أحد الإِبن الشَّاطِر
سفر زكريا: 3 / 1 - 7
1 وأَراني يَشوعَ الكاهِنَ العَظيمَ واقِفًا أَمامَ مَلاكِ الرَّبّ، والشَّيطانَ واقِفًا عن يَمينِه لِيَتَّهِمَه.
2 فقالَ الرَّبُّ لِلشَّيطان:"زَجَرَكَ الرَّبُّ، يا شَيطان، زَجَرَكَ الرَّبُّ الَّذي ٱخْتارَ أُورَشَليم. أَلَيسَ هذا شُعلَةً مُنتَشَلَةً مِنَ النَّار؟"
3 وكانَ يَشوعُ لابِسًا ثِيابًا قَذِرَةً وهو واقِفٌ أَمامَ المَلاك.
4 فأَجابَ وكَلَّمَ الواقِفينَ أَمامَه قائلًا:"اِنزعوا عَنه الثِّيابَ القَذِرَة". وقالَ لهُ: "أُنظُرْ! إِنّي قد أَجَزتُ إِثمَكَ عنكَ. فَلْتلبَسْ ثِيابًا فاخِرة".
5 وقُلتُ: ليُجعَلْ تاجٌ طاهِرٌ على رأسِه. فجَعَلوا التَّاجَ الطَّاهِرَ على رَأسِه وأَلبَسوه الثِّيابَ.
6 فحَذَّرَ مَلاكُ الرَّبِّ يَشوعَ قائِلًا:
7 "هكذا قالَ رَبُّ القُوَّات: إِن سِرتَ في طُرُقي وحَفِظتَ أَحْكامي، فأَنتَ أَيضًا تَحكُمُ على بَيتي وتُحافِظُ على دِياري، فأُعْطيكَ سَبيلًا إِلى وَسَطِ أُولئِكَ الواقِفينَ هُنا".مقدّمة
تَعْرِضُ عَلينا كَنيسَتُنا، في أَحَدِ الإِبْنِ الشَّاطِر، نَصًّا منَ النَّبيِّ زَكريّا يُصَوِّرُ فيهِ دِفَاعَ الرَّبِّ عِن النَّبيّ وَرَئيسَ الأَحبَارِ آنَذاكَ يَشوعَ بْنِ يوصَادَاق (راجِع حج 1 / 1)، ضِدَّ الشَّيطَانِ الَّذي كَانَ يُحَاوِلُ أَن يَقْبِضَ عَلَيهِ بِسَبَبِ خَطَايا الشَّعب الكَثيرَة. هَذا النَّصُّ يُظهِرُ رَحمَةَ الرَّبّ وَعَطْفِهِ عَلى الخَاطئِ كَمَا نَصِّ الإِنجيل، الَّذي فيهِ يَعْطِفُ الأَبُ عَلى ابْنِهِ الخَاطِئِ وَالتَّائِبِ فَيَضُمَّهُ إِلى صَدْرِهِ عَلامَةَ الغُفْرَانِ وَالرِّضَى.
أَمَّا بِـمَا يَخُصُّ نَصَّنا منَ سِفرِ زَكرِيَّا، فَبَعدَ رُجوعِ الشَّعبِ اليَهودِيِّ منَ السَّبي إِلى بَابِل، كانَ هَذا النَّبيّ واحِدًا منْ بَينِ الأَنبياءِ الثَّلاث حَجَّاي وَزكريّا وَملاخي الَّذينَ عَادُوا معَ العَائِدِينَ إِلى أَرضِ أُورَشَليم. في عَهدِهِم، كَانَ قُورُش مَلِكُ بَابِلَ قَدْ سَمحَ لِليَهودِ بِالعَودَةِ إِلى بِلادِهِم سنة 537 ق.م. وَلَكِنَّ أَغْلَبِيَّتُهُم لَم يَرْجِعُوا لِأَنَّهُم كَانوا قَدْ سَكَنوا هُنَاكَ وَامْتَلَكوا (راجِع إر 29 / 5 - 7). فَكانَ عَدَدُ العَائِدينَ 42360 فقط (راجع عز 2 / 1 - 70). كَانَ النَّبيُّ زكرِيَّا قَد شَجَّعَ الشَّعبَ على بِناءِ الهَيكَلِ بَعدَ عَودَتِهم منَ السَّبي، لِأَنَّ الرَّبَّ كَانَ قَد وَعَدَ شَعْبَهُ بِالسُّكنَى في وَسَطِهِ (راجِع زك 2 / 5 - 17)، فَقَامَ الشَّيطَانُ لِيُحَارِبَ غَايَتَهُ منْ خِلالِ هَذهِ الرُّؤيَا.
تفسير الآيات
1 وأَراني يَشوعَ الكاهِنَ العَظيمَ واقِفًا أَمامَ مَلاكِ الرَّبّ، والشَّيطانَ واقِفًا عن يَمينِه لِيَتَّهِمَه.
2 فقالَ الرَّبُّ لِلشَّيطان:"زَجَرَكَ الرَّبُّ، يا شَيطان، زَجَرَكَ الرَّبُّ الَّذي ٱخْتارَ أُورَشَليم. أَلَيسَ هذا شُعلَةً مُنتَشَلَةً مِنَ النَّار؟" يَبْدَأُ نَصُّ الرُّؤيَا بِالفِعلِ "أَرانِي" أَي أَنَّ النَّبيَّ يُشَاهِدُ، كَـمَا يَحْصَلُ في الحُلم. وَلَكِن، يَتسَاءَلُ القَارِئُ عَن هُوِيَّةِ الشَّخْصِ الَّذي أَعْطَى لِزكرِيَّا هَذِهِ الرُّؤيا. أَلرُّؤَى السَّابِقَةُ تَدُلُّ عَلى أَنَّ مَلاكَ الرَّبِّ هوَ الَّذي كَانَ يَقودُ النَّبيَّ في جَميعِ الرُّؤَى. تُصَوِّرُ الآيَةُ الأُولَى مَشْهدَ جَلسَةِ مَحكَمةٍ، الـمُتَّهَمُ فيهَا هوَ يَشوعُ بْنُ يُوصَاداقَ الذي كَانَ القَائِدَ الرّوحِيَّ لِلشَّعبِ اليَهودِيّ وَالكَاهِنَ العَظِيمَ وَهوَ في هَذهِ الرُّؤيا، يُـمَثِّلُ الشَّعبَ. أَلـمُدَّعي عَلى يَشوعَ هوَ الشَّيطَانُ بِنَفْسِهِ وَالقَاضِي هوَ الرَّبُّ. أَلواضِحُ منَ الآيَةِ الثَانِيَة، أَنَّ الشَّيطَانَ يُريدُ مُحَارَبَةَ الشَّعب اليَهودِيَّ لِأَنَّ الرَّبَّ اخْتَارَهُم خَاصَّةً لَهُ كَـمَا اخْتَارَ أُورَشَليمَ: "وَسَتُسْكَنُ بِغَيرِ أَسوارٍ مِن كَثرَةِ البَشَرِ وَالبَهَائِمِ فيهَا، وَأَنا أَكونُ لهَا يَقولُ الرَّبّ، سُورَ نارٍ من حَولِهَا وَمَجْدًا في وَسَطِها" (زك 2 / 8 - 9). أَلتُّهْمَةُ الـمُوَجَّهةُ ضِدَّ يشوعَ كَونَهُ نَائِبَ الشَّعبِ اليَهودِيّ، هيَ أَنَّ آبَاءَهُم قَد أَخطَأُوا إِلى الرَّبِّ وَهُم أَيضًا أَخطَأُوا، بِابْتِعَادِهم عن وَصَايا الرَّبِّ وَاتِّبَاعِهِم البَعلَ، فَعَلَيهِم أَن يُوفُوا مَا تَسْتَوجِبُهُ خَطَاياهُم وَإِلاَّ، فَالشَّيطَانُ هوَ الَّذي سَيَربَحُ الجَلسَةَ وَيَجُرُّ يَشوعَ إِلى الهَاوِيَةِ وَمعهُ كُلَّ الشَّعْب. فَأَيُّ دَفَّةٍ سَتَغْلِبُ، أَلعَدْلُ أَمِ الرَّحْمَةُ؟ نَسْمَعُ الرَّبَّ يَزْجُرُ الشَّيطَانَ بِقَسَاوَةٍ "زَجرَكَ الرَّبُّ يا شَيطَان"! تَدَخَّلَ الرَّبُّ لِصَالِحِ أُورَشَليمَ مَدينَتَهُ وَشَعبَهُ، وَرَأَى ذُلَّهُم وَمَشَقَّاتَهُم التي عَانُوا منهَا خِلالَ سِنِي السَّبي إِلى بَابِلَ، فَكَانَ مَنظَرُ يَشُوعَ الكَاهِنَ كَـمَنظَرِ مَنْ انْتُشِلَ منَ النَّار، بِسَبَبِ كَثرَةِ خَطَايَا الشَّعب "أَلَيسَ هذا شُعلَةً مُنتَشَلَةً مِنَ النَّار؟". عَلى هَذا الـمَوقِفِ الإِلَهيِّ لِصَالِحِ شَعْبِهِ، يَخْرُجُ الشَّيطَانُ منَ الـمَحْكمةِ مَخذولاً.
3 وكانَ يَشوعُ لابِسًا ثِيابًا قَذِرَةً وهو واقِفٌ أَمامَ المَلاك.
4 فأَجابَ وكَلَّمَ الواقِفينَ أَمامَه قائلًا:"اِنزعوا عَنه الثِّيابَ القَذِرَة". وقالَ لهُ: "أُنظُرْ! إِنّي قد أَجَزتُ إِثمَكَ عنكَ. فَلْتلبَسْ ثِيابًا فاخِرة".
5 وقُلتُ: ليُجعَلْ تاجٌ طاهِرٌ على رأسِه. فجَعَلوا التَّاجَ الطَّاهِرَ على رَأسِه وأَلبَسوه الثِّيابَ.
أَلـمَلابِسُ القَذِرَةُ الَّتي يَرتَدِيها يَشوعُ رَئيسَ كَهنةِ الشَّعب، هيَ رمزٌ لِخطَايَا الشَّعبِ لِأَنَّهُم تَنَجَّسُوا بِالأُمَمِ وَبِتَعالِيمِهِم السَّيئَةِ وَتَخَلَّوا عَن وَصَايا الرَّبِّ وَشَريعَتهِ. كَانَ يَشوعُ "وَاقِفًا أَمامَ مَلاكِ الرَّبّ" وَهيَ عَلامَةُ الانْتِصَارِ وَالرَّبُّ هوَ الَّذي يَحفَظُ شَعْبَهُ رَغمَ خَطَايَاهُم الكَثيرَة، لِأَنَّهُ أَمينٌ لِوُعودِهِ وَلا يَسْمَحُ لِلخَطيئَةِ بِأَن تُبَدِّلَ نَوايَاهُ أَو تُغَيِّرَ مَشْروعَهُ الخَلاصِيَّ.
أَلواقِفونَ أَمامَ يَشوعَ في هَذِهِ الـمَحْكَمةِ هُم الشُّهودُ على الحُكمِ النِّهَائِيِّ وَخُدَّامُ الرَّبّ الَّذينَ يُنَفِّذونَ أَوامِرهُ. نَزعُ الثّيابِ القَذِرَةِ هوَ عَلامةٌ على نَزعِ الإِثمِ عَنِ الشَّعب. وَلِبْسِ الثّيابِ الفَاخِرَةِ عَلامةٌ على الوِلادةِ الجَديدَةِ بِالتَّوبَةِ، كَالـمَعمودِيَّةِ. أَمَّا التَّاجُ الطَّاهِرُ فَهوَ رَمزٌ لِلمُلوكِيَّةِ وَالرِّئَاسَةِ، فَبَعدَ أَنْ حَمَلَ يَشوعُ إِثمَ الشَّعبِ عَلى كَاهِلِهِ كَكِبشِ الـمُحرَقَة، لِيَفْدِيَهُم، أَعَادَ الرَّبُّ إِلَيهِ طَهارَتهُ وَمَركَزهُ كَقَائِدٍ روحِيٍّ. وَالثِّيابُ علامةُ الكَرامَةِ وَالغُفران وَالتَّطهيرِ منَ الخطَايا.
هَكذا في إِنجيلِ الإِبنِ الشَّاطِر، يُعيدُ الأَبُ كَامِلَ الكَرامَةِ وَالاعْتِبَارِ إِلى ابْنِهِ بِتَبْديلِهِ ثِيَابَ الإِثمِ وَالخَطيئَةِ، بِثيابِ الـمَجدِ وضَمَّةِ الأَبِ الحَنون علامةً لِلغُفرانِ وَالعَودَةِ كَابنٍ إِلى البَيتِ الأَبوِيّ.
6 فحَذَّرَ مَلاكُ الرَّبِّ يَشوعَ قائِلًا:
7 "هكذا قالَ رَبُّ القُوَّات: إِن سِرتَ في طُرُقي وحَفِظتَ أَحْكامي، فأَنتَ أَيضًا تَحكُمُ على بَيتي وتُحافِظُ على دِياري، فأُعْطيكَ سَبيلًا إِلى وَسَطِ أُولئِكَ الواقِفينَ هُنا".
بَعدَ رُتبَةِ الغُفرانِ وَالتَّطهيرِ منَ أَدناسِ الخَطيئَةِ، يُوَجِّهُ ملاكُ الرَّبِّ تَحذيرًا شَديدًا إلى يَشوع. ألتَّحذيرُ يَقضي بِضَرورَةِ السَّيرِ في وَصايا الرَّبِّ وَأَحكَامِهِ، وَبِالأَخصِّ بالنِّسْبَةِ لهُ شَخصِيًّا كَكاهِنِ الرَّبّ، حِفظِ الشَّعائرِ الـمُختصَّةِ بِخِدمةِ الهَيكَل. في هَذهِ الآيةِ تَجديدٌ لِخِدمةِ يَشوعَ كَكاهِنٍ عَظيمٍ لِلشَّعبِ اليَهودِيّ، فَيُعيدُ الرَّبُّ لهُ سُلطَةَ الحُكمِ على الشَّعبِ وَالحِفَاظِ على بَيتِ الرَّبّ أَي الهَيكَل. يَظهرُ منَ الآيَةِ الأَخيرَةِ، أَنَّ جَلْسَةَ الـمَحكَمةِ كَانَت تَحصَلُ في السَّـمَاءِ أَمَامَ الـمَلائِكةِ الواقِفينَ أَمامَ الرَّبّ.
يَعِدُ الرَّبُّ كَاهِنَهُ بِـمُكَافَأَةِ حقِّ الـمُثولِ أَمامَهُ، فتكونَ خِدمَتهُ مَقبولةً وَصلاتَهُ مُسْتَجَابةً، فَإِنَّهُ رَئيسُ الكهنةِ وَرمزُ الـمَسيحِ الـمَوعودِ. هكذَا وَالِدُ الابْنِ الشَّاطِرِ مَحَى خَطاياهُ وَأَعَادَ إِليهِ حقَّ البُنُوَّةِ مُكَافَأَةً على تَوبَتِهِ وَعَودَتِهِ: "ابْنِيَ هذَا كَانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد" (لو 15 / 24).
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
إِنَّ قِصَّةَ الابنِ الشَّاطِرِ تَترُكُ في ضَمائِرِنا صُورَةَ حَنانِ الأَبِ وَانتِصَارِهِ بِـمحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ على خَطيئَةِ ابنِهِ وَضُعفِهِ. وَلَنا في قِراءَةِ العَهدِ القَديمِ منَ النَّبيّ زكرِيَّا، نَصًّا رُؤيَوِيًّا يُظهِرُ رَحمةَ الرَّبِّ وَحَنانَهُ الَّذي يَنتَصِرُ على خَطايا شَعبِهِ كُلِّهِ، من غَيرِ تَمييزٍ. لِنَلجَأ بينَ ذِراعَي الرَّبِّ الـمَفتوحَتَينِ على الصَّليبِ، طَالِبينَ منهُ الرَّحمةَ وَالغُفرانَ وَهوَ الأَمينُ لِوعودِهِ بِخلاصِ الخَطَأةِ التَّائِبينَ، فيَرحَمنا وَيَرُدَّ لنا نَقاءَ نُفوسِنا وَأَجسَادِنا.