتُ تَدُلُّ عَلى حُسْنِ وَكَرَمِ الضِّيافَةِ عِندَ إِبْراهيمَ لِلغُرَبَاءِ، خَاصَّةً أَنَّهُم مُسَافِرينَ في طَقسٍ مُشْمسٍ حَادّ وَهم بِحَاجَةٍ لِأَن يُروُوا ظَمَأَهُم وَجوعَهُم في الظِّلّ. وَإِبراهيمُ كَانَ في خِدمَتِهِم، واقِفًا بِجانِبِهم.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
إِنَّ قِراءَةَ اليَومِ، منَ العَهدِ القَديمِ، تُعَلِّمُنا أَهمِّيَّةَ الانْتِبَاهِ لِحُضورِ الرَّبِ في حَياتِنا. فَهوَ يَأتي إِلَينا في طُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَأَوقاتٍ لا نتَوَقَّعُها. فَلْنَطلُبْ مِنهُ نِعمَةَ البَصيرَةِ لِكَي نَرَى إِحسَاناتِهِ لَنا وَعَلاماتِ حُضورِهِ يُشَارِكُنا حَياتَنا اليَومِيَّةَ، فَتَتعَزَّى قُلوبُنا بِاللِّقاءِ بِهِ.
في عيدِ الثَّالوثِ الأَقدَسِ، يُريدُنا الرَّبُّ أَن نَعيشَ في عائِلاتِنا وَجَماعَاتِنا وَلِقاءَاتِنا، سِرَّ الحُبِّ الّذي يُوَحِّدُهُ هو الآبُ بِالابْنِ وَبِالرُّوحِ القُدُسِ. فَلْنَعْتَرِفَ بهِ اليَومَ، في عيدِهِ، أَبًا حَنونًا رَحيمًا، وَعَطوفًا على جِنسِنا البَشَريِّ. وَلنَطلُبَ مِنهُ "أَن يَرفَعَ عُقولَنا إِلى عَلياءِ مَعرِفَتهِ، لِنَنظُرَ أَسْرارَهُ الـمَكْنونَةَ في أَعماقِ حِكمَتِهِ" وَنُمجِّدَهُ آبًا وَابْنًا وَروحًا قُدُسًا (مِن إِبن العِبري). آمين.