الأحد الثالث بعد القيامة
سفر أيوب: 42 / 1 – 6، 12
1 فأجاب أيُّوبُ الرَّبَّ وقال:
2 "قد عَلِمتُ أنَّكَ قادِرٌ على كُلِّ شَيء فلا يَستَحيلُ علَيكَ مُراد.
3 مَن ذا الَّذي يُخْفي التَّدْبيرَ في غَيرِ عِلْم؟ إنِّي قد أَخبَرتُ مِن غَيرِ أَن أُدرِك بِعَجائِبَ تَفوقُني ولا أَعلَم.
4 إِسمَع فأَتَكَلَّم أَسأَلُكَ فأَخبِرْني.
5 كُنتُ قد سَمِعتُكَ سَمعَ الأُذُن أَمَّا الآنَ فعَيني قد رَأَتكَ.
6 فلِذلك أَرجِعُ عن كَلامي وأَندَمُ في التُّرابِ والرَّماد".
12 وبارَكَ الرَّبُّ آخِرَةَ أَيُّوب أَكثَرَ مِن أُولاه. فكانَ لَه مِنَ الغَنَمِ أَربَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ومِنَ الإِبلِ سِتَّةُ آلاف، وأَلفُ فَدَّانٍ مِنَ البَقَر وأَلفُ أَتان.مقدّمة
إِنَّ قِراءَاتَ هَذا الأَحَدِ تُبَكِّتُ وَتُوَجِّهُ الـمَلامَةَ لِكُلِّ إِنسَانٍ غَيرِ مُؤمِنٍ بِالرَّبِ وَبِكَلِمتِهِ، كَـمَا يَقولُ الرَّبُ يَسوعُ القَائِمُ منَ الـمَوتِ لِتِلميذَيهِ على طَريقِ عِمَّاوُس: " يَا عَدِيمَيِ الفَهْم، وَبَطيئَيِ القَلْبِ في الإِيْمَانِ بِكُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاء! " (لو 24 / 25). إِذْ بَعدَ ظُهوراتِ الرَّبِ يَسوعَ الـمُتعَدِّدَةِ عَلى تَلاميذِهِ، وَأَيضًا، الأَحَدَ السَّابِقَ، عَلى تُوما الَّذي شَكَّكَ بِحَقيقَةِ قِيامَتِهِ، يَأْتي الرَّبُ يَسوعُ لِيَسيرَ معَ تِلميذَيهِ اللَّذَينِ فَقَدا الأَمَلَ وَقَرَّرَا العَودَةَ لِحَياتِهِمِ السَّابِقَةِ، لِيُعيدَهُم إِلى قَلبِ جَماعَةِ الرُّسُل، حَيثُ عَرِفَاهُ وَعَاشَا معهُ وَأَحبَّاهُ. لأَنَّهُ معَ الرَّبِّ، لا مَجَالَ لِلعَودَةِ إِلى الوَراءِ، لِأَنَّهُ بِآلامِهِ وَمَوتِهِ وَقِيامَتِهِ جَدَّدَ كُلَّ شَيءٍ، فَصَارَ حَاضِرًا معَنا في تَاريخِنا، في الآنَ، فَلا يُمكِنُنَا العَودَةَ إِلى الـمَاضِي وَنُكْرانِهِ: " صَادِقَةٌ هِيَ الكَلِمَة: إِنْ مُتْنَا مَعَهُ نَحْيَ مَعَهُ، وإِنْ صَبَرْنَا نَمْلِكْ مَعَهُ، وإِنْ أَنْكَرْنَاهُ يُنْكِرْنَا، وإِنْ كُنَّا غَيرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لأَنَّهُ لا يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ!" (2طيم 2 / 11 - 13 ). لِهَذا، تَختارُ كَنيسَتُنا الـمَارونيَّةُ قِراءَةَ العَهدِ القَديمِ من سِفرِ أَيُّوبَ، الَّذي يَرفَعُ صَوتَهُ تَائِبًا إِلى الرَّبِ بِقَصيدَةٍ شِعرِيَّةٍ، تَهدِفُ إِلى تَطهيرِ فِكْرِهِ منَ النَّظرِيَّاتِ البَشريَّةِ عَنِ الله، لِيَدخُلَ في مَنطِقِ الإِيمانِ وَيَعتَرِفَ بِخَطيئَتِهِ، إِذ "أَدَانَ الله" وَحَسِبَ نَفسَهُ أَنَّ لهُ "حقوقًا على الله".
إِنَّ سِفرَ أَيّوبَ هوَ بِأَغلَبيَّتِهِ حِواراتٌ وَخِطَبٌ شِعريَّةٌ تَتَنَاوَلُ موضوعَ "الشَّرّ وَالبَارّ الـمُتأَلِّم": "قَالَ الشَّيطَانُ للرَّب: أَمجَّانًا يَتَّقي أَيُّوبُ الله؟" (أي 1 / 9). فَيَدخُلُ الشَّيطَانُ إِلى بِلاطِ اللهِ وَمَجلِسِهِ وَيَطلُبُ أَن يُجرِّبَ أَيّوبَ الصِّدّيقَ بِأَقصَى أَنواعِ الامْتِحاناتِ وَالـمَصَائِبِ، لِيُحاوِلَ أَن يُوقِعَهُ في خَطيئَةِ الكُفرِ بِرَبِّهِ، إِلاَّ أَنَّ "في هَذا كُلِّهِ لَم يَخطَأ أَيّوبُ وَلَم يَقُل في اللهِ غَبَاوَةً" (أي 1/ 22؛ 2 / 10).
لَطَالَما الشَّكُ وَالنَّظريَّاتُ الأَخلاقِيَّةُ البَشَريَّةُ، أَودَتْ بِالـمُؤمِنينَ إِلى فُقدانِ الإِيمانِ وَالتَّكبُّرِ عَلى الله! لِنُعيدَ في هَذا الأَحَدِ، النَّظرَ في أَفكَارِنَا وَفي مَا نُؤمِنُ وَكَيفَ نُؤمِنُ، لِنَخلَعَ عَنَّا الشَّرائِعَ البَشريَّةَ المحْدودَةَ الَّتي لا يُمكِنُها أَن تَسبُرَ سرَّ مَعرِفَةِ الله لِأَنّها خَاليَةٌ منَ النِّعمَة، وَلنُزَيِّنِ دَاخِلَنا بِالإِيمَانِ، لِأَنَّنا بعدَ قَليلٍ سَنتقَدَّمَ لِتَناوُلِ جَسدِ الرَّبِ وَدَمِهِ: " وفِيمَا كَانَ مُتَّكِئًا مَعَهُمَا، أَخَذَ الخُبْزَ، وبَارَكَ، وَكَسَرَ، ونَاوَلَهُمَا. فانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَرَفَاهُ " (لو 24 / 30).
تفسير الآيات
1 فأجاب أيُّوبُ الرَّبَّ وقال:
2 "قد عَلِمتُ أنَّكَ قادِرٌ على كُلِّ شَيء فلا يَستَحيلُ علَيكَ مُراد.هَذهِ القِراءَةُ من سِفرِ أَيّوبَ، هيَ إِعتِرافٌ لِلرَّبِ عَلى قُدْرَتِهِ الّتي لا شَيءَ مُسْتَحيلٌ عَلَيها. إِنَّهُ إِعْتِرافٌ صَادِرٌ عَن عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ تَعَلَّمهُما أَيّوبُ في أَوقَاتِ الأَلَمِ وَالشِّدَّة، إِذْ امْتُحِنَ بِفُقدَانِ أَبنائِهِ وَخَيْرَاتِهِ، بِالعَمَى وَالـمَرَضِ. وَفي جَميعِ هَذهِ الامْتِحَانَاتِ، "لَم يَخطَأ أَيّوبُ إِلى الرَّبّ"، إِلاَّ أَنَّهُ وَلِجَهْلِهِ جَعَلَ من نَفْسِهِ رَجُلاً عَليـمًا بِعِلمِ الرَّبِّ، فَنطَقَ بِالبَاطِلِ مُعتَبِرًا أَنَّهُ وَبِكَونِهِ إِسرائيلِيٌّ بَارٌّ، لَهُ حَقٌّ على الرَّب، فَيَجرُؤَ أَنْ يُؤَثِّمَ الرَّبَ لِيَجعَلَ من نَفسِهِ بَارًّا غَيرَ مُسْتحِقٍّ الـمَصائِبَ التي حَلَّت بِهِ (راجع أي 40 / 7 – 8 ).
على طَريقِ عِمَّاوُسَ، إِكْتَشَفَ التِّلميذَانِ قُدرَةَ الرَّبِ العَظيمَةِ الَّتي لا يَستَحيلُ عَليها شَيء، وَفَهِمَا سِرَّهُ، بَعدَ جَهلٍ وَشَكٍّ بِأَقوالِ النِّسوَةِ الـمُبَشِّراتِ بِقيامَةِ الرَّب.
3 مَن ذا الَّذي يُخْفي التَّدْبيرَ في غَيرِ عِلْم؟ إنِّي قد أَخبَرتُ مِن غَيرِ أَن أُدرِك بِعَجائِبَ تَفوقُني ولا أَعلَم.
يُكَمِّلُ أَيّوبُ اعْتِرافَهُ، بِأَنَّ سِرَّ الرَّبِ يَفوقُ عِلـمَهُ وَمَعرِفَتَهُ. فَفي الآلامِ غيرِ العَادِلَةِ الَّتي تَحمَّلها أَيّوبُ، فَهمٌ وَإِدراكٌ لِسِرِّ الأُلوهِيَّةِ. فقَد نَطقَ بِعِلمِ الرَّب لا عَن مَعرِفةٍ عَامَّةٍ بَل عن معرِفةٍ خَاصَّةٍ، نَابِعةٍ من حَربٍ على الذَّاتِ وَعَلى أَفكارِ الأَسلافِ الَّذينَ كَانوا يُؤمِنونَ بِالرَّبِ حَسَبَ القَاعِدة "أَعطِني أُعطيكَ" (أي 2 / 4). فَيُوجِّهُ أَيّوبُ السّؤالَ إِلى نَفسِهِ، قَاصِدًا فيهِ التَّوبَةَ عَمّا سَعَى إِليهِ، أَي تَبريرَ نَفسِهِ وَجَاعلاً منَ الرَّبّ أَثيمًا (أي 40 / 8).
4 إِسمَع فأَتَكَلَّم أَسأَلُكَ فأَخبِرْني.
5 كُنتُ قد سَمِعتُكَ سَمعَ الأُذُن أَمَّا الآنَ فعَيني قد رَأَتكَ.
6 فلِذلك أَرجِعُ عن كَلامي وأَندَمُ في التُّرابِ والرَّماد".
لقد تجَلّى الرّبُ لأيّوبَ كَما تجلَّى لموسى وَلإيليَّا، أَي بِالمعرفةِ الباطنيَّةِ الحقيقيَّةِ للرَّب. فَرُؤيا العينَينِ هيَ انفِتاحُ القلبِ وَالبَصيرةِ على قَداسَةِ الرَّبّ التي لا تُحاكَمُ وَلا تُدَانُ، كَما كَانَ أَيّوبُ فَاعلاً في حَديثِهِ وَحِواراتِهِ. لِذا، أَمامَ قَداسَةِ الرَّبِ، صَارَ اعتِرافُهُ حَتمِيًّا وَنَدامَتُهُ عَن وَعيٍ وَإِدراكٍ لِخَطيئَتِهِ.
12 وبارَكَ الرَّبُّ آخِرَةَ أَيُّوب أَكثَرَ مِن أُولاه. فكانَ لَه مِنَ الغَنَمِ أَربَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ومِنَ الإِبلِ سِتَّةُ آلاف، وأَلفُ فَدَّانٍ مِنَ البَقَر وأَلفُ أَتان.
من بَعدِ الامتحَانِ، وَقَرارِ أَيّوبَ بالتَّوبَةِ لِتَمرُّدِهِ على الرَّب، بَاركَهُ الرَّبُ وَكَثَّرَ لَهُ الخَيرات، لِتَكونَ تَوبَتهُ علامَةً لِرَحمةِ الرَّبِ العَظيمَةِ التي تَتَغلَّبُ على الإِثمِ وَالخَطيئَةِ، وَتُكَافِئُ الإِنسَانَ بِكَرم ٍ وَعَطَايا لامَحدودَةٍ.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
تُعَلِّمُنا القِراءةُ من سِفرِ أَيُّوبَ، أَنَّنا غَيرُ قَادِرينَ على سَبْرِ سِرِّ اللهِ وَفَهمِهِ بِنَفسِنا، فَنحنُ بِحَاجةٍ إِلى نِعمَةِ الرَّبِ التي تُنيرُ بَصَائِرَنا وَتَقودُ مَسيرَةَ بَحثِنا عَنهُ. لِنَطلُبَ منَ الرَّبِ يَسوعَ أَن يُلاقينَا في دُروبِ حَيَاتِنا، كَما لاقَى تِلميذَيهِ على طَريقِ عِمَّاوُسَ، وَيُلهِمَنا لِكي نَختارَ النُّورَ وَالحَقيقَةَ، دَائِمًا.