الأحد الثالث بعد الدِّنح
سِفْر العدد 21 / 4 - 9
4 ثُمَّ رَحَلوا مِن جَبَلِ هور، على طَريقِ بَحرِ القَصب، لِيَدوروا مِن حَولِ أَرضِ أَدوم، فنَفَدَ صَبرُ الشَّعبِ في الطَّريق.
5 وتَكَلَّمَ الشَّعبُ على اللهِ وعلى موسى وقالوا: "لِماذا أَصعَدتَنا مِن مِصرَ لِنَموتَ في البَرِّيَّة؟ فإنَّه لَيسَ لَنا خُبزٌ ولا ماءٌ، وقد سَئِمَت نُفوسُنا هَذا الطَّعامَ الزَّهيد".
6 فأَرسَلَ الرَّبُّ على الشَّعبِ الحَيَّاتِ اللاَّذعة، فلَدَغَتِ الشَّعبَ وماتَ قَومٌ كَثيرونَ من إِسْرائيل.
7 فأَقبَلَ الشَّعبُ على موسى وقالوا:"قد خَطِئنا، إِذ تَكَلَّمْنا على الرَّبِّ وعلَيكَ، فصلِّ إِلى الرَّبِّ فيُزيلَ عَنَّا الحَيَّات". فصَلَّى موسى لأَجلِ الشَّعْب.
8 فقالَ الرَّبُّ لِموسى: "اِصنَعْ لَكَ حَيَّةً لاذِعَةً وٱجعَلْها على سارِية، فكُلّ لَديغٍ يَنظرُ إِلَيها يَحْيا".
9 فصَنَعَ موسى حَيَّةً مِن نُحاس وجَعَلَها على سارِيَة. فكانَ أَيُّ إِنْسانٍ لَدَغَته حَيَّةٌ ونَظَرَ إِلى الحّيَّةِ النُّحاسِيَّةِ يَحيا.مقدّمة
في هذا الأحد الثَّالث، وَالأَخير من زمَنِ الدِّنحِ لِهَذِهِ السَّنةِ اللِّيتورجِيَّة، تَدعونا الكَنيسَةُ الـمَارونِيَّةُ لِلتَّأَمُّلِ بِاعْتِلانِ سرِّ الرَّبِّ يسوع لِنيقودِيمُس، وَمن خِلالِهِ لِلشَّعْبِ اليَهودِيّ الـمُتَقَلِّبِ في قَرارِ إِيمانِهِ بيَسوعَ كَـمُخَلِّص، وَالخَائِفِ من رُؤَسَاءِهِ الرّوحِيِّينَ غيرِ الـمُؤمِنينَ. وفي نصِّ الرّسَالةِ إلى أَهلِ غَلاطيَة، يُعْلِنُ بولُسُ الرَّسول نِهَايَةَ عَهْدِ الشَّريعَةِ وَبِدايَةَ عَهدِ الإيمان بيسوعَ المسيحِ ابنِ الله. فَالشَّريعَةُ انْتَهى دَورُهَا التَّأديبيُّ الَّذي حَاوَلَ الحِفَاظَ على أَنظِمَةٍ قَادَتِ الشَّعبَ نحوَ الإيمانِ بِالمسيح، الَّذي بِـمَجيئِهِ بَدَأَ عهدُ الإيمانِ الـمُؤَسَّسِ على الوَعْدِ بالخلاص. أَمَّا نصُّ قراءَةِ سفرِ العَدَد، فَهوَ حدَثٌ تُعْتَلَنُ فيهِ قُوَّةُ الإيمَانِ بِالرَّبِّ القَادِرِ، من خلالِ تِمثَالِ الحيَّةِ النُّحَاسِيَّةِ، أَن يَشْفي الـمُصَابينَ الـمُؤْمِنينَ بهِ. وَيَلْتَقي هذا النَّصُّ مع نصِّ الإنجيل، حينَ يقولُ يسوع لنيقوديموس: "وكَمَا رَفَعَ مُوسَى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة، كَذلِكَ يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَان، لِكَي تَكُونَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ حَيَاةٌ أَبَدِيَّة" (يو 3 / 14 - 15). وَيَلتَقي معَ نصِّ الرِّسالةِ، إِذ طَلَبَ الرَّبُّ منَ الشَّعبِ أن يُؤْمِنُوا فقَط لِيُشْفُوا، لا أَن يُطَبِّقوا شَرائِعَ مُدَوَّنةً على أَلواح. معَ الـمَسيحِ الرَّبّ، حَلَّ عَهدُ الإِيـمَانِ الـمُنْبَثِقِ من أَعماقِ الإِنسانِ، فَالرَّبُ لا يُحِبُّ الحَرفَ بَل الرُّوحَ، هذا هوَ سرُّ المسيح الـمُعْتَلَن لنيقُودِيموسَ وَلِلشَّعْبِ اليَهودِيِّ اليَوم.
تفسير الآيات
4 ثُمَّ رَحَلوا مِن جَبَلِ هور، على طَريقِ بَحرِ القَصب، لِيَدوروا مِن حَولِ أَرضِ أَدوم، فنَفَدَ صَبرُ الشَّعبِ في الطَّريق.إِطَارُ هَذا النَّصِّ هوَ السَّيرُ في الصَّحْرَاءِ نَحوَ أَرضِ الـمِيعَاد. جَبَلُ هُور، هُوَ الـمَكَانُ الَّذي مَاتَ فيهِ هَارونُ وَدَفَنَهُ موسَى وَأَلِعَازَرَ ابْنَهُ (عد 20 / 22 - 29؛ 33 / 39). ومَرُّوا في َطَريقُ بَحرِ القَصَبِ أَي عَلى ضِفَافِ البحرِ الأَحْمَر عَبْرَ صَلْحونَةَ وَفونونَ وَهِيَ مَناطِقٌ كانَت مَشْهُورَةٌ بِتَعْدين وَصَهْرِ النُّحَاس، بين سَنَتَي 1200 – 900 ق.م. (راجِع عد 33 / 41 - 42).
إِنَّ طَبْعَ الشَّعبَ الإِسْرَائِيلِيَّ لَمْ يَتَغَيَّر، رَغْمَ خَلاصِ الرَّبِّ لَهُم مِنَ الـمِصْرِيِّينَ وَالعُبُودِيَّةِ. أَيْضًا، فَقَط، مِن ثلاثِ آيَاتٍ (عد 21 / 1 - 3) حَقَّقَ الرَّبُّ لَهُم النَّصْرَ عَلى الكَنْعَانِيِّينَ وَاسْتَوْلُوا عَلى حُرْمَةَ، وَمَا زَالَتْ قُلوبُهُم قَاسِيَةً وَأَذْهَانُهُم مُغْلَقٌ عَلَيْهَا. هَذَا الشَّعْبُ مُتَمَرِّدٌ أَبَدًا عَلى الرَّبّ، فَلا صَبْرَ عِنْدَهُ.
5 وتَكَلَّمَ الشَّعبُ على اللهِ وعلى موسى وقالوا: "لِماذا أَصعَدتَنا مِن مِصرَ لِنَموتَ في البَرِّيَّة؟ فإنَّه لَيسَ لَنا خُبزٌ ولا ماءٌ، وقد سَئِمَت نُفوسُنا هَذا الطَّعامَ الزَّهيد".
6 فأَرسَلَ الرَّبُّ على الشَّعبِ الحَيَّاتِ اللاَّذعة، فلَدَغَتِ الشَّعبَ وماتَ قَومٌ كَثيرونَ من إِسْرائيل.
عِنْدَمَا تَمَرَّدَ الشَّعْبُ سَابِقًا ضِدَّ الرَّبِّ وَموسَى، بِسَبَبِ الطَّعَامِ، أَمْطَرَتِ السَّـمَاءُ لَهُم الـمَنَّ وَالسَّلوَى وَاللَّحْم (عد 11 / 4 - 35). فَبَعْدَ مُرورِ الزَّمَنِ، بَدَأَ الشَّعْبُ يَتذَمَّرُ مِن هَذا الطَّعَام، فَقَالوا عَنهُ "زَهيدًا" أَيْ سَخيفًا وَبَائِسًا، لا شِبَعَ فيهِ كَحِصَصِ الـمَجَاعَةِ، أَيْ فقط لِسَدِّ الجُوعِ.
أَمَّا هَذِهِ الـمَرَّةُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ تَذَمُّرَهُم هُوَ تَجْرِبَةٌ لِلرَّبِّ وَعَلامَةٌ عَلى تَعَجْرُفِهِم وَتَـمَرُّدِهِم ضِدَّ الرَّبّ، فَكانَ الجَوابُ العِقَابُ بِالـمَوت، بِلَدْغَةِ حَيَّاتٍ لاذِعَةٍ خَرَجَت مِنَ الصَّحْرَاءِ. في هَذِه الآيَةِ، كَلمةُ "حيَّة" في اللُّغةِ العِبْرِيَّةِ هِيَ سِرَاف مِن فِعْل سَرَاف وَيَعني "يُحْرِق". وَبِهَذَا التَّشْبيه لِلَدْغَةِ الحيَّةِ "حَرِيق"، يُعَاقِبُ الرَّبُّ الشَّعبَ الـمُتمَرِّدَ بِسَمِّ حَيَّاتٍ قَاتِلَةٍ. ألبُحوثُ الأَركِيولوجِيَّةُ الحَدِيثَةُ بَيَّنَتْ أَنَّ تِلْكَ البُقْعَةَ مِنَ الأَرضِ تَحْوِي بَقَايَا حَيَّاتٍ لاذِعَةٍ، "copper snake" بِطول 13 سنتمترًا بالَّلونِ النُّحَاسِيِّ الأَحْمَر.
7 فأَقبَلَ الشَّعبُ على موسى وقالوا:"قد خَطِئنا، إِذ تَكَلَّمْنا على الرَّبِّ وعلَيكَ، فصلِّ إِلى الرَّبِّ فيُزيلَ عَنَّا الحَيَّات". فصَلَّى موسى لأَجلِ الشَّعْب.
يَسْتَعْمِلُ الشَّعْبُ صِيغَةَ التَّوبَةِ نَفْسِهَا الَّتي اسْتَعْمَلَها هارونُ وَمَريَمَ عِنْدَمَا خَطِئَا ضِدَّ الرَّبِّ وَنَبِيِّهِ موسَى "قد خَطِئنا، إِذ تَكَلَّمْنا على الرَّبِّ وعلَيكَ، فصلِّ إِلى الرَّبِّ" (عد 12 / 11). وَمِن مَهَمَّاتِ النَّبِيِّ، أَلصَّلاةُ وَالتَّشَفُّعُ أَمَامَ الرَّبِّ لِأجْلِ الشَّعْبِ، رَغْمَ تَذَمُّرِ وَثَرْثَرةِ الشَّعْبِ مِنْهُ وَعَلَيْه. كَانَ على موسَى، كَمَا كافَّةِ الأَنبِيَاءِ، أَلاَّ يَأْخُذوا بِعَيْنِ الاعْتِبَارِ خَطَايا الشَّعبِ حينَ يَطلُبُوا مِنهُم أَن يَتَشَفَّعوا لِأَجْلِهِم أَمامَ الرَّبّ. لِذَا، صَلَّى موسَى لِلرَّبِّ من أَجلِ الشَّعب.
8 فقالَ الرَّبُّ لِموسى: "اِصنَعْ لَكَ حَيَّةً لاذِعَةً وٱجعَلْها على سارِية، فكُلّ لَديغٍ يَنظرُ إِلَيها يَحْيا".
9 فصَنَعَ موسى حَيَّةً مِن نُحاس وجَعَلَها على سارِيَة. فكانَ أَيُّ إِنْسانٍ لَدَغَته حَيَّةٌ ونَظَرَ إِلى الحّيَّةِ النُّحاسِيَّةِ يَحيا.
كَانَتِ التَّقَاليدُ القَديمَةُ وَخَاصَّةً عِنْدَ الشُّعوبِ الوثَنِيَّةِ، تَجْعَلُ رَسْمًا لِلكَائِنَاتِ الـمُسِمَّةِ وَالخَطِيرَةِ، يَسْتَخْدِمونَهَا كَتَعْويذَةٍ ضِدَّ شَرِّ الكَائِناتِ عَيْنِهَا. في أَيَّامِنَا نَجِدُ أَيضًا هَذِهِ الـمُمَارَسَاتِ عِندَ الأَكْراد وَغَيْرِهِم. عِنْدَ الشَّعبِ العِبْرَانيِّ، نَجِدُ مُمارَسَاتٍ مُشَابِهَةٍ وَاعْتِقَادَاتٍ وَثَنِيَّةٍ اكْتَسَبوهَا مِنَ الشُّعوبِ الَّتي عَاشُوا في جِوارِهَا. نَذْكُرُ مِنْهَا: إسْتِعْمَال النَّباتِ الـمُرّ لِتَحْلِيَةِ الـمِيَاهِ الـمُرَّة (خر 15 / 15)؛ إِسْتِعْمالِ الـمِلح لِتَحْلِيَةِ الـمِيَاهِ الـمَالِحَةِ (2مل 2 / 21). وَلَنَا قَولاً شَعْبِيًّا عَرَبِيًّا في هَذَا الصَّدَد: "مَا بيحَلِّي الـمُرّْ، إِلاَّ الأَمَرّْ مِنُّو".
أَمَّا الرَّبّ، فَطَلَبَ مِنْ موسَى أَنْ يَصْنَعَ حَيَّةً لاذِعَةً، لِكَي كُلُّ لَديغٍ يَنْظُرُهَا يَنالَ الشِّفَاءَ. فَالشِّفَاءُ هُنا أَو التَّحَوُّلُ لَا يَتِمُّ بِوَاسِطَةِ اللَّمْسِ الـمُبَاشَرِ، كَـمَا كَانَ يِتِمُّ في الحَالاتِ الـَّتي ذَكَرْنَاهَا، بَلْ يَتِمُّ بِالإِيمَانِ بِأَنَّ الله هُوَ الَّذي جَعَلَ في الحَيَّةِ النُّحَاسِيَّةِ شِفَاءً. فَلَدْغَةُ الأَفَاعِي هيَ عِقَابٌ عَلى تَذَمُّرِ الشَّعبِ ضِدَّ الرَّبِّ وَنَبِيِّهِ وَعَلى خَطَاياهُم (آ5)، أَمَّا قُدْرَةُ الحَيَّةِ النُّحَاسِيَّةِ فَهِيَ قُدْرَةُ الرَّبّ الفَاعِلَةِ فيهَا وَهِيَ رَمزٌ لِخَلاصِ الرَّبّ. إِنَّ الإِنجِيلِيّ يوحَنَّا يَسْتَعْمِلُ رَمزَ الحَيَّةِ النُّحَاسِيَّةِ الـمَرْفُوعَةِ، لِيَرْمُزَ إِلى رَفعِ صَليبَ الـمَسِيحِ إِذْ يَقُول: "وَكَما رَفَعَ موسَى الحَيَّةَ في البَرّيَة، فَكذَلكَ يَجِبُ أن يُرفَعَ ابْنُ الإِنسَان" (يو 3 / 14).
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
بِرَفْعِ الحَيَّةِ النُّحَاسِيَّةِ، شُفِيَ الشَّعبُ الَّذي لَدَغَتهُ الحَيَّاتُ اللاَّذِعَةُ، إِذ آمَنَ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ. نَرَى كَيفَ أَنَّ العَهْدَ القَدِيمَ حَضَّرَ بِتَفَاصِيلِ أَحْدَاثِهِ، لِـمَجيءِ الرَّبِّ يَسوعَ وَلِـعَهْدِ تَحَوُّلِ قَلبِ الشَّعْب لِيَنْفَتِحَ على سِرِّ الإِيـمَانِ. هَذا هوَ التَّحوُّلُ الَّذي جَاءَ يَطْلُبُهُ نيقوديموسُ ليلاً عِندَ يسوعَ، بِخَوفٍ وَبِإِيمانٍ مُضطَرِب، لِأَنَّهُ مَا زَالَ رَازِحًا تحتَ أَحْكَامِ الشَّريعَةِ القَدِيمَةِ.
قِرَاءةُ سِفْرِ العَدَدِ تُظْهِرُ لَنَا، أَنَّنا بِبَشَرِيَّتِنا الضَّعيفَةِ نحنُ مُعَرَّضُونَ لِإِنْكَارِ عَطَايَا الرَّبّ لِسَبَبٍ تَافِهٍ، هُنا الطَّعَام. مَسيرَةُ الصَّحْراءِ وَكُلُّ مَا تَخَلَّلَهَا مِنْ عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الرَّبِّ، عَادَ الشَّعْبُ يَتَحَسَّرُ لِسِنِي العُبودِيَّةِ في مِصْرَ! ألشَّعْبُ العِبْرَانِيُّ هُوَ صُورَةٌ عَن كُلِّ مُؤْمِنٍ قَاسيَ القَلْبِ وَمُتَـمَرِّدٍ عَلى الرَّبّ. لِأَجْلِ تَرْميمِ قُلوبِنَا وَطَبيعَتِنا البَشَرِيَّةِ، كَانَ عَلى الرَّبِّ يَسوعَ أَن يَتجَسَّدَ وَيَجْعَلَ لَنا مِنَ الـمِيَاهِ رَحِمًا لِلوِلادَةِ بِالرُّوحِ وَالإِيـمَان، أَبْناءً لِلآب.