بِدايةُ زمن الصَّوم الكَبير
أحد عرس قانا الجليل
سفر أشعيا: 55 / 1 + 6 - 13
1 تَعَالَوْا أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا إِلَى الْمِيَاهِ، وَهَلُمُّوا أَيُّهَا الْمُعْدَمُونَ مِنَ الْفِضَّةِ، ٱبْتَاعُوا وَكُلُوا، ٱبْتَاعُوا خَمْرًا وَلَبَنًا مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ فِضَّةٍ.
6 أُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ مَوْجُودًا، أُدْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ.
7 لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ وَالأَثِيمُ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَلْيَرْجِعْ إِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ.
8 لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لأَفْكَارِكُمْ، وَلا طُرُقَكُمْ مِثْلُ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ.
9 فَكَمَا ٱرْتَفَعَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، كَذلِكَ ارْتَفَعَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ، وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ.
10 وَكَمَا تَهْطِلُ الأَمْطَارُ وَيَنْهَمِرُ الثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ تُرْوِي الْحُقُولَ وَالأَشْجَارَ، وَتَجْعَلُ الْبُذُورَ تُنْبِتُ وَتَنْمُو وَتُثْمِرُ زَرْعًا لِلْفَلاَّحِ وَخُبْزًا لِلْجِيَاعِ،
11 هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَصْدُرُ عَنِّي مُثْمِرَةً دَائِمًا، وَتُحَقِّقُ مَا أَرْغَبُ فِيهِ وَتُفْلِحُ بِمَا أَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهَا.
12 لأَنَّكُمْ سَتَتْرُكُونَ بَابِلَ بِفَرَحٍ وَسَلاَمٍ فَتَتَرَنَّمُ الْجِبَالُ وَالتِّلاَلُ أَمَامَكُمْ بَهْجَةً وَتُصَفِّقُ أَشْجَارُ الْحَقْلِ بِأَيْدِيهَا غِبْطَةً،
13 وَحَيْثُ كَانَ الشَّوْكُ وَالْقُرَّاصُ، تَنْمُو أَشْجَارُ السَّرْوِ وَالآسِ: فَيَكُونُ ذلِكَ تَخْلِيدًا لاسْمِ الرَّبِّ وَعَلاَمَةً أَبَدِيَّةً لاَ تُمْحَى.مقدّمة
وَنحنُ على أَبوابِ الصِّيَام، تَختارُ كَنيسَتُنا قِراءَاتٍ تَترُكُ لنا فيها تَعَاليمَ وَتوجِيهَاتٍ روحِيَّةٍ لتَتَحضَّرَ نفُوسُنا لِلدُّخولِ في هَذهِ الـمَرحَلةِ الجَدِيدَة منَ السَّنةِ الطَّقسيَّة. فَها أَشَعيا يُعْلِنُ لِلشَّعبِ في بابِلَ الخَلاصَ القَريبَ بِدَعوَةِ الرَّبِّ وَالاقْتِرابِ منهُ بالتّوبَةِ وَطلَبِ الغُفران، بِالفرحِ وَبالسَّلام. وَها بولُسُ الرَّسول يُنَبِّهُنا من خَطرِ دَينونَةِ الآخَرينَ وَالحُكمِ عليهم إِنطِلاقًا من مُمارَسَاتِهِم لِلأَصوام "إِنِّي عَالِمٌ ووَاثِقٌ، في الرَبِّ يَسُوع، أَنْ لا شَيءَ نَجِسٌ في ذَاتِهِ، إِلاَّ لِمَنْ يَحْسَبُهُ نَجِسًا، فَلَهُ يَكُونُ نَجِسًا. فإِنْ كُنْتَ مِنْ أَجْلِ الطَعَامِ تُحْزِنُ أَخَاك، فَلا تَكُونُ سَالِكًا في الـمَحَبَّة" (روم 14 / 14 - 15). أَمَّا إنجيلُ عُرسِ قانا اليوحنَّاويُّ، فَيُذَكِّرُنا أَنَّ الحُبَّ وَالفَرحَ هما أَساسيَّانِ في مَسيرَةِ صِيامِنا. فَإِذا نَقصَ الحُبُّ وَالفَرحُ خلالَ مَسيرَتنا الصِيامِيَّةِ، لِنَدعو مريمَ أُمِّ يَسوعَ، فَهيَ قَادِرةٌ على قَلبِ ابْنِها.
أَشعيا النَّبيُّ يَدعو الشَّعبَ إلى إحياءِ الرَّجاءِ في قلوبِهِم وَالعَودَةِ الى الرَّبّ القَادِرِ أَن يُخلِّصُهم من حُكمِ البابِليِّينَ ومنَ السَّبي الطَّويلِ عن أَرضِهم. أَلصّيامُ يَحمِلُ بِذاتِهِ رمزِيَّةَ العَودَةِ الى الرَّبّ بالتَّوبَةِ وَطَلبِ الغُفرانِ، فتَتحوَّلُ حياةُ الإنسَانِ وَيَختَبرَ الفرحَ وَالسَّلامَ مهما كانت ظُروفُهُ صَعبةً.
تفسير الآيات
1 تَعَالَوْا أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا إِلَى الْمِيَاهِ، وَهَلُمُّوا أَيُّهَا الْمُعْدَمُونَ مِنَ الْفِضَّةِ، ٱبْتَاعُوا وَكُلُوا، ٱبْتَاعُوا خَمْرًا وَلَبَنًا مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ فِضَّةٍ. يَبدَأُ النَّصُّ بِدَعوَةٍ مَجَّانِيَّةٍ مِنْ قِبَلِ بَائِعِ خَمرٍ وَلَبَن، وَكَأَنَّهُ يَقِفُ في سَاحَةِ الـمَدينَةِ، يَعْرِضُ بِضَاعَتهُ لِلبَيْعِ الـمَجَّانيِّ. وَيُصِرُّ عَلى الـمَارِّينَ بِالاقْتِرابِ لِلشِّراء "تَعالَوا! هلُمُّوا!"، كَما يُصِرُّ عَلى أَنْ يَبْتاعُوا من غَيرِ فِضَّة لأَنَّ الفِضَّةَ غَيْر ضَرورِيَّةَ، وَلأَنَّ هَذا البَائِعَ لا يَتَعاطَى بِالفِضَّةِ، هَمُّهُ الوَحيدُ أَن يَنالَ الجَميعَ القُوتَ الأَسَاسِيَّ، الـمِياهَ وَالخَمرَ وَاللَّبَن.
أَلدَّاعي إِذًا، هُوَ الرَّبُّ نَفسُهُ. وَقَد نَزَلَ بِبَركَاتِهِ إِلى سَاحَة الـمَدينَةِ حَيثُ يَجتَمِعُ أُناسٌ مُعدَمونَ مِنَ الفِضَّة، أَي منَ الرَّجاءِ وَالأَمَل، وَهُم شَعبُ اللهِ الـمُخْتارِ الـمَسْبيِّ إِلى بابِل. الـمَدْعُوُّونَ يُؤَلِّفونَ فَريقَانِ "العِطاش" وَ"الـمُعدَمونَ من الفضَّة" وَيُـمَثِّلانِ جَميعَ البَشَر، مِن دُونِ تَمْييزٍ، لِأَنَّ الدَّعوةَ بِأَسَاسِهَا مَفْتوحَةٌ إِذ الدَّاعي لا يُحَدِّد، وَالبِضَاعَةَ تَبْدُو كَثِيرَة، فَمَا مِن داعٍ لِلتَّرَدُّدِ. إِلاَّ أَنَّ نِطَاقَ النَّصِّ، يَقودُنا لِلتَّفْكِيرِ بِشَعبَ إِسْرائِيلَ الـمَسْبيَّ إِلى بابِل، بِالتَّحديد، أَلعَطْشَانَ إِلى الـمِياه أَي إِلى الحَيَاة، وَالـمُعْدَمَ منَ الفِضَّةَ، إِذ هوَ فَقيرٌ مُعْدَمٌ مِنْ كُلِّ شَيء.
أَلبِضَاعَةُ الَّتي يَعْرِضُها هَذا البَائِعُ هيَ الـمِياهُ وَالخَمرُ وَاللَّبَن. فَالمياهُ أَسَاسِيَّةٌ لِجَسَدِ الإِنسَان وَلِرُوحِهِ، فَإِذا فُقِدَتِ الـمِيَاهُ فَقَدَ الجَسَدُ قُوَّتَهُ، حَيَوِيَّتهُ وَمُرونَتَهُ وَالذِّهْنُ نَقَاءَهُ وصَفَاءَ أَفْكَارِهِ وَهَذانِ يُؤَثِّرانِ في نَفْسِ الإِنسانِ. أَمَّا الخَمرُ وَاللَّبَن، فَهُما يُعْتَبَرانِ مِن أَفْخَمِ الخَيرَاتِ الجَسَدِيَّةِ، كَمَا يَرْمُزانِ إِلى فَيضِ الخَيرِ وَالخَلاص. فَاللَّبَنُ هوَ الطَّعامُ الوَحيدُ الَّذي يَحصَلُ عليهِ الإِنسَانُ عِندَما تُدمَّرُ الأَرضُ وَلا تَعودُ تُثْمِرُ، كَما أَرضُ إِسرائِيلَ في فَترةِ خُضوعِها تحتَ نيرِ البَابِليِّينَ (راجِع أش 7 / 22)، وَيَقولُ صَاحِبُ الـمَزمورِ: "الخَمرُ تُفرِّحُ قلبَ الإِنسان" (مز 103 / 15).
إِذًا، نَزلَ الرَّبُّ لِيَعْرِضَ على شَعبِهِ الخلاص وَهيَ عطِيَّةٌ مَجّانيَّةٌ، فَمَن يَقْتَرِبُ وَيُؤمِن يَنالُ الخَلاصَ، وَيَخْرُجُ من بابِلَ الَّتي سُبِيَ إِليها بِفرَحٍ وَبهجَةٍ، كمَا في يَوم ِعُرسٍ.
في إِنجيلِ يوحنَّا، فُقدانُ الخَمرِ سَبَّبَ الهَمَّ، فَسَارَعَت مريمُ أُمّ يَسوعَ لِتَطلُبَ منهُ أَن يُنقِذَ الـمَوقِف، فَكانَتِ النَّتيجَةُ بَهجَةً وَسُرورًا بِالخَمرَةِ الجَديدَةِ، الَّتي فاضَت مَجَّانًا من الأَجرانِ الـمَمْلوءَةِ ماءً. وفي نصِّ أَشَعيا، جاءَ الرَّبُّ لِيُعلِنَ لِشَعبِهِ الخَلاصَ، وَيَبيعَهُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ مَجَّانًا، كَرمًا مِنهُ وَدَعوةً منهُ لِلفرحِ وَالابْتِهاج في بابِلَ، أَرضِ الغُربَةِ وَالعُبودِيَّة.
6 أُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ مَوْجُودًا، أُدْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ.
7 لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ وَالأَثِيمُ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَلْيَرْجِعْ إِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ.
هَاتانِ الآيَتانِ هُمَا بِـمَثابَةِ دَعوَةٍ لِلتَّوبَةِ وَلِلاقْتِرابِ منَ الرَّبّ، كَونَهُ مَوجودًا، قَريبًا وَحاضِرًا. نُلاحِظُ أَنَّ الآيَةَ 6 تَتأَلَّفُ مِن جُملَتَينِ مُرَكَّبَتَينِ بِأُسلوبٍ تَكرارِيٍّ يَدْعو لِلتَّعجُّب؛ لِمَاذا يَطْلُبونَ مَن هُوَ مَوجودٌ، طَالَمَا هُوَ لَيسَ غائِبًا؟! وَلِمَاذا يَدْعُونَ مَن هُوَ قَريبٌ، طَالَما هوَ لَيس بَعيدًا؟! هَذا الأُسْلوبُ يُسْتَعمَلُ لِتَشْجيعِ الشَّعبِ لِطَلَبِ الرَّبِّ وَلِلنُّهوضِ من كَبْوَتِهِ وَيَأْسِهِ. فَـمَطلوبُهُم أَي الرَّبّ، مَوجودٌ وَسَهلَ الـمَنالِ، لِأَنَّهُ قَريبٌ من شَعْبِهِ. ألرَّبُّ هوَ الـمَطلوبُ الأَوحَدُ الَّذي يَحتاجُهُ إِسرائيلُ الـمُعدَم، لِأَنَّ الخَلاصَ هو عَطِيَّةٌ منهُ، وَالطَّريقَةُ الوَحيدَةُ لِطَلَبِهِ، هيَ بِالتَّوبَةِ وَالارْتِدادِ عنِ الشَّر.
لِذا، الآيَة 7 تُفَسِّرُ دَعوَةَ النَّبيِّ، وَما يَقْصِدُ من طَلَبِهِ منَ الشَّعبِ في الآيةِ السَّابِقَة. وَيُشَجِّعُهم باِلارْتِدادِ عَن الضَّلالِ وَالعَودَةِ إِلى الرَّبِّ الرَّحيمِ الغَفور، لِأَنَّ بَابَهُ مَفْتوحٌ دائِمًا لِلتَّائِبِ وَهوَ يَمنَحُهُ الغُفرانَ مَجَّانًا.
8 لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لأَفْكَارِكُمْ، وَلا طُرُقَكُمْ مِثْلُ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ.
9 فَكَمَا ٱرْتَفَعَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، كَذلِكَ ارْتَفَعَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ، وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ.
تَأتي هَاتانِ الآيَتانِ لِتَدُلاَّنِ عَلى كَرم ِالرَّبِّ وَسُمُوِّهِ فَوقَ كَافَّةِ أَنواعِ خَطَايا البَشَرِ وَضُعفِهِم وَمَحدُودِيَّاتِهِم في الفِكرِ وَالتَّصَرُّف (راجع مز 145 / 3). لِهَذا السَّبَبِ، الرَّبُّ مُسْتَعِدٌّ في كُلِّ وَقتٍ وَزمانٍ لِأَن يَهَبَ الخَاطِئَ الغُفرانَ، وَالـمَسبِيَّ الـمَعدومَ الفَرحَ وَالبَهجَةَ.
في هاتانِ الآيَتان وما يَليهِمَا، يُوضِحُ النَّبيُّ مَقصَدَ الرَّبِّ وَرغْبَتهُ بِإِعَادَةِ شَعْبِهِ إِلى أَرضِهِ، حَتَّى وَلو باتَت هَذِهِ الفِكرَةُ مُسْتحيلَةً لَدَيْهِم. فَالرَّبُّ قَديرٌ على غُفرانِ كُلِّ الخَطايَا وَعلى كُلِّ ما يَحْسَبُهُ النَّاسُ مُسْتَحيلاً، لِهذا السَّبَب، أَفكارُهُ تَسْمو فوقَ أَفكَارِنا، وَتَصَرُّفَهُ أَي عَملَهُ في التَّاريخِ يَفوقُ عَقْلَنا الـمَحْدودَ. فَهوَ الرَّبّ الخَالِق أَمَّا نحنُ فَخَليقَتُهُ، وَالـمَسَافَةُ بينَ هَذَينِ الواقِعَينِ، بَعيدَةٌ بُعْدَ السَّمَاواتِ عنِ الأَرض، فَالرَّبُّ لَن يَتنازَلَ عَن سُموِّ عَظمَتِهِ وَأَمانَتِهِ لوُعودِهِ بِالخَلاصِ، مهمَا كَثُرَت وَعَظُمَت خَطيئَةُ الإِنسَانِ، وَالإِنسَانُ لَن يَصِيرَ أَبدًا على هذهِ الأَرضِ في مُسْتوى عَظمةِ الرَّبّ.
10 وَكَمَا تَهْطِلُ الأَمْطَارُ وَيَنْهَمِرُ الثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ تُرْوِي الْحُقُولَ وَالأَشْجَارَ، وَتَجْعَلُ الْبُذُورَ تُنْبِتُ وَتَنْمُو وَتُثْمِرُ زَرْعًا لِلْفَلاَّحِ وَخُبْزًا لِلْجِيَاعِ،
11 هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَصْدُرُ عَنِّي مُثْمِرَةً دَائِمًا، وَتُحَقِّقُ مَا أَرْغَبُ فِيهِ وَتُفْلِحُ بِمَا أَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهَا.
ألرَّبُّ سَيوفِي بِوُعودِهِ لِأَنَّهُ أَمينٌ لِكَلِمَتِهِ. كَلِمةُ الرَّبِّ كَالـمَطَر، إِذ تَنزِلُ منَ السَّماءِ، وَفَعَّالةٌ كَالـمَطرِ إِذ تُروي الأَرضَ وَتُثمِرُ في النَّبَاتِ كُلٌّ على حَسَبِ نَوعِهِ، فلا تَرجِعُ فَارِغةٌ إلى الرَّب كَـما لا يَرجِعُ بُخارُ الـمَطرِ فارِغًا إلى السَّماء.
كَلمةُ الرًّبِّ هيَ رَسولَةٌ من لَدُنِهِ يَنقُلُها النَّبيُّ إلى الشَّعبِ، وَعِندَما تعودُ إلى مُرسِلِها تَحمِلُ معها نَتيجَةَ عَملِها، لا تُبَالي بِضُعفِ البَشَر وَأَفكارِهِم، لِأَنَّها فعَّالَةٌ في كُلِّ زَمانٍ وَوَاقِعٍ وَمهمَا كَانتِ الظُّروف.
12 لأَنَّكُمْ سَتَتْرُكُونَ بَابِلَ بِفَرَحٍ وَسَلاَمٍ فَتَتَرَنَّمُ الْجِبَالُ وَالتِّلاَلُ أَمَامَكُمْ بَهْجَةً وَتُصَفِّقُ أَشْجَارُ الْحَقْلِ بِأَيْدِيهَا غِبْطَةً،
13 وَحَيْثُ كَانَ الشَّوْكُ وَالْقُرَّاصُ، تَنْمُو أَشْجَارُ السَّرْوِ وَالآسِ: فَيَكُونُ ذلِكَ تَخْلِيدًا لاسْمِ الرَّبِّ وَعَلاَمَةً أَبَدِيَّةً لاَ تُمْحَى.
سَيَتحَقَّقُ الخَلاصُ لِلشَّعبِ وَسيَخْرُجُ من دِيارِ العُبودِيَّةِ أَي من بَابِلَ، كَما خَرجَ أَسلافُهم من أَرضِ مِصرَ، بيدَ أَنَّ هَذا كانَ بِالعَجلةِ وَالخَوفِ منَ الـمِصرِيِّينَ، أَمَّا من بابِلَ فالخُروجُ سَيكونُ بفرحٍ وَسلام. حَتَّى إِنَّ الطَّبيعَةَ سَتَشتَرِكُ بِهَذهِ الحَفلَةِ العَظيمَةِ كَيومِ عُرسٍ، سَتترَنَّمُ الجِبالُ وَالتِّلالُ وَتُصَفِّقُ الأَشجارُ فرحًا وَسرورَا.
كمَا سَتحِلُّ البَركةُ مكَانَ الشِّحِّ، وَالحَياةُ مكَانَ الـمَوتِ، أَلشَّوكُ وَالقُرَّاصُ يَزولانِ وَتُنْبِتُ الأرضُ الثِّمارَ وَتُعطي الحَياة. فيَكونُ هذا الحَدثُ تَخليدًا أَبدِيًّا لِذِكرى الرَّبِّ، لِأَنَّ الشَّعبَ سَيعودُ منَ العُبودِيَّةِ حَامِلاً معهُ الخَيراتَ وَالبَركَاتِ، لا فارِغَ اليَدَينِ، مُنتَصِرًا لا مَخذولا، فَرِحًا لا حَزينًا، وَبِسَلامٍ لا بِخَوفٍ. هَذهِ هيَ العَلامَةُ الأَبدِيَّةُ على تَخليدِ اسمِ الرَّبّ، أَنَّهُ قَادرٌ أَن يَهبَ لِشَعْبِهِ الـمُسْتَعبَدِ سِنينَ طويلَةً، الرَّجَاءَ وَالفَرحَ وَالسَّلامَ، فلا شَيءَ يُمكِنُهُ أَن يُضْعِفَ رَجاءَهُ بِالخَلاص.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
تَدعونا كَنيسَتُنا الـمَارونِيَّة إلى بَدْءِ زَمنِ الصَّوم ِالكَبيرِ بِحَفلَةِ عُرسٍ، يَجتَمِعُ فيها الحُبُّ على أَنواعِهِ، حُبُّ العَروسَينِ لِبِناءِ عائِلَةٍ، وَحبُّ الرَّبِّ الَّذي يَهبُ البَركَةَ وَالخَيرَ لِلعَروسَينِ وَللـمَدعُوِّينَ. في هذا الاحْتِفالِ، صَارَ العَروسَانِ جسَدًا واحِدًا (راجع تك 2 / 24) وَالرَّبُّ صَارَ واحِدًا مِنَّا، فَجاءَ لِيَخْدُمَنا بِإِنقاذِ حَفلةِ العُرسِ وَتحْويلِ الـمَاءِ إلى خَمرَةٍ جَيِّدَة.
فقِراءَةُ أشعيا تُرَكِّزُ على مَحبَّةِ الرَّبّ لِشَعبِهِ الـمَعدوم ِفي بِلادِ العُبودِيَّة، وَتَدعوهُ رَغمَ الـمُصيبَةِ لِلاحْتِفالِ وَسطَ الضِّيقَاتِ لِأَنَّ خَلاصَهُ قريبٌ. فَالدُّخولُ إلى الصَّوم هو دُخولٌ إلى حَفلَةِ عُرسٍ، حَيثُ الحُبُّ هوَ الـمُحرِّكُ لِلنَّفسِ وَالجَسَدِ معًا، وَالفرحُ والسَّلامُ أَسَاسيّانِ لِقَضَاءِ الخَمسينَ يومًا في الأَصوام ِوَالإِمَاتاتِ وَالتَّقَشُّفات، وَهيَ مُمارسَاتٌ مُضْنِيَةٌ لِلجَسَدِ. وَلَكِن، الرَّبُّ الَّذي يَرى في الخُفيَةِ هوَ يُجازِينا (متى 6 / 18).