الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-01-13
5 "قبل أن أصوِّرَك في البطنِ عرفتُك وقبل أن تخرجَ من الرّحمِ قدَّستُك وجعلتك نبيًّا للأمم".
6 فقلتُ: "آهِ أيُّها السّيِّدُ الرَّبّ هاءنذا لا أعرف أن أتكلَّم لأنّي ولد".
إِعلانُ كَلِمَةِ الرَّبِّ يُقْسَمُ إلى قِسْمَيْنِ. دَورُ الفَاعِلِ هوَ الرَّبّ، مَا خَلَا الخُرُوجَ مِنَ الرَّحِمِ، لِأَنَّهُ دَعْوَةٌ إلى الحَيَاةِ. إِنَّ الظَّرفَ "قَبْل" يُعَادُ مَعَ كُلِّ قِسْمٍ وَهُوَ أَسَاسِيٌّ في هَذِه الآيَةِ، إِذ عَمَلُ الرَّبِّ في حَيَاةِ إِرْميَا ابْتَدَأَ مُنْذُ الأَبَدِيَّةِ، حَيثُ الرَّبُّ العَلِيمُ بِكُلِّ شَيءٍ دَعَاهُ وَإِرميَا قَبِلَ الدَّعوَةَ. إِنَّ المزمور 139 يُرَدِّدُ هَذِهِ الآيَةُ، فَيَقول: "أَنْتَ الَّذي كَوَّنَ كُلْيَتَيّ، وَنَسَجَني في بَطْنِ أُمِّي ... نَفْسِي أَنتَ تَعْرِفُهَا حَقَّ الـمَعْرِفَة، لَمْ تَخْفَ عِظَامي عَلَيكَ، ... رَأَتْني عَيناكَ جَنينًا، وَفي سِفْرِكَ كُتِبَت جَميعُ الأَيَّامِ وَصُوِّرَت قَبْلَ أَن تُوجَدْ" (مز 139 / 12 - 16). وَكَأَنَّ دَعْوَةَ إِرمِيا تَفْتَحُ ضَمَائِرَنا عَلى سِرٍّ جَديدٍ مِنْ أَسْرَارِ الرَّب، وَهوَ أَنَّ الرَّبَ يَخْتَارُ مُرْسَلِيهِ مُنْذُ الأَزَلِ، قَبْلَ أَن يُولَدُوا. وَهُنَا نَتَسَاءَلُ: هَلْ إِرمِيَا قَبِلَ دَعوَتَهُ عَن حُرِيَّة؟ أَلواضِح مِنْ سِفْرِهِ، أَنَّهُ قَبِلَ بِهَا حُرًّا، إِذ حينَ قَال: "آهِ أَيُّها السَّيّدُ الرَّب، هاءَنذا لا أَعْرِفُ أَن أَتَكلَّم لأَنّي وَلَد"، لَمْ يَرْفُضْ دَعَوَةَ الرَّبِّ، بَلْ عَبَّرَ عَن مَخَاوِفِهِ، إِذ كَانَ لا يَزَالُ صَغيرَ السِّنِّ (بَعْضَ الشُّرّاح يَقولُون أَنَّ إِرميَا كانَ في عُمرِ السَّابِعَةَ عَشَر حينَ دَعَاهُ الرَّب).
مَعْرِفَةُ الرَّبّ لِإِرمِيَا خَاصَّةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ يَعْرِفُ اسْتِعْدَادَهُ البَاطِنِيّ لِتَحقيقِ مَشْرُوعِهِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُصَوَّرَ في أَحْشَاء أُمِّهِ. لِذا، قَدَّسَهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا لِلأُمَم، أَيْ لِلغُرَبَاء عَن الإِيمَانِ بِالرَّبّ. هَؤلاءِ الغُرَبَاء، بِالأَغْلَبِ، سَيَكُونونَ شَعْبَ إِسْرَائِيلَ الَّذي تَرَكَ الرَّبَّ وَتَبِعَ آلِهةً غَريبَةً. لِهذَا، سَيَكونُ إِرمِيا غَريبًا في أَرضِهِ وَبينَ شَعْبِهِ، وَكَلِمةُ الرَّبِّ سَتكونُ لَهُ مُرًّا وَعَلقَمَا. وَكَأَنَّ بِإِرمِيا يُردِّدُ قَولَ بولسَ في رِسَالَتِهِ الثانِيَة إِلى أَهْلِ قُورِنتُسَ: "نَحْمِلُ هذَا الكَنْزَ (كَلِمَةَ الرَّبّ) في آنِيَةٍ مِنْ خَزَف، لِيَظْهَرَ أَنَّ تِلْكَ القُدْرَةَ الفائِقَةَ هِيَ مِنَ الله لا مِنَّا " (2قور 4 / 7).
7 فقال لِيَ الرَّبّ: "لا تقُلْ: «إنّي وَلَد»، فإنَّكَ لِكلِّ ما أُرسلُك له تذهب وكلَّ ما آمرُكَ به تقول.
8 لا تخَفْ من وجوههم فإنِّي معك لأُنقذَك"، يقولُ الرَّبّ.
لَيْسَ عِندَ الرَّبِّ سِنًّا أَو عُمْرًا مُحَدَّدًا لِلدَّعوَةِ أَو لِلرِّسَالَة، لِأَنَّهُ يَعْرِفُ رَسُولَهُ قَبْلَ وِلادَتِهِ. عَلى إِرمِيا أَنْ يَعْمَلَ إِرادَةَ الرَّبّ، لِأَنَّهُ قَبِلَ الدَّعوَة. وَكَأَنَّ الرَّب انْقَضَّ عَلى إِرمِيا كَالنَّسْرِ، فَمَا إِنْ دَعَاهُ، أَرسَلَهُ وَأَمرَهُ أَلاَّ يَتَذمَّر كَوْنَهُ صَغيرَ السِّنّ. يَظهَرُ الرَّبُّ مُسْتَعْجِلاً لِإِرسَالِ إِرميا، وَكَأَنَّ خَطايَا الشَّعْبِ ثَقُلَت وَكَثُرَت جِدًّا وَالحَاجَةَ إلى نَبِيٍّ يُقَدِّمُ ذَاتَهُ لِلرَّبّ أَضْحَتْ ضَرورِيَّةً. وَهَكَذَا، في تَمَامِ الأَيّامِ، بَعَثَ الرَّبُّ يوحَنَّا الـمَعْمَدانَ لِيَصْرُخَ، مُعْلِنًا بِلَجَاجَةٍ التّوبَةَ لِلخَطَأَةَ، لِأَنَّ مَلكوتَ الرَّبِّ اقْتَرَبَ. وَهَكَذا بولُسُ الرَّسول يَكتُبُ في رِسَالتِهِ اليوم، مَملوءًا غَيرَةً على رِسَالَةِ الرَّبّ: " فَإنَّنا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسْلَمُ دَوْمًا إلى الـمَوْت، مِنْ أَجْلِ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا الـمَائِت" (2قور 4 / 11)، لِيَعْلَمَ الشَّعبُ أنَّ حَيَاةَ الرَّسولِ هيَ في خطَرٍ دَائِمٍ، من أَجلِ تَحقيقِ مَشْروعِ الله الخلاصِيِّ.
أَمَامَ هَذِهِ اللَّوحَةُ مِنَ الشَّهَادَاتِ لِرُسُلِ الرَّبِّ عَن صُعوبَة الرِّسَالة، يَحِقُّ لِإِرمِيا أَن يَخَافَ مِنْ دَعوَةِ الرَّبِّ لهُ وهوَ بَعدُ وَلَد، في مُواجَهةٍ مَعَ رُؤَساءِ الشَّعبِ الرّوحِيِّين (راجع إر 8؛ 23 / 9 - 40).
9 ثم مَدَّ الرَّبُّ يدَه ولَمَسَ فمي وقال لِيَ الرَّبّ: "هاءنذا قد جعلتُ كلامي في فمِكَ.
10 أُنظرْ، إنِّي أقمتُك اليومَ على الأمَمِ وعلى الممالِك لِتَقلَعَ وتَهدِمَ وتُهلِكَ وتنقُض وتبني وتغرِس".
بَعْدَ أَن كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ هِيَ الـمُتحَدِّثَةُ مَعَ إِرميَا، يَتَدَخَّلُ الرَّبُّ بِنَفْسِهِ لِيُثَبِّتَهُ في دَعْوَتِهِ، فَيَمُدُّ يَدَهُ وَيَلْمِسَ فَمَهُ. فَحِينَ قَبِلَ إِرمِيَا دَعوَةَ الرَّبّ لَهُ، اعْتَلَنَ الرَّبُ لَهُ لِيُشَجِّعَهُ، وَسَيَبْقَى هَذا الحَدَثُ في حَيَاةِ إِرمِيَا حَيًّا، لِأَنَّ الرَّبَ سَيَطْبَعُ حَيَاتَهُ بِكَلِمَتِهِ، فَيَقولُ لإِرميَا: "أَنا سَاهِرٌ عَلى كَلِمَتي لأَصْنَعَهَا" (إر 1 / 12ب). فَمُ إِرمِيَا الَّذي لَمَسَتْهُ يَدُ الرَّبِّ سَيَنفَتِحُ مُعْلِنًا كَلِمَةَ الرَّبِ، وَسَيُصْبِحُ عاجِزًا عَن السَّيْطَرَةِ عَلَيْهِ، إِذ يَقُول مُتَأَلِّمًا: "لا أَذْكُرُ (كَلامَ الرَّبّ) وَلا أَعودُ أَتكَلَّمُ بِاسْمِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ في قَلْبي كَنارٍ مُحْرِقَة، قَدْ حُبِسَتْ في عِظَامي، فَأَجْهَدَني احْتِمَالُهَا، وَلَم أَقْوَى عَلى ذَلِك" (إر 20 / 9).
وَكَلِمَةُ الرَّبِّ الَّتي سَيُعْلِنُها إِرمِيَا هيَ كَلِمَةٌ تَقْلَعُ وَتَهْدِمُ، تُهلِك وَتَنقُضُ. أربَعَةُ أَفْعَالٍ للدَّمَارِ وَالهَلاكِ، فَإِرميَا نَفْسُهُ سَيَقُولُ عن كَلِمَتِهِ: "كُلَّما تَكلَّمتُ فَإِنَّمَا أَصِيحُ، وَأُنَادي بِالعُنْفِ وَالدَّمَارِ، فَصَارَ لي كَلامُ الرَّبِّ عَارًا، وَسُخْرِيَةً طُولَ النَّهَار" (إر 20 / 8). كَمَا سَيَلْعَنُ يَومَ وِلادَتِهِ الَّذي حَقَّقَ فيهِ اللهُ رَغْبَتَهُ، بِاخْتِيَارِ إرميَا نَبِيًّا وَرَسُولاً يَحْمِلُ كَلِمَتَهُ: "مَلعونٌ اليَومُ الَّذي وُلِدْتُ فيهِ، اليَومُ الَّذي وَلَدَتْني فيهِ أُمِّي، لا يَكُنْ مُبَارَكًا" (إر 20 / 14).
دَعوَةُ إِرمِيَا مُمَيَّزَةٌ إِذْ مَلَكَتْ كَلِمَةُ الرَّبّ عَلَى حَيَاتِهِ وَكَيَانِهِ، فَصَارَ هوَ بِذَاتِهِ"كَلِمَة الرَّبِّ" تَتَأَلَّمُ وَتُؤْلِمُ، تُعْلِنُ الدَّمَارَ وَتُدَمَّرُ بِالاضطِّهَاداتِ العَديدَة. إِنَّهُ عَبْدُ الله الـمُتَأَلِّم، كَمَا بولُسَ الرَّسولِ وَرُسُلِ الـمَسيح: "يُضَيَّقُ عَلَينا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَلكِنَّنا لا نُسْحَق، نَحْتارُ في أَمْرِنا ولكِنَّنا لا نَيْأَس، نُضْطَهَدُ وَلكِنَّنَا لا نُهْمَل، نُنْبَذُ وَلكِنَّنَا لا نَهْلِك، ونَحْمِلُ في جَسَدِنا كُلَّ حِينٍ مَوْتَ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا" (2قور 4 / 8 - 9). هَذا هوَ ثَمنُ اتِّبَاعِ الرَّبّ، لِلجَميعِ، رُسُلاً أَو أَنبِيَاء، كَمَا يَقولُ ابنُ سيراخ: "يا بُنَيّ، إِن أَقْبَلْتَ لِخِدْمَةِ الرَّبّ، فَأَعْدِدْ نَفسَكَ لِلتَّجْرِبَة. فَإِنَّ الذَّهبَ يُمتَحَنُ في النَّارِ، وَالـمَرْضِيِّينَ مِنَ النَّاسِ في أَتُّونِ الذُّلّ" (سي 2 / 1 . 5).