الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-05-26
2 وكانَ أَنَّهم لَمَّا رَحَلوا مِنَ المَشرِق وَجَدوا سَهْلًا في أَرضِ شِنْعار فأَقاموا هُناك.
تَبْدَأُ هَذهِ القِصَّةُ مِن لَحظَةِ خُروجِ الشَّعْبِ مِنَ "الشَّرق"، أَي منَ الـمَكانِ الَّذي ارْتَكَبَ فيهِ آدَمُ وَحَوَّاءُ الـمَعْصِيَةَ ضِدَّ الرَّب: "فَطرَدَ الله الإِنسَانَ وَأَقامَ شَرقيَّ جنَّةِ عَدنٍ، الكَروبينَ وَشُعْلَةَ سَيفٍ مُتقَلِّبٍ ..." (تك 3 / 24). يَضَعُ الكاتِبُ اليَهوِيُّ الإِطَارَ لِقِصَّتِهِ، ضِمنَ إِطارِ النُّصوصِ السَّابِقَةِ لِيُحافِظَ على وِحْدَةِ النَّصوص وَالكِتاب. ثُمَّ يَسْتَعمِلُ اسْمًا آخَرَ لِبِلادِ بَابِل، وَهيَ "شِنعَار" (راجِع تك 10 / 10؛ "شِنعارُ أَي بِلادُ بَابِل" أش 11 / 11) وَهيَ إِحْدَى الأَراضِي الّتي تَشَتَّتَ فيها اليَهودُ، بِسَبَبِ خَطايَاهُم وَتَركِهِم لِلرَّبِ وَاتِّباعِهِم آلِهةَ الأُمَم. فَنَفهَمَ أَنَّ الكَاتِبَ يَستَعمَل الرَّمزِيَّةَ في قِصَّتِهِ. فَيَجعَلَ سَاحَةَ حَادِثَةِ "بُرجِ بَابِل"، في بِلادِ الجَلاءِ لِيُعطِيَ لِقِصَّتِهِ مَعنًى حَقيقيًّا تاريخِيًّا في إِطارٍ رَمزِيٍّ. وَاَيضًا، نُلاحِظُ اسْتِعمالَ صيغَةِ فِعلِ "نَسَعْ" العِبريّ أَي الرَّحيل، أَنَّها نَفسُها الصِّيغَةُ الـمُسْتعمَلَةُ في نصِّ خُروجِ اليَهودِ من مِصرَ، وَالَّتي كانَت أَيضًا أَرضًا اخْتَبرَ فيها شَعبُ الرَّبّ، العُبودِيَّةَ وَالسَّبي عن أَرضِهِ.
3 وقالَ بَعضُهم لِبَعض: "تَعالَوا نَصنَعْ لَبِنًا ولْنُحرِقْه حَرْقًا". فكانَ لَهمُ اللَّبِنُ بَدَلَ الحِجارة، والحُمَرُ كانَ لَهم بَدَلَ الطِّين.
4 وقالوا:"تَعالَوا نَبْنِ لَنا مَدينةً وبُرْجًا رَأسُه في السَّماء، ونُقِمْ لنا ٱسْمًا كَي لا نَتَفَرَّقَ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها".
يَنتَقِلُ الآنَ الكَاتِبُ من وَصْفِ الإِطَارِ، إِلى نَقْلِ حَديثِ الشَّعب بِصيغَتهِ الـمُباشَرَة، لِيَجعَلَنا نَسْمعُ كَلِماتِهم وَأَفكَارِهم. منَ الوَاضِحِ أَنَّ أَعضَاءَ الشَّعبِ مُتَّفِقونَ في قَرارِهِم. أَمَّا اسْتِعمالُ اللَّبِنِ الـمَحروقِ وَالحُمَرِ، فَهذهِ الـمَوادُ اسْتَعمَلها الشَّعبُ اليَهودِيُّ في أَرضِ مِصرَ، بِأَمرٍ من فِرعَونَ لِيُذِلَّهُم وَيُعامِلَهُم بِعُنفٍ شَديدٍ وَيُثَقِّلَ عَليهِم نيرَ العُبودِيَّةِ (راجع خر 5 / 6 - 14). فَبِأَدَواتِ العُبودِيَّةِ بَنَى الشَّعبُ بُرجًا رَأْسُهُ الى السَّمَاء. هَذهِ الصُّورَةُ تُذَكِّرُنا بِما قَالَتهُ الحِكمَةُ عن بُرجِ بَابِلَ: "وَلـمّا أَجْمَعَتِ الأُمَمُ على الشَّر فَأُخْزِيَت معًا" (حك 10 / 5).
إِنَّ عِلمَ الآثارِ اكْتَشَفَ أَبراجًا عالِيةً تُسَمَّى "زيغورات" وَهيَ عِبارَةٌ عن بِناءٍ بِارتِفاعِ ثمانينَ مترًا، مَبنيًّا بِاللّبنِ وَالحُمَر. كَانَت هذه تُشَيَّدُ في بلادِ ما بَينَ النَّهرَينِ في أُورْ، كَرمزٍ لِـمَقرِّ الآلِهَة، وَمُشَيِّدوها كَانُوا يَرفَعونَ البِناءَ لِيَجِدوا سَبيلاً لِلوصولِ إِلى آلهَتِهم. إِلاَّ أَنَّ الكَاتِبَ الـمُلهَمَ رَأَى في هَذه الأَبْراجِ خَطيئَةً عَظيمَةً ضِدَّ الرَّبّ، بِالتَّحديدِ خَطيئَة الكِبرياء وَالتَّـمَرُدِ على الرَّب. أَمَّا بِالنّسبَةِ لِإِقَامَةِ اسْمٍ بِهدَفِ الاسْتِقرارِ وَالثَّباتِ خَوفًا منَ التَّشتُّت، فَبِناءُ مَدينَةٍ معَ بُرجٍ يَحْفظانِ ذِكْرَى البّنّائين إِذ يَمتَلِكونَ الأَرضَ وَيَرِثونَها، فَتصيرَ خاصَّتَهُم؛ "إِنجابُ الأَولادِ وَبِناءُ مَدينةٍ يعَزِّزانِ الإِسْم" (سي 40 / 19). في هَذِهِ النَّوايَا، رَأَى الكَاتِبُ سَببًا لِلخَطيئَةِ، إِذ الإِنسَانُ يُريدُ أَن يَكونَ سَيِّدَ نَفسِهِ، كَالآلِهَةِ. منْ جَديدٍ نَرَى كيفَ أَنَّ الكِبْرياءَ وَالتَّمرُّدَ يُسَبِّبَانِ للإِنسَانِ العِقَاب.
5 فنَزَلَ الرَّبُّ لِيَرى المَدينةَ والبُرجَ اللَّذَينِ بَناهُما بَنو آدم.
هُنا يَتدَخَّلُ الرَّبُ بِنَفسِهِ، إِذ حينَ يَهِمُّ الشَّرُّ أَن يَغْلِبَ يَأتي الرَّبُ لِإِيقَافِهِ وَالسَّيطَرَةِ عَليه. فَالبَنَّاؤونَ يُسَمّيهِم الكاتِبُ "بَنو آدَم" لا "بَنو نوحٍ البارّ"، لِيَرمُزَ بِهذِه التَّسمِيَةِ إِلى البَشَريَّةِ الخَاطِئَةِ وَإلى أَنَّ الشَّرَّ هوَ الـمُتسَلِّطُ عَليهم، عَلى أَفكارِهِم وِعَلى قَرارِهِم. وَخَطيئَةُ آدَمَ وَحوَّاءَ هيَ الكِبْرِياءُ، وَالتَّمرُّدُ على الرَّب.
6 وقالَ الرَّبّ: "هُوَذا هُم شَعبٌ واحِد ولجَميعِهم لُغَةٌ واحِدة، وهذا ما أَخَذوا يَفعَلونَه. والآنَ لا يَكُفُّونَ عَمَّا هَمُّوا بِه حتَّى يَصنَعوه.
7 فلْننزِلْ ونُبَلْبِلْ هُناكَ لُغَتَهم، حتَّى لا يَفهَمَ بَعضُهم لُغَةَ بَعض".
نَتيجَةُ الكِبْرِياءِ، العِقَابُ منَ الرَّبّ. نُلاحِظُ هُنا، اسْتِعمالَ عِبارةٍ جَديدَةٍ "اللُّغَةُ الواحِدة" مَكانَ "الإِسم الواحِد".
أَللُّغَةُ كَانَتِ الوَسيلَةُ الأَسلَم وَالأَضْمن وَالأَنجَح لِتَشَتُّتِ هذا الشَّعبِ الـمُتمرِّد وَالـمُتكَبِّر على الرَّب.
هَبَّ الشَّعبُ لِكي يَضْمَنَ نَفسَهُ، إِلاَّ أَنَّ رَغبَتهُ لَيسَت رَغبَةَ الرَّبِ الَّذي أرادَ شَعبًا مِثالاً لِكُلِّ الشُّعوبِ، وَمُرسَلاً لِأَجلِ خلاصِ كُلِّ الشُّعوب. فَالخَطيئَةُ كَانت سَببَ نِعمةٍ، ظهَرَت في العَنصَرة أَو حُلولِ الرُّوحِ القُدس، بِموهِبةِ التَّكلُّمِ بِلغاتٍ مُختَلِفةٍ، على التَّلاميذ.
8 فَفَرَّقَهمُ الرَّبُّ مِن هُناكَ على وَجهِ الأَرض كُلِّها، فكَفُّوا عن بِناءِ المدينة.
9 ولِذلِكَ سُمِّيَت بابِل، لأنَّ الرَّبَّ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ الأَرضِ كُلِّها. ومِن هُناكَ فَرَّقَهمُ الرَّبُّ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها.
هَاتانِ الآيَتان مَبنِيَّتانِ بِشَكلٍ مُتشابِكٍ (آ 8أ = 9ب) وَمِحوَرُهُما هوَ عَملُ الرَّبّ: "كَفُّوا عن بِناءِ الـمَدينَة، التي سُمِّيَت بَابل، لأَنَّ الرّب بَلبَلَ لُغةَ الأَرض". نُلاحِظُ غِيابَ "البُرجِ" هُنا، لِأَنَّ هَدفَ الكَاتِبِ لَيسَ تَحطيمَ الأَبراجِ العَالِية، وَلَكن اسْتَعمَلَهُ في الآياتِ السَّابِقة لِيَرمُزَ فيهِ إِلى كِبَرِ حَجمِ كِبرياءِ الشَّعبِ. أَمَّا المدينَةُ فَلم يَكتَمِل بِناؤُها، إلاَّ أَنَّها أُعطِيَت إِسمَ "بَابِل".
ألتَّسمِيَةُ "بَابِل" هُنا، لَها مَعنَيَان: الأوَّل هوَ بَلْبَلَ أَي غَيَّرَ لُغاتَ الشَّعبِ الواحِدِ، فَما عادُوا يَتكلَّمونَ اللُّغَةَ ذَاتَها، وَمَا عَادَ أَحدٌ يَفهَمُ لُغةَ الآخَر. وَالـمَعنى الثاني هوَ "مدينَةُ بَابِل" الوثَنيَّةِ، وَرَمزيَّتُها هي التَّمرُّد على الرَّبِ وَإِلغاءِ اسْمِهِ لِكي يَملِكَ الإِنسانُ على العَالَم. بِمعنًى آخَر "الكِبريَاء" وَ"إِلغاء ذِكرِ الرَّب" (راجع رؤ 17 – 18). فَالتَّعبيرانِ بَلْبَلَ وَبَابِل يَرمُزانِ، الواحِدةُ منهُم إِلى الـمَعصِيَةِ العُظمَى وَالثّانِية إلى العِقَابِ الكَبير بِتَعدُّدِ اللُّغات، لِكي لا يَفهَمَ الواحِد على الآخَر. هَكذا فَسَّرَ كاتِبُ النَّصِ في قِصَّةِ "بُرجِ بابِل" أَو "كِبرياءِ الشَّعب"، أَنَّ تعدُّدَ اللُّغاتِ عِقابٌ إلهيٌّ، أَمَّا حُلولُ الرّوحِ القُدس على التّلاميذِ وَتَكلُّمهم بِلُغاتٍ مُختَلِفةٍ كَانَ حَدثَ نِعمَةٍ وَعَملُ الرَّبِ في التَّاريخ. فَبَدلَ أَن يُفرِّقَ الرّوحُ القُدُس التَّلاميذَ بِإِعطائِهم مَوهِبةَ التَّكلُّمِ بِلغاتٍ جَديدَةٍ، هوَ وَحَّدهُم في سَبيلِ البِشَارَةِ وَإِعلانِ سرِّ قيامَةِ الرَّبِ يسوعَ من بَينِ الأَموات.