الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-02-03
3 فيَقولُ بَعضهم لِبَعضٍ نادمين ونائحينَ مِن ضيقِ صُدورِهم:
4 "هُوَذا الَّذي كُنَّا حينًا نَجعَلُه ضُحكَةً ومَوضوعَ تَهَكُّمٍ نَحنُ الأَغْبِياء! لقَد حَسِبْنا حياتَه جُنونًا وآخِرَتَه عارًا.
5 فكَيفَ أَصبَحَ في عِدادِ بَني الله وصارَ نَصيبُه مع القِدِّيسين؟
هُنَا يَنتَقِلُ مَشْهَدُ الدَّينونَةِ إِلى جَوقِ الأشْرارِ الَّذينَ ضَايَقُوا البارّ وَاحتَقَرُوا أَفعَالَهُ الـمُتواضِعَةِ. في يَومِ الدَّينونَةِ تَظْهَرُ أَعْمَالُ كُلِّ إِنسَانٍ بِوضوحٍ وَتَظْهَرُ علاماتُ الفَرَحِ وَالرِّضَى عن الذّات أَو عَلاماتُ الحُزنِ وَالنَّدَامَة. ألأَبْرارُ وَقَفُوا في يَومِ الدَّينونَةِ بِجُرأَةٍ عَلامةَ رِضَاهُم عَن أَعْمَالِهم، بَيْنَما الأَشْرارُ فَكَانوا نادِمينَ نائِحينَ مِنَ الأَلمِ الـمُتأَتّي من قُلوبَهُم القَاسِيَة.
يَصِفُ مُؤَلِّفُ هَذا النَّصّ، مَشْهَدُ "الدّينونَةِ الأَخيرَة" بِمَشْهَدٍ مَسْرَحِيٍّ فيه: يُؤَلِّفُ الأَبْرارُ وَالأَشْرارُ جَوقَانِ، فَالأَبْرارُ من جِهةٍ لا يَتكَلِّمونَ، بَل يَقِفونَ صَامِتينَ مُنتَصِرينَ، يَرفَعونَ أَنظَارَهُم بِجُرأَةٍ بِوُجوهِ أَعْدائِهم. وَالأَشْرارُ مِن جِهَةٍ أُخْرَى يَنوحونَ نَدامَةً عَلى ما فَعَلوهُ ضِدَّ هَؤُلاءِ الأَبْرار.
وَقْفَةُ البارِّ الجَريئَةِ أَصْبَحَت لِأَعْدَائِهِ كَـمِرآةٍ كَشَفَت لَهُم فَظَاعَةَ أَعـمَالِهِم، فَبَاتُوا تَحْتَ رَحمَةِ النَّدامَةِ وَالتَّأَسُّفِ وَالتَّعجُّب وَلَكِن بِدونِ فَائِدَةٍ. فَيَومُ الدَّينونَةِ هُوَ يَومُ الحُكْمِ الأَخير، وَلا مَجَالَ لِلرُّجوعِ إِلى الوَراءِ. أَلبارُّ أُحْصِيَ مَعَ أَبناءِ الله وَالقدّيسينَ، أَمَّا الأَشْرارُ فَبَاتُوا في أَلمِ التَّحسُّرِ لِأَنَّهُم تَصَرَّفُوا بِغَبَاءٍ وَحَكَموا عَلى البارِّ وَحَياتِهِ بِالجُنونِ وَالعَار. بِمَا حَكَمَ الأَشْرارُ على البارِّ، حُكِمَ عَلَيهِم بِه: حَسِبوهُ غَبِيًّا، لَكن في الحَقيقَةِ كَانوا هُم الأَغْبياء، ضَحِكوا وَهَزِئُوا بِهِ كرَجُلٍ خَاطئٍ، أَمَّا الحَقيقَةُ هِيَ أَنَّهُم هُمْ الـمُسْتَحِقّونَ العَارَ وَالهُزءَ، لِأَنَّ قُلوبَهُم رَذَلَتِ الحِكمَةَ الحَقَّةَ، فَسَقَطُوا تَحتَ نيرِ خَطَاياهُم الثَّقيل.
6 لقَد ضلَلْنا عن طَريقِ الحَقّ ولم يُضِئْ لَنا نوُر البِرّ.
8 فماذا نَفَعَتْنا الكِبْرِياء؟ وماذا أَفادَنا الغِنى الَّذي كُنَّا نَفتَخِرُ بِه؟"
هَاتَانِ الآيَتَانِ هُما بِمَثابَةِ اعْتِرافٍ عَن ضَلالِهِم. فَالآيَةُ 6 تُوضِحُ أَنَّ النُّورَ الَّذي يُنيرُ ضَمائِرَ الأَشْرارِ لَيسَ نورُ الحَقيقَةِ بَل نورُ الظُّلْمَةُ. هَذا ما يُنَبِّهُنا مِنهُ الرَّبُّ يَسوع قَائِلاً: "تَنَبَّه إِذًا لِئَلاَّ يَكونَ النُّورُ الَّذي فيكَ ظَلامًا" (لو 11 / 35). وَاعْتَرَفوا أَنَّ الغِنَى وَالكِبْرِياءَ كَانَا سِراجَهُم في دُروبِ حَيَاتِهِم، وَهَاتانِ الآفَتَانِ لا تُضِيئَانِ نُورًا بَل تَنْشُرَا الظُّلمَةَ وَالضَّياع. فَالكِبْرِياءُ هيَ أعظَمُ الخَطايا، فيهَا يَتجَبَّرُ قَلبُ الإِنسانِ وَيُضْحي قَاسِيًا، مُظْلِمًا، مُتَعَجْرِفًا. وَالغِنَى أَيْضًا، يُقَسّي قَلبَ الإِنسَانِ، فَيُضْحي ضَحِيَّةَ الـمَالِ وَخَادِمًا لَهُ. يُحَذِّرُنا الرَّبّ يَسوعُ من خَطرِ الغِنى وَالـمَال، فيَقول: "مَا أَصْعَبَ على الأَثرِياءِ أَن يَدْخُلوا مَلكوتَ الله! إِنَّهُ لأَسْهَلُ أَن يَدْخُلَ جَملٌ في خِرْم الإِبْرَةِ، مِن أَن يَدخُلَ غَنِيٌّ مَلَكوتَ الله" (مر 10 / 24 - 25).
إِنَّهُ حَقًّا مَدْعَاةً لِلتَّعَجُّبِ، مُنذُ قُرونٍ بَعيدَةٍ اعْتَرَفَ الأَشْرارُ بِصِدقٍ، أَنَّ كِبْرياءَهُم وَحُبُّهُم لِلمَالِ وَالغِنى أَودُوا بِهِم إِلى الهَلاك، فَلِمَاذا مَا زَالَ الأَشْرارُ مُصِرّونَ عَلى خَطيئَتِهِم وَعلى العَيشِ في الظُّلمَةِ وَالتَّحَسُّر؟ كَلامُ الرَّبِّ يَسوعَ وَاضِحٌ في هَذا الشَّأن: "يَذْهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذَابِ الأَبَدِيّ، والأَبْرَارُ إِلى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّة" (متى 25 / 46).
15 أَمَّا الأَبْرارُ فسيَحيَونَ لِلأَبَد وعِندَ الرّبِّ ثَوابُهم ولهم عِنايةٌ مِن لَدُنِ العَلِيّ.
16 فلِذلكَ سيَنالونَ إِكْليلَ البَهاء وتاجَ الجَمالِ مِن يَدِ الرَّبّ لأنه بِيَمينِه يَحْميهِم وبذِراعِه يَسترُهم.
نَعودُ إِلى جَوقِ الأَبْرارِ الَّذينَ لا يَتَكَلَّمونَ، بَل يَتَنَعَّمونَ، وَالكَاتِبُ يَصِفُ فَرحَهُم وَالجَزاءَ الَّذي اسْتَحَقُّوهُ. هُم دَخَلوا الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ، حَيثُ سَيَحْيَونَ لِلأَبد في ظِلِّ عِنايَةِ الرَّبِّ، مِنهُ يَنَالونَ مُكَافَأَةَ جِهَادِهم وَيَكُونوا مُظَلَّلِينَ في حِمَى سِتْرِهِ.
يَدُ الرَّبّ، يَمينُهُ وَذِرَاعُهُ كُلُّ هَذِهِ التَّفاصِيل الـمُتَعَلِّقَةِ بِذِراعِ الرَّبّ اليُمْنى رَمزٌ لِعِنايَتِهِ الفَائِقَةِ بِأَبْرارِهِ، فَالمزمور 91 يَصِفُ مَنْ يَسْكُنُ في سِتْرِ الرَّبّ العَليّ وَالعِنايَةُ الَّتي يَنعَمُ بِها. إِكليلُ البَهَاءِ وَتاجُ الجَمالِ هُم مُكافَأَةُ جِهَادِهِم وَعَناءِهم، يقولُ القِدّيس بولس الرَّسولُ في مَسَاءِ حَياتِهِ بِخِدْمَةِ الرَّب: "وَالآنَ، فَإِنَّهُ مَحفوظٌ لي إِكليلُ البّر، الَّذي سيُجازينِي بِهِ في ذَلكَ اليَوم الرَّبُّ الدّيانُ العَادِل، لا أَنا وَحدي، بَل أَيضًا جَميعَ الَّذينَ يُحِبُّونَ ظُهورَهُ" (2طيم 4 / 8).