أحد الموتى المؤمنين
سفر حزقيال 37 / 1 - 10
1 وكانَت عَليَّ يَدُ الرَّبِّ فأَخرَجَني بِروحِ الرَّبّ، ووَضَعَني في وَسَطِ السَّهْلِ وهو مُمتَلِئٌ عِظامًا،
2 وأَمرَّني علَيها مِن حوَلها، فإِذا هي كَثيرَةٌ جِدًّا على وَجهِ السَّهلْ، وإِذا بِها يابِسَةٌ جدًّا.
3 فقالَ لي: "يا ٱبنَ الإنْسان، أَتُرى تَحْيا هَذه العِظام؟ " فقُلتُ: "أيُّها السَّيِّدُ الرَّبّ، أَنتَ تَعلَم".
4 فقال لي: "تَنَبَّأْ على هذه العِظام وقُلْ لَها: أَيَّتُها العِظامُ اليابِسَة، اِسمَعي كَلِمَةَ الرَّبّ.
5 هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِهذه العِظام: هاءَنَذا أُدخِل فيكِ روحًا فتَحيَين.
6 أَجعَلُ علَيكِ عَصبًا وأُنشِئُ علَيكِ لَحمًا وأَبسُطُ علَيكِ جِلدًا وأَجعَلُ فيكِ روحًا فتَحيَينَ وتَعلَمينَ أَنِّي أَنا الرَّب.
7 فتَنَبَّأْتُ كما أُمِرتُ. فكانَ صوتٌ عِندَ تَنَبُّؤي، وإِذا بِارتعاش، فتَقارَبَتِ العِظامُ كُلُّ عَظم إِلى عَظمِه.
8 ونَظَرتُ فإِذا بِالعَصَبِ واللَّحمِ قد نَشأَا علَيها، وبُسِطَ الجِلدُ علَيها مِن فَوقُ ولم يَكُنْ بِها روح.
9 فقالَ لي: تَنَبَّأْ لِلرُّوح، تَنَبَّأْ يا ٱبنَ الإِنْسانِ وقُلْ لِلرُّوح: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: هَلُمَّ أَيُّها الرُّوحُ مِن الرِّياحِ الأَربَع، وهُبَّ في هؤُلاءِ المَقْتولينَ فيَحيَوا.
10 فتَنَّبأتُ كما أَمَرَني، فدَخَلَ فيهمِ الرُّوح، فعاشوا وقاموا على أَقْدامِهم جَيشًا عَظيمًا جِدًّا جِدًّا.
مقدّمة
تَتَذكَّرُ كَنيسَتُنا الـمَارونِيَّةُ اليَومَ، جَميعَ إِخوَتِنا وَأَخواتِنا الَّذينَ انْتَقَلُوا مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ الفَانِيَةِ إِلى الحَيَاةِ البَاقِيَة. فَتَخْتَارُ لِهَذِهِ الـمُنَاسَبَةِ، نَصَّ حزقِيَّالَ النَّبيّ عن قِيامَةِ الأَمواتِ أَو إِحياءِ العِظَامِ اليَابِسَةِ، لِتَشْهَدَ لِقُدرَةِ الرَّبِّ عَلى إِقَامَةِ الحَياةِ منَ الفَناء. أَمَّا نَصُّ الرِّسَالَةِ، فَيُحَذِّرُنا مِن اقْتِرابِ يَومِ الرَّبِّ، إِذ يَأْتي كَالسَّارِقِ وَيُشَجِّعَنا عَلى السَّهَرِ وَالسُّلوكِ الحَسَنِ كَأَبْناءِ النُّور (1تس 5 / 1 - 11). وَفي نَصِّ الإِنجيلِ، يَضَعُ لوقَا الإِنجيلِيُّ أَمَامَنا مَشْهَدَ الدَّينونَةِ، فَلَعَازَرُ الَّذي قَضَى حَيَاتَهُ في البُؤْسِ وَالفَقرِ الـمُدْقِعِ يَتَنعَّمُ في أَحضَانِ إِبْراهِيمَ في السَّمَاءِ، أَمَّا الغَنيُّ الـمُتكَبِّرُ فَيَهْلِكُ مِنَ العَذابِ وَالنَّارِ الأَبَدِيَّةِ مَعَ إِبليسَ وَجُنودِهِ (لو 16 / 19 - 31).
حزقِيَّالُ النَّبيُّ عَاصَرَ سُقوطَ أورَشليمَ سنة 587 ق.م. وَمَارَسَ رِسالَتَهُ النَّبَويّةَ بينَ الـمَجلُوّينَ، فَالبَعضُ حَصَرَ مَوقِعَ تَنَبُّؤِه عَلى ضِفافِ نَهرِ كَبار وَالبعضِ الآخَر في بِلادِ بَابِلَ، وَهَذا عَلى الأَرجَحِ، بِالقُربِ من مَدِينَةِ تَلْ أَبِيبْ. كَانَ حَزقِيّالُ كَاهِنًا (راجِع حز 40 - 48)، وَنَالَ كَسَلَفِهِ النَّبيّ أَشَعيا، رُؤْيا مَجدِ الرَّبّ دَاخِلَ الهَيكَلِ (راجِع حز 1 / 4 - 28). وَلَكِنْ بَعدَ خَطيئَةِ أُورَشَليمَ وَتَعَبُّدِها لِلأَوثَانِ، أَبْصَرَ النَّبيُّ مَجدَ الرَّبِّ خَارِجًا منَ الهَيكَل وَمُبْتَعِدًا عَن أُورَشَليمَ (11 / 22 - 23). في وَسَطِ شَعْبِ إِسرائِيلَ الخَائِنِ لِعَهْدِ الرَّبّ، سَيَكونُ حَزقِيَّالُ النَّبِيُّ الرَّقِيبَ السَّاهِرَ عَلى إِنذارِ الخاطِئِ وَارْتِدَادِهِ، وَالـمَسْؤُولُ عَن إِنذَارِ الشِّريرِ وَتَوبيخِهِ لِئَلاَّ يَهْلِك.
سَقَطَت أُورَشَليمُ في يَدِ نَبوكَدنصَّرَ مَلِكِ بَابِل، فَخَرَّبَها وَأَحْرَقَهَا وَقَتَلَ العَديدَ من سُكَّانِهَا وَجَلَى الآخَرينَ. عَاشَ حَزقِيَّالُ معَ شَعْبِ اللهِ الـمَجْلُوِّ وَعَانَى مَعهُم أَشَدَّ الأَحْزانِ مِنَ الجوعِ وَالفَقْرِ وَأَلَمِ الابْتِعَادِ عَنِ الأَرضِ وَالهَيكَل. كَانَت حَربُ البابِلِيِّينَ كَحَربِ فَناءٍ لِأورَشَليمَ وَإِسرائِيلَ. فَـمَا كَانَ عَلى النَّبيِّ، إِلاَّ أَن يَقومَ من كَبْوَتِهِ وَيُشَجِّعَ الشَّعبَ بِأَنَّ خَلاصَ اللهِ قَريبٌ، وَبِأَنَّ الرَّبَّ حَفِظَ "بَقِيَّةً" لِيَومِ الخَلاص، وَمَهمَا نَقَصَ الشَّعبُ وَفَنَى في الحَربِ، فَالرَّبُّ قَادِرٌ أَن يُقِيمَهُ مِنَ الـمَوتِ وَيُحْيِي العِظامَ اليابِسَةَ، بِقُوَّةِ روحِهِ القدُّوسِ.
تفسير الآيات
1 وكانَت عَليَّ يَدُ الرَّبِّ فأَخرَجَني بِروحِ الرَّبّ، ووَضَعَني في وَسَطِ السَّهْلِ وهو مُمتَلِئٌ عِظامًا،
2 وأَمرَّني علَيها مِن حوَلها، فإِذا هي كَثيرَةٌ جِدًّا على وَجهِ السَّهلْ، وإِذا بِها يابِسَةٌ جدًّا.
إِنَّ "روحَ الرَّبِّ" هُوَ الفَاعِلُ في هَذَا الـمَشْهَدِ الرُّؤيَوِيِّ، فَكلِمةَ "رُوَحْ" العِبْرِيَّةَ هِيَ أَسَاسِيَّةٌ في هَذا النَّصِّ، إِذْ تَرِدُ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَلا شَيءَ يَتحَرَّكُ أَو يَحْصَل إِلاَّ بِقُدْرَتِها الـمُحْيِيَة. كُلُّ مَا يَحْدُثُ في هَذَا الـمَشْهَدِ، يَحْصَلُ في الخَارِجِ، في السَّهْلِ، حَيثُ سَبَقَ النَّبيُّ وَنَالَ الرُّؤْيا الأُولَى (راجع حز 3 / 22). وَلَكِن الرُّؤيا الجَديدَةَ هُنا، تَجْعَلُ منَ السَّهلِ مَقْبَرةً لِعِظامِ الـمَوتَى. هَذِهِ العِظَامُ اليَابِسَةُ هِيَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ بِأَجْمَعِهِم، إِذْ صَرَخوا لِلرَّبِّ مِنْ قَسَاوَةِ الحَربِ الَّتي قَتَلَتْ فِيهِمِ الجَسَدَ وَالرُّوحَ مَعًا. عِظَامُهُم يَابِسَةٌ جِدًّا، ما يَعْنِي أَنَّ الوَقْتَ مرَّ عَلَيْهَا فَفُقِدَتْ مِنها الحَيَاة وَالرَّجَاء (راجِع حز 37 / 11).
أَمَرَّ الرُّوحُ حَزقِيَّالَ مِن حَولِهَا وَعَلَيْها، لِيُعْطِيَهُ قُدْرَةً عَليهَا جَميعًا، وَلِيُرِيهِ كَثْرَةَ عَدَدِها وَاليَباسَ الَّذي أَعْدَمَ فيها الحَيَاة. بِقُوَّةِ الرُّوحِ خَرَجَ النَّبِيُّ إِلى السَّهْلِ بِـمَهَمَّةِ إِحْيَاءِ عِظامٍ يَابِسَة.
3 فقالَ لي: "يا ٱبنَ الإنْسان، أَتُرى تَحْيا هَذه العِظام؟ " فقُلتُ: "أيُّها السَّيِّدُ الرَّبّ، أَنتَ تَعلَم".
4 فقال لي: "تَنَبَّأْ على هذه العِظام وقُلْ لَها: أَيَّتُها العِظامُ اليابِسَة، اِسمَعي كَلِمَةَ الرَّبّ.
ألرُّوحُ يُخْرِجُ النَّبيُّ حزقِيّال إِلى السَّهلِ وَيُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلى العِظَامِ اليَابِسَة، لِيَخْلُقَها من جَديدٍ فَيَخْلُقَ معَها جَماعَةَ إِسْرائِيلَ، الَّتي قُضِيَ عَلَيها في الحَرب. إِنَّ سُؤالَ الرَّبِّ أَو مَلاكِهِ لِلنَّبيّ في الآيةِ 3، هُوَ من جِهَةٍ أُولَى إِمتِحَانٌ لِإيمَانِهِ، وَمنْ جِهةٍ ثَانِيَة تَحْضِيرٌ لإِظْهَارِ قُدْرَةِ الرَّبّ بِإِرْجَاعِ الأَمَلِ حَيْثُ فُقِدَ، وَبِإِحْياءِ عِظَامٍ بَلَغَتِ الفَناء. حَزقِيّالُ يُسَلِّمُ الجَوابَ إِلى الرَّبّ، لِأَنَّ هَذا العِلمَ هُوَ أَكْبَرُ من صِغَرِ الإِنسانِ وَمَحْدودِيَّةِ مَعْرِفَتِه.
أَمَّا السُّلطانُ الَّذي أَعطاهُ الرَّبُّ لِلنَّبيّ هوَ النُّبوءَةُ، أَيْ نَقْل كَلِمَةِ الرَّبّ، هُنا إِلى العِظَامِ اليَابِسَة. فَيُنادِيها بِاسْمِها آمِرًا إِيَّاهَا: "أَيَّتُها العِظامُ اليابِسَة، اِسمَعي كَلِمَةَ الرَّبّ". هُنا تَظْهَرُ قُدْرَةُ كَلمَةِ الرَّبِّ إِذْ لَها سُلطانٌ عَلى الـعِظَامِ الَّتي لا آذَانَ لَها وَلا مَعْرِفَة.
5 هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِهذه العِظام: هاءَنَذا أُدخِل فيكِ روحًا فتَحيَين.
6 أَجعَلُ علَيكِ عَصبًا وأُنشِئُ علَيكِ لَحمًا وأَبسُطُ علَيكِ جِلدًا وأَجعَلُ فيكِ روحًا فتَحيَينَ وتَعلَمينَ أَنِّي أَنا الرَّب.
7 فتَنَبَّأْتُ كما أُمِرتُ. فكانَ صوتٌ عِندَ تَنَبُّؤي، وإِذا بِارتعاش، فتَقارَبَتِ العِظامُ كُلُّ عَظم إِلى عَظمِه.
8 ونَظَرتُ فإِذا بِالعَصَبِ واللَّحمِ قد نَشأَا علَيها، وبُسِطَ الجِلدُ علَيها مِن فَوقُ ولم يَكُنْ بِها روح.
نُلاحِظُ تَكْرارَ العِبَارَةِ "فيكِ روحًا فَتَحْيَيْن"، إِذْ بِالرُّوحِ فَقَط تَحْيَا العِظَام. أَمَّا الأُمورُ البَاقِيَةُ، العَصَبْ، اللَّحم وَالجِلد، فَهُمْ عَلامَةُ الحَياةِ الخَارِجِيَّة. لَمْ تَتِمَّ عَوْدَةُ الحَياة إِلاَّ بِكَلِمةِ النَّبيِّ، فَأَطاعَتْهُ. هُنا يَظْهَرُ دَورُ النَّبيِّ الفعَّالِ في مَشْروعِ الرَّبّ الخَلاصِيِّ لِشَعْبِهِ.
هَذِهِ الصُّورَةُ عن تَقَارُبِ العِظامِ وَنَشْأَةِ الجِلد وَاللَّحمِ عَليها، تَدُلُّ من جِهَةٍ، عَلى عَودَةِ الشَّعْبِ وَتَحَوُّلِهِ من حَالَةِ الانْقِسَامِ بينَ مَملَكتَينِ إِلى حَالَةِ الوِحدَةِ في الطَّاعَةِ لِكَلمةِ الرَّبّ. وَمن جِهةٍ ثَانِيَة على استِعَادَةِ جَمالِهِ الَّذي شَوَّهَتهُ الخَطيئَة، فَفقَدَ الجِلدَ وَاللَّحمَ، أَي الكَرامةَ وَالعِلمَ، فَظَهرَ عُريَهُ وَبَشَاعَتَهُ واضِحًا على عُيونِ الجميعِ، فَتبَدَّلَتْ كَرامَتهُ بِعُريِ عِظامِهِ وَمَعرِفَتهُ بِيَباسِهِ الشَّديدِ فَالـمَوت.
9 فقالَ لي: تَنَبَّأْ لِلرُّوح، تَنَبَّأْ يا ٱبنَ الإِنْسانِ وقُلْ لِلرُّوح: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: هَلُمَّ أَيُّها الرُّوحُ مِن الرِّياحِ الأَربَع، وهُبَّ في هؤُلاءِ المَقْتولينَ فيَحيَوا.
10 فتَنَّبأتُ كما أَمَرَني، فدَخَلَ فيهمِ الرُّوح، فعاشوا وقاموا على أَقْدامِهم جَيشًا عَظيمًا جِدًّا جِدًّا.
أَمَّا وَقَد تَرَمَّمَ الشَّكلُ الخارِجِيُّ، تحَضَّرَ الجَسَدُ لِاسْتِقبالِ الرُّوحِ الـمُحْيِي. أَلرُّوحُ وَحْدَهُ سَيُعيدُ شَعبَ إِسرائيلَ من بُلدانِ شَتاتِهِ، الـمُتتَشِرةِ في الأَقطارِ الأَربَعةِ، وَيَسكُنَ فيهم لِيُولِّدَ فيهِم الحَياةَ من جَديد. وَقُوَّةُ الحياةِ هيَ قِيامَةٌ وَوُقوفٌ على الأَقدامِ علامةَ الانتِصَارِ على الموتِ وَالظُّلم وَالخَوف.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
يَعتَرِفُ العهدُ القَديمُ بِقيامةِ الأمواتِ، بِقُوَّةِ روحّ الرَّبّ الخالِقَةِ وَالـمُجَدِّدَةِ لِلحياة. وَهذا هوَ رَجاؤُنا الَّذي نُعَبِّرُ عنهُ بِقَولِنا جَهرًا: "ألمسيحُ قَام! حقًّا قام!"
هَذِهِ القِراءةُ من سِفرِ حزقيَّال تُوَلِّدُ فينا الرَّجاءَ وَتُذكِّرُنا بِقُدرةِ الرُّوحِ الـمُحيِيَةِ، حتَّى في الظُّروفِ الصَّعبةِ وَالـمُسْتَحيلَةِ، إِذ من عِظامٍ يابِسَةٍ مُبَعثرةٍ أَعادَتِ النِّظامَ إِلى الجَسَد وَأَحْيَتِ النَّفسَ.