أحد شفاء المرأة النازفة
سفر العدد: 15 / 37 - 41
37 وخاطَبَ الرَّبُّ موسى قائِلًا:
38 "كَلِّمْ بَني إِسْرائيلَ ومُرْهم أَن يَصنَعوا لَهم أَهْدابًا على أَذْيالِ ثِيابِهِم مدى أَجْيالِهم ويَجعَلوا على هُدْبِ الذَّيْلِ سِلْكًا مِنَ البِرْفيرِ البَنَفْسَجِيّ.
39 فيَكونَ ذلك لَكُم هُدْبًا فتَرَونَه وتَذكُرونَ جَميعَ وَصايا الرَّبِّ وتَعمَلونَ بِها، ولا تَتيهونَ وراءَ قُلوبِكم وعُيونِكمُ الَّتي أَنتُم تَزْنونَ وَراءَها،
40 فتَتَذَكَّروا وتَعمَلوا بِجَميعِ وَصايايَ وَتكونوا مُقَدَّسينَ لإِلهِكم.
41 أَنا الرَّبّ إِلهُكمْ الَّذي أَخرَجَكم مِن أَرضِ مِصرَ، لِيَكونَ لَكم إلهًا: أَنا الرَّبّ إِلهُكم".
مقدّمة
في قِراءَةِ العَهدِ القَديمِ، تُلْقِي كَنيسَتُنا الـمَارونِيَّةُ في أَحدِ شِفاءِ الـمَنزوفَةِ، الضَّوءَ على أَهْدابِ رِداءِ الرَّبِّ يَسوع الشَّافِيَة، إِذ يَقُولُ النَّصُّ: "دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا" (لو 8 / 44). هَذِهِ الأَهْدَابُ كَانت في العُصُورِ القَدِيمَةِ، لِأَصْحَابِ الوَجَاهَةِ وَلذَوي الـمَنَاصِبِ الـمُهِمَّةِ، أَمَّا الشَّعْبُ اليَهودِيُّ فَكَانَ يَضَعُهَا في أَسفَلِ الرِّدَاءِ كَعَلامَةٍ تُـمَيِّزُهُ عَنْ كَافَّة الشُّعوبِ، بِأَنَّهُ الشَّعبُ الـمُخْتَار. وَهيَ تَحْتَوِي عَلى وَصَايَا الرَّبِّ، فَكَانَ على كُلِّ يَهودِيٍّ أَن يَضَعَها لِتُذَكِّرَهُ بِالوَصَايا الَّتي سَلَّمَها الرَّبُّ لِـموسَى النَّبِيِّ، وَفي اتِّبَاعِهَا طَريقٌ لِلحَياةِ وَالخَير (راجِع تث 30 / 15 - 20). شُفِيَتِ الـمَرأَةُ النَّازِفَةُ مِن لَمسِ أَهدَابِ ثَوبِ الرَّبّ نَفْسِهِ، مُعْطي الشَّريعَةِ وَالوَصَايا لِشَعْبِهِ، فَتَحَوَّلَ حُزنُها إِلى فَرَح وَأَلَمُها إِلى رَجَاء.
إِنَّ سِفرَ العَدَد يَتْبَعُ سِفرَ الخُروج وَيُعيدَ رِوايَاتٍ عِدَّةٍ لِتَنَقُّلاتِ العِبْرانِيِّينَ منذُ الأَشْهُرِ الأَخيرَةِ في بَرِيَّةِ سينَاءَ إِلى عَشِيَّةِ دُخولِهِم أَرضَ الـمِيعَادِ. يَحْوِي هَذا السِّفرُ مَجموعَةَ تَقاليدَ رَتَّبَها الكَاتِبُ، مِنها وَضْعِ الأَهْدَابِ عَلى أَذيالِ الأَثوَاب.
تفسير الآيات
37 وخاطَبَ الرَّبُّ موسى قائِلًا:
38 "كَلِّمْ بَني إِسْرائيلَ ومُرْهم أَن يَصنَعوا لَهم أَهْدابًا على أَذْيالِ ثِيابِهِم مدى أَجْيالِهم ويَجعَلوا على هُدْبِ الذَّيْلِ سِلْكًا مِنَ البِرْفيرِ البَنَفْسَجِيّ.
في هَذا النَّصِّ، يُوَجِّهُ الرَّبُّ وَصِيَّةً وَأَمْرًا إِلى شَعْبِهِ عَلى لِسَانِ موسَى النَّبِيّ. مِنْ بَعْدِ خُروجِهِ من أَرضِ مِصْرَ، وَبَعْدَ مُرورِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ، بَلَغَ الشَّعبُ في مَسِيرِهِ بَرّيَةَ سينَاءَ، فَخَيَّمُوا قُبَالَةَ جَبَلِ سينَاءَ أَو جَبَلِ تجَلِّي الرَّبّ حَيثُ نَالَ موسَى الوَصَايَا (راجِع خر 19 – 40). خِلالَ مُكوثِهِم في هَذِهِ البَريَّةِ، ارْتَكَبَ بَعضُهُم الخَطَايا وَخَالَفُوا وَصَايا الرَّبِ، منْها مُخَالَفَةُ شَريعَةِ السَّبت، في النَّصِّ السَّابِقِ لِنَصِّنا. لِذا، أَمَرَ الرَّبُّ شَعْبَهُ أَن يَجْعَلوا لِأَثوابِهِم أَهْدَابًا تَحتَوي عَلى الشَّرائِعِ لِكَي كُلَّمَا نَظَروا إلَيها، لاَ يَعودُوا إِلى ارْتِكَابِ الخَطَايَا وَمُخَالَفَةِ الوَصَايا الَّتي تُؤَدِّي إلى قَتلِ الـمُخَالِفينَ وَنَقْصِ عَدَدِ شَعْبِ الله.
ألأَهْدَابُ هيَ خُيوطٌ تُوضَعُ في ذَيلِ الرِّداء، عَلى الشَّكلِ الـمَعروفِ بِالشِّرّابَة أَو الطُّرَّة. في اللُّغةِ العِبْرانيَّةِ تُسَمَّى تْصِيتْصِيتْ، وَالـمُرَجَّح أَنَّها كَالجَدائِلِ الَّتي يَتحَدَّثُ عنها موسَى في سِفرِ التَّثنية: "وَاصْنَع لَكَ غِديلِيم أَهْدَابًا في أَربَعَةِ أَطْرافِ الرِّداءِ الَّذي تَرتَديهِ" (تث 22 / 12). وَكَانَ الرِّداءُ اليَهودِيُّ يُلْبَسُ فَوقَ سَائِرِ الثّيابِ، لَهُ أَربَعَةُ أَذيَالٍ. أَليَهودِيُّ الفَقيرُ كَانَ يَلْبَسُهُ كَرِداءٍ وَحيدٍ (راجِع خر 22 / 25 - 26).
أَمَّا السِّلكُ منَ البِرفير البَنَفْسَجِيِّ، فَكَانَ يُذَكِّرُ الشَّعبَ بِأَنَّهُ خَاصَّةُ الرَّبّ بينَ جَميعِ الشُّعوبِ، وَمَملَكةً منَ الكَهنَةِ وَأُمَّةً مُقَدَّسةً بينَ سَائِرِ الأُمَمِ (راجِع خر 19 / 5 - 6). لِأَنَّه عِبَارَةٌ عَن رَمزٍ لِلحِجَابِ الَّذي كَانَ أَيضًا، منَ البِرفير البَنَفْسَجِيُّ وَكَانَ مَوضُوعًا دَاخِلَ الـمَقدِسِ، كَفاصِلٍ بينَ قُدسِ الأَقداسِ وَالقُدْس (راجِع خر 26 / 31 - 37).
39 فيَكونَ ذلك لَكُم هُدْبًا فتَرَونَه وتَذكُرونَ جَميعَ وَصايا الرَّبِّ وتَعمَلونَ بِها، ولا تَتيهونَ وراءَ قُلوبِكم وعُيونِكمُ الَّتي أَنتُم تَزْنونَ وَراءَها،
40 فتَتَذَكَّروا وتَعمَلوا بِجَميعِ وَصايايَ وَتكونوا مُقَدَّسينَ لإِلهِكم.
هَذِهِ الأَهْدَابُ إِذًا، أَرادَها الرَّبُّ لِحِفظِ وَصَايا الرَّبّ وَالعَيشِ بِمخَافَتِهِ. فَهيَ تَحْفَظُ النَّظَرَ وَمن خِلالِهِ القَلب، أَي كُلَّ الإِنسَانِ، أَلَمْ يُعَلِّمَنا الرَّبُّ يَسوعَ قَائِلاً: "سِرَاجُ الجَسَدِ هوَ العَين. عِنْدَمَا تَكُونُ عَيْنُكَ سَليمَةً، يَكونُ جَسَدُكَ أَيضًا كُلُّهُ نَيِّرًا"؟ (لو 11 / 34؛ راجع متى 6 / 22 - 23). أَلعُيُونُ هيَ الأَعْضَاءُ التي يُوَاجهُ فيهَا الإِنسانُ العَالَمَ وِكُلَّ مَا فيهِ، فَهِيَ تَتَأَثَّرُ بِالـمَنَاظِرِ وَالـمَظَاهِرِ وَتَنْقُلُ إِلى القَلبِ الصُّوَرَ فَتُولَدُ فيهِ الـمَشَاعِرُ، حَسَنةً كَانَت أَو رَديئَةً، صَافِيَةً أَو نَجِسَةً. لِذَا، فَالأَهْدَابُ هِيَ بِـمَثَابَةِ أُفُقٍ لِلعَيْنِ قَرِيب، وَأَهَمِّيتُهُ تَكْمُنُ بِمَا يَحْتَوي أَي وِصَايا الرَّبّ وِهيَ رِبَاطُ الحُبِّ بَينَهُ وَبينَ شَعْبِهِ. هَذا الأُفُقُ القَريبُ يَحْفَظُ العُيُونَ مِنْ خَطَرِ الانْحِرَافِ وَرَاءَ مَا في العَالَمِ مِنْ أَهْوَاءٍ وَفَرَصِ الوُقوعِ في الخَطَايَا.
أَلفِعلُ العِبْرِيُّ تُورْ أَي البَحْث وَالطَّلَبْ وَالسَّعي وَراءَ أَهوَاءِ العُيونِ وَمَشَاعِرِ القَلبِ، يَدُلُّ عَلى مَا يَدُورُ حَقيقَةً في أَعمَاقِ الإِنسَانِ وَفي الخَفَاءِ منْ جَرَّاءِ مَا تَلْتَقِطُهُ العُيُونُ وَمَا يُصْدِرُهُ القَلب. فَالإِنسَانُ ضَعيفٌ أَمَامَ الأَهوَاءِ العَالَمِيَّةِ، لا بَلْ يَبْحَثُ عَنها وَيَسْعَى إِلَيها لِأَنَّها تُقَدِّمُ لَهُ مَا تَطْلُبُهُ شَهوَتُهُ الجَسَدِيَّةُ. في هَذا الفِعْلِ العِبْرِيِّ، يُحَذِّرُ الرَّبُّ شَعْبَهُ منَ الوُقوعِ في الخَطيئَةِ وَمنَ البُعْدِ عَنْ طَريقِ وَصَايَاهُ. لِأَنَّ شَعبَ الرَّبّ مُقَدَّسٌ، كَما أَنَّ الرَّبَّ قُدُّوسٌ (راجِع لا 11 / 44).
41 أَنا الرَّبّ إِلهُكمْ الَّذي أَخرَجَكم مِن أَرضِ مِصرَ، لِيَكونَ لَكم إلهًا: أَنا الرَّبّ إِلهُكم".
يُكَرِّرُ الرَّبُّ عِبَارَةَ "أَنا الرَّبُّ إِلَهُكُم" لِلتَّنبيهِ على وُجوبِ الطَاعَةِ لِوَصَايَاهُ. فَالرَّبُّ هوَ الَّذي حَرَّرَ إِسْرائيلَ شَعبَهُ مِن دَارِ العُبودِيَّةِ، مِصرَ، مُظْهِرًا أَنَّهُ هوَ الإِلهُ الحَيُّ الحَقُّ وَلا إِلَهَ سِوَاهُ. فَلَهُ وَحْدَهُ يَجِبُ الطَّاعَةُ وَالعَيشِ بِحَسَبِ وَصَايَاهُ.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
أَلشَّعبُ العِبرِيُّ كَانَ يَسْتَعمِلُ الأَهدَابَ كَوَسيلَةٍ لِتَذَكُّرِ وَصَايا الرَّبِّ. أَمَّا نَحنُ الَّذينَ اعْتَمَدْنا وَلَبِسْنَا الـمَسيحَ وَتناوَلنا جَسَدَهُ الـمُقَدَّسِ، فَصَارَتْ لَنا مَواعِيدُ الخَلاصِ وَصِرنا واحِدًا مَعَ الرَّبِّ. بِروحِهِ القُدُّوسِ حَلَّ فينا وَصِرنا لَهُ مَسْكِنًا، فَسَكَنَت فينا شَريعَةُ الحُبِّ وَالحُريَّةِ وَالحَقيقةِ. كُلُّ هَذِهِ النِّعَمِ وَغَيرِها الكَثير، هيَ قَادِرةٌ عَلى أَن تُوَحِّدَنا بِالرَّبِّ وَتَحمينا منَ الخَطيئَةِ، لَكنْ، كُلُّ هَذا يَبْقَى وَقفَ إِرادَتِنا: هَلْ نُريدُ الرَّب أَم غَيرَهُ؟ ألـمَرأَةُ النَّازِفَةُ تَخَطَّتْ وَاقِعَها الجَريحِ وَصُعوبَةَ اللِّحَاقِ بِالرَّبّ مَشيًا على الأَقدامِ بِسَبَبِ نَزفِ الدَّمّ الـمُسْتَمِرِّ، وَقَرَّرَت الشِّفَاءَ فَنالَتْ مُبْتَغَاها: "يا ابْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!" (لو 8 / 48).
لَقَد اتَّسَمَت الـمرأَةُ بِاسْمِ دَائِها "النَّازِفة" وَسُتِرَ اسْمُها الحَقيقيُّ خَلفَ هَذه الصِّفَة الـمَرَضِيَّة، مَا أَصْعَبَ وَاقِعَ الإِنسَانِ الـمَريض! في آحادِ زَمَنِ الصَّومِ، نُلاحِظُ أَنَّ الـمَرضَى الَّذينَ يَأْتونَ لِيَستَشْفوا منَ الرَّبِّ يَسوع، تَضيعُ أَسمَاؤُهُم خَلفَ أَنواعِ أَمراضِهم. هَذا، لِكَي تَظهَرَ قُدرَةُ الرَّبِّ الشَّافِيَةِ لِكُلِّ عِلَّةٍ وَدَاءٍ. نَفهَمُ مِن غِيابِ أسماءِ الـمَرضى، أَنَّها طَريقةٌ لِتُذَكِّرَ الـمُؤمِنَ أَنَّ هَذهِ العِلَلُ وَالأَمراضُ تَحصَلُ أَيضًا لَهُ أَو لِأَقرِبائِهِ وَأَعِزَّائِهِ، وَالرَّبُّ قادِرٌ أَن يَشفيَ الذي يُؤمِن.