عيد الدِّنح الـمَجِيد
سِفْر حزقِيّال 36 / 22 - 28
22 هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: لَيسَ لأَجلِكم أَنا فاعِلٌ، يا بَيتَ إِسْرائيل، بل لأَجِل ٱسمِيَ القُدُّوسِ الَّذي دَنَّستموه في الأُمَمِ الَّتي دَخَلتُم بَينَها.
23 فأُقَدِّسُ ٱسمِيَ العَظيمَ الَّذي دُنِّسَ في الأُمَمِ الَّتي دَنَّستُموه فيما بَينها فتَعلَمُ الأُمَمُ أنَي أَنا الرَّبّ. يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ حين أَتَقَدَّسُ فيكم على عُيونِها.
24 وآخُذُكم مِن بَين الأُمَم، وأَجمَعُكم مِن جَميعِ الأَراضي وآتي بِكم إِلى أَرضكم.
25 وأَرُشُّ عليكم ماءً طاهِرًا، فتَطهُرونَ مِن كُلِّ نَجاسَتِكم، وأُطَهِّرُكم مِن جَميعِ قَذاراتِكم.
26 وأُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم،
27 وأَجعَلُ روحي في أَحْشائِكم وأَجعَلُكم تَسيرونَ على فَرائِضي وتَحفَظونَ أَحْكامي وتَعمَلون بِها.
28 وتَسكُنونَ في الأَرضِ الَّتي أَعطَيتُها ِلآبائِكم. وتَكونونَ لي شَعبًا وأَكونُ لَكم إِلهًا.مقدّمة
عيدُ الدِّنْحِ هوَ عيدُ اعْتِلانِ الرَّبِّ يَسوعَ إِبْنًا للهِ الآبِ، وعيدُ ظُهورِ الآبِ فوقَ الأُردُنِّ وَعيدُ حُلولِ الرُّوحِ القُدُسِ عَلى هَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَفي مِياهِ الـمَعْمودِيَّةِ. هَذا العيدُ يُبَشِّرُنا بِاللهِ الثَّالوثِيّ الأَقانِيمِ الَّذي حَلَّ على أَرضِنا بِجَسَدٍ بشَريٍّ مِثْلَنا، بِصَوتِ الآبِ مِنَ السَّماءِ وَبِرَفْرَفَةِ الرُّوحِ القُدُس على الـمِياه. هَكَذا تَنْقُلُنا ليتُورْجِيَّتُنا الـمَارونِيَّةُ مِن زَمَنٍ إِلى زَمَنٍ جَديدٍ، نَنْمو فيهِ بِـمَعْرِفَةِ الآبِ وَنَتَجَدَّدُ فيهِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ وَنَتَّحِدُ بِهِ بِرَبِّنا يَسوعَ الـمَسيحِ الصَّائِرِ بَشَرًا، لِيُشَارِكَنَا مُغَامرَةَ الحياةِ، مُضْفِيًا عَلَيها نِعَمَهُ وَبَرَكاتَهُ الإلَهِيَّةُ وَسِرَّ خلاصِهِ.
وَقِراءَاتُ هَذا النَّهارِ الـمُبَارَكِ تَتَمَحْوَرُ حَولَ سِرِّ الـمَعمودِيَّةِ، الَّذي يُجَدِّدُ طَبيعَتَنا البَشَرِيَّةَ وَيَنْقُلها إلى مُسْتَوى الرُّوحِ وَالحَقيقَةِ وَالأُلوهِيَّةِ. فَقِراءَةُ النَّبيّ حزقِيّال، منَ العَهدِ القَديمِ، تُعْلِنُ تَجديدَ الشَّعبِ الخَائِنِ بِرَشِّهِ بالماءِ الطَّاهِرِ وَبِتَرْميمِ القَلبِ بِقوَّةِ الرُّوح. ثُمَّ تَأتي رِسالَةُ بولسَ الرَّسُولِ إلى تِلميذِهِ طيطُسَ، لِتَحُثَّنا على الابْتِعَادِ عَن أعْمالِ الشَّرِّ والارْتِدَادِ إلى طَريقِ خَلاصِنا بِغَسْلِ الـميلادِ الثَّاني، أَي بالولادَةِ الرُّوحِيَّةِ مِنْ جُرْنِ الـمَعمودِيَّةِ (طي 2 / 11 – 3 / 7). أَمَّا نَصُّ إِنجيلِ لوقا الرَّسُولِ، فَيَضَعُنا أَمَامَ مَشْهَدِ يوحَنَّا الـمَعْمَدانِ الَّذي يُعْلِنُ اقْتِرابَ مَلَكوتِ الله، وَيَصيحُ دَاعِيًا الخَطَأةَ مِن شَعْبِ إِسْرَائِيلَ إلى الاعْتِمادِ بِالـمَاءِ لِيَتَطَهَّروا من دَنَاسَتِهِم. ثُمَّ يَخْتَرِقُ الـمَشْهَدَ الرَّبُّ يَسوعَ، الَّذي يَنْزِلُ إلى الأُردُنِّ لِيُطَهِّرَ الـمِيَاهَ وَيَجْعَلَها رَحِمًا لِلوِلادَةِ الرُّوحِيَّةِ، فَتَنْفَتِحُ السَّماوَاتُ وَيَنْزِلُ الرُّوح القُدُسُ وَيَنْطِقُ الآبُ قَائِلاً: "أَنْتَ هوَ ابْني الحَبيبُ، بِكَ رَضِيتُ" (لو 3 / 22).
تفسير الآيات
22 هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: لَيسَ لأَجلِكم أَنا فاعِلٌ، يا بَيتَ إِسْرائيل، بل لأَجِل ٱسمِيَ القُدُّوسِ الَّذي دَنَّستموه في الأُمَمِ الَّتي دَخَلتُم بَينَها.إِنَّ حَزْقِيَّالَ النَّبِيَّ، وَمَعْنَى اسْمِهِ "ألله يُقَوِّي"، عَانَى الجَلاءَ عَنْ أَرْضِهِ، في أَيَّامِ حُكْمِ نَبوكَدنَصَّر مَلِكِ بَابِل سنة 598. وَعَلى ضِفَافِ نَهْرِ كُوبَارَ (شَرقِ بَابِل)، نَالَ رِسَالَتَهُ النَّبَوِيَّةَ وَقَامَ بِوَعْظِ اليَهُودِ الـمَجْلُوِّينَ مَعَهُ، مُعْلِنًا خَرَابَ أُورَشَلِيمَ وَانْهِدَامَ الهَيْكَلِ وَجَلاءَ الشَّعْبِ عَن أَرْضِهِ. هَذَا، لِأَنَّ خَطَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَد عَظُمَتْ جِدًّا، فَخَانُوا شَرِيعَةَ الرَّبِّ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِوَصَايَاهُ: "إِنْ تَحَوَّلَ قَلْبُكَ وَلَمْ تَسْمَع وَابْتَعَدْتَ وَسَجَدْتَ لِآلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدْتَها، فَأُعْلِنُ لَكُم اليَومَ أَنَّكُم تَهْلِكُونَ هَلاكًا وَلا تُطِيلُونَ أَيَّامَكُم في الأرضِ التي أَنتَ عَابِرٌ الأَردُنَّ لِتَرِثَها" (تث 30 / 17 – 18؛ راجِع حز 20 / 41 - 44). منذُ بِدَايَةِ سِفْرِهِ، يَصِفُ النَّبِيُّ شَعْبَ إِسْرَائِيلَ بِالـمُتَمَرِّدِينَ "إِنَّهُم بَيْتُ تَـمَرُّد"، لِأَنَّهُم تَـمَرَّدُوا عَلى الرَّبِّ وَعَصَوْهُ لِقَسَاوَةِ قُلُوبِهِم وَصَلابَةِ جِبَاهِهِم (حز 2 / 3 - 7). كَـمَا يُحَدِّدُ حَزْقِيّالُ مُشْكِلَةَ الشَّعْبِ، لِيُنَبِّهَ القَارِئ: إِنَّها "قَلْبُ إِسْرَائِيل" الَّذي قَسَى وَتَصَلَّبَ لِابْتِعَادِهِ عَنِ الرَّبِّ، مَصْدَرِ حَيَاتِهِ وَحَافِظِ قَلْبِهِ بِالـمَحَبَّةِ (راجِع تث 30 / 6).
مِنْ هُنَا نَفْهَمُ بِدَايَةَ هَذا النَّصِّ القَاسِيَةِ: "لَيْسَ لِأَجْلِكُم أَنا فَاعِلٌ، يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ". فَالرَّبُّ يَضَعُ حُدُودًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْبِهِ، فَقَدْ طَفَحَ الكَيْلُ مِنْهُم، لِأَنَّهُم مُتَـمَرِّدونَ وَعُصَاة. إِلاَّ أَنَّ الرَّبَّ سَيُكْمِلُ عَـمَلَهُ كَمَا كَانَ قَدْ حَدَّدَ وَقَرَّرَ سَابِقًا، بِحَسَبِ تَصْمِيمِهِ " لِأَجْلِ اسْمِهِ القُدُّوس" الَّذّي دَنَّسَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَيْنَ الشُّعُوبِ الغَرِيبَةِ.
كَيْفَ دَنَّسَ إِسْرَائِيلُ اسْمَ الرَّبِّ؟ لَقَدْ أَوْصَى الرَّبُّ شَعْبَهُ مُنْذُ القَدِيمِ، بِعَدَمِ السُّجُودِ لِإِلَهٍ آخَرَ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ في فِخَاخِ الأُمَمِ وَيُدَنِّسَ الاسْمَ الـمُقَدَّسَ: "لأَنَّ الرَّبَّ اسْمُهُ الغَيُورُ: إِنَّهُ إِلَهٌ غَيُور" (خر 34 / 14). كَـمَا أَوْصَاهُ بِاحْتِرَامِ اسْمِهِ: "لا تَلْفُظَ اسْمَ الرَّبِّ إِلَهِكَ بَاطِلاً، لِأَنَّ الرَّبَّ لا يُبَرِّئُ الَّذي يَلْفُظُ اسْمَهُ بَاطِلاً" (خر 20 / 7). لَكِنَّ شَعْبَ اللهِ عَبَدَ، في أَرْضِ بَابِلَ، آلِهَةَ الشُّعُوبِ البَابِلِيَّةِ إِلى جَانِبِ الرَّبّ، فَشَوَّهَ الاسْمَ الـمُقَدَّسَ وَدَنَّسَهُ. هَذَا التَّصَرُّفُ يُدْعَى تَمَرُّدًا عَلى الرَّبِّ وَعَلى وَصَايَاهُ. كَمْ هُوَ صَعْبٌ عَلى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُحَافِظَ عَلى إِيمَانِهِ وَأَمَانَتِهِ لِلرَّبِّ في أَرْضِ الجَلاءِ!
23 فأُقَدِّسُ ٱسمِيَ العَظيمَ الَّذي دُنِّسَ في الأُمَمِ الَّتي دَنَّستُموه فيما بَينها فتَعلَمُ الأُمَمُ أنَي أَنا الرَّبّ. يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ حين أَتَقَدَّسُ فيكم على عُيونِها.
إِنَّ اسْمَ الرَّبِّ يَتَقَدَّسُ بِشَهَادَةِ شَعْبِ اللهِ عَلى عُيُونِ الأُمَمِ وَعَلى مَسَامِعِهِم، أَيْ بِالاعْتِرَافِ بِهِ إِلَهًا لا إِلَهَ سِوَاهُ في أَرْضِ الجَلاءِ وَفي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ. هَذهِ الآيَةُ تَحْوِي العِبَارَةُ الـمُفْتَاح الَّتي يَتَمَيَّزُ بِهَا سِفرُ النَّبِيِّ حَزْقِيَّال: "فَتَعْلَمُ الأُمَمُ أَنِّي أَنا الرَّبّ"، لِأَنّهُ يَسْتَعْمِلُهَا لِيُذَكِّرَ القَارِئَ بِهَدَفِ كِتَابِهِ وَرِسَالَتِهِ، أَي لِتَعْلَمَ شُعُوبُ الأَرضِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الإِلَهُ الحَقُّ وَلَيسَ آخَر. اسْمَ الرَّبِّ العَظِيمِ القُدَّوسِ بِذَاتِهِ لا يَتَعَرَّضُ أَبَدًا لِلدَّنَسِ، وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الـمُؤْمِنَ بِهِ، عِنْدَمَا يُشْرِكُ إِيمَانَهُ بِإِلَهٍ آخَرَ غَرِيبٍ، في هَذِهِ الحَال يُعَرِّضُ اسْمَ الرَّبِّ لِلدَّنَسِ، أَي يُسِيءُ إلى سُـمْعَتِهِ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوُجُودِ إِلَهٍ آخَرَ وهذا غَير صَحيح، لِأَنَّهُ لا وُجودَ لِإِلَهٍ سِواهُ.
لِنَفْهَمَ جَيِّدًا مَا يَقُولُهُ النَّبِيُّ في نَصِّهِ، أَنَّ اسْمَ الرَّبِّ عَلى هَذِهِ الأَرْضِ يَتَقَدَّسُ بِوَاسِطَةِ شَعْبِهِ الـمُؤْمِنِ بِهِ، كَـمَا أَنَّ هذا الشَّعْبَ قَادِرٌ أَيْضًا أَن يُدَنِّسَ سُمْعَتَهُ. هَلْ نَفْهَمُ عِظَمَ الـمَسْؤُولِيَّةِ الَّتي أَوْكَلَنَا فِيهَا الرَّبّ؟ لَقَدْ أَعْطَى الإِنسَانَ سُلْطَةً عَلى اسْمِهِ! فَكَيفَ نَشْهَدَ لاسْمِهِ؟ وَلكِنْ هذِهِ السُّلْطَةُ مَحْدودَةٌ، إِذ عِنْدَمَا يَتَخَطَّى الإِنْسَانُ حُدُودَهُ في الخَطِيئَةِ لِيُدَنِّسَ اسْمَ الرَّبِّ وَيُشَوِّهَ قَدَاسَتَهُ وَسُـمْعَتَهُ، تَنْقَلِبُ الـمَقَايِيسُ. وَبَعْدَ خِيَانَةِ الثِّقَةِ، يَتَدَخَّلُ الرَّبُّ لِيُعِيدَ الأُمُورَ إِلى نِظَامِهَا الصَّحِيح، فَيَسْتَعْمِلَ شَعْبَهُ لِيَتَقَدَّسَ فيهِ، هو الَّذي خَانَهُ، أَمَامَ الأُمَمِ فَيَعْرِفُوا أَنَّهُ الرَّبُّ الحَيُّ وَالحَقُّ، لا كَأصْنَامِهِمِ الصَّمَّاءَ والَّتي لَيسَت بِآلِهَةٍ.
24 وآخُذُكم مِن بَين الأُمَم، وأَجمَعُكم مِن جَميعِ الأَراضي وآتي بِكم إِلى أَرضكم.
25 وأَرُشُّ عليكم ماءً طاهِرًا، فتَطهُرونَ مِن كُلِّ نَجاسَتِكم، وأُطَهِّرُكم مِن جَميعِ قَذاراتِكم.
في الآيَاتِ اللاَّحِقَةِ، سَيُعْلِنُ لَنا النَّبِيّ الطَّرِيقَةَ الَّتي سَيُقَدِّسُ بِها الرَّبُّ اسْمَهُ بينَ الأُمَمِ في شَعْبِهِ. نُلاحِظُ أَنَّ حَزْقِيّالَ بَنَى نَصَّهُ عَلى أُسُسِ شَرِيعَةِ مُوسَى، الَّتي كَانَت رِبَاطَ الحُبِّ بينَ الرَّبّ وَشَعْبِهِ. فَعَوْدَةُ الشَّعْبِ الـمَجْلُوِّ إِلى أَرْضِهِ هِيَ وَصِيَّةُ الرَّبِّ لَهُ: "فَإِذَا رَجِعْتَ إلى الرَّبِّ إِلَهِكَ وَسَمِعْتَ لِصَوْتِهِ ... يُرْجِعُ الرَّبُّ إِلَيْكَ أَسْرَاكَ وَيَرْحَمُكَ وَيَجْمَعُكَ من وَسَطِ الشُّعُوبِ كُلِّهَا حَيْثُ شَتَّتَكَ" (رَاجع تث 30 / 1 - 3).
إِنَّ تَرْمِيمَ سُـمْعَةِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ تتَطَلَّبُ تَجْدِيدًا خَارِجِيًّا لِلشَّعبِ، وَالـمَقْصُودُ هوَ العَودَةُ مِنَ الجَلاء. وَبِمَا أَنَّ الأَحْدَاثَ الَّتي يَضَعُهَا الرَّبُّ تَأتي مُنْتَظِمَة، فَيُصْبِحُ مَشْرُوعُ التَّرْمِيم عَلى النَّحو التَّالي: الرَّبُّ يَجْمَعُ شَعْبَهُ من الـمَناطِقِ التي جُلِيَ إِلَيْها وَيُعِيدَهُم إلى أَرضِهِم (آ 24)، ثُمَّ يُطَهِّرُ الشَّعْبَ (آ 25) بِرَشِّ الماءِ الطَّاهرِ وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ مَذكُورَةٌ في شَريعَةِ موسى (لاو 17 / 15 – 16؛ 22 / 6؛ عد 19 / 19 - 21). هَذِه الطَّريقَةُ بِالتَّطْهيرِ لَها مَرْجَعِيَّةٌ رمزِيَّةٌ، إِذ كانَ الكَهنَةُ يَرُشُّونَ الأجْسَادَ الـمَيْتَةَ بِالـمَاءِ الطَّاهِرِ (عد 19 / 13. 20).
بِعِبَادَتِهِهِم الأَوْثَانَ، تَدَنَّسَ الشَّعْبُ. يَسْتَعْمِلُ حزقِيّالُ عِبَاراتٍ قَاسِيَةٍ لِوَصْفِهِم: نجاسَتكُم وَقَذَارَاتِكُم. أَمَّا العِبَارَةُ العِبْرَانِيَّةُ التي تُسْتَعْـمَلُ لِلقَذَارَةِ تَدُلُّ على الأَصْنام وَالأوثَان أَي الآلِهَةِ الغَريبَة. إِذًا، فرُتْبَةُ رَشِّ الـمَاءِ الطَّاهِرِ هي رُتبَةٌ لِتَطهيرِ الرُّوحِ لا الجَسَد، القَلْبِ لا الحَواس. لِأَنَّ قَلْبَ إِسْرائِيلَ خَانَ الرَّبَّ وَتَنَجَّسَ بِاتِّبَاعِهِ حُبًّا آخَرَ. بِالـمَاءِ الَّذي لَهُ رَمزِيَّةُ التَّطهيرِ وَالتَّنظِيفِ، سَيُجَدِّدُ الرَّبُّ قَلبَ شَعْبِهِ.
26 وأُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم،
27 وأَجعَلُ روحي في أَحْشائِكم وأَجعَلُكم تَسيرونَ على فَرائِضي وتَحفَظونَ أَحْكامي وتَعمَلون بِها.
كَـمَا نُلاحِظُ، مُبَادَرَةُ الرَّبِّ تَبْدَأُ مِنَ الخَارِجِ نَحوَ الدَّاخِلِ. مِن بَعْدِ التَّطهِيرِ بِالـمَاءِ وَإِحْيَاءِ أَرواحِ الشَّعبِ التي ضَرَبَها الـمَوتُ الرُّوحِيُّ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِم الأوثَان، يَنْتَقِلُ الرَّبُّ لِـمُعَالَجَةِ قُلوبِ الشَّعب. بِاتِّحَادِهِم بِالأَصْنَامِ الـمَصْنوعَةِ مِن حِجَارَةٍ وَمِنْ مَوادٍ صَلْبَةٍ أُخرَى كَالخَشَبِ وَغيرِهِ، تَصَلَّبَ قَلْبُ الشَّعْبِ. أَمَّا بِعَلاقَتِهِم مَعَ الرَّبِّ وَاتِّباعِهِم لِشَريعَتِهِ، كَانَتْ قُلوبُهُم حَيَّةٌ وَلَيِّنَةٌ كَاللَّحمِ، أَيْ كَانَت قُلوبُهُم بَشَرِيَّةٌ حَسَّاسَةٌ، تَشْعُرُ وَتَتَأَثَّرُ، تُـمَيِّزُ وَتَعْطِفُ. هَذِهِ هيَ نوعِيَّةُ القُلوبِ التي يُرِيدُهَا الرَّبّ وَالَّتي خَلَقَها.
بِهَذِهِ القُلوبِ الجَديدَةِ سَيَعودُ الشَّعبُ إلى الرَّبِّ وَإلى العَيشِ بِحَسَبِ وَصَايَاهُ، بِقُوَّةِ الرُّوح لا بِقُوَّةِ الجَسَد. فَالرُّوح هو الَّذي يُحْيِي الشَّريعَةِ وَيَحْفَظُها مِنَ التَّصَلُّبِ وَقَسَاوَةِ الحَرْف. هَكَذا يُجَدِّدُ الرَّبُّ شَعْبَهُ بِروحِهِ الجَديدِ دائِـمًا وَالـمُتَجَدِّدِ أَبَدًا، لِأَنَّهُ قُوَّةُ الحَيَاة.
28 وتَسكُنونَ في الأَرضِ الَّتي أَعطَيتُها ِلآبائِكم. وتَكونونَ لي شَعبًا وأَكونُ لَكم إِلهًا.
إِنَّ سُكْنَى الأرضِ هيَ عَلامَةُ بَرَكَةٍ منَ الرَّبّ: "إِن رَجِعْتَ إلى الرَّبِّ إِلَهِكَ وَسَـمِعْتَ لِصَوتِهِ ... يَأتي بِكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ إلى الأَرضِ التي وَرِثَها آبَاؤُكَ فَتَرِثُها، وَيُحْسِنُ إلَيكَ وَيُنميكَ ...، وَيَخْتِنُ الرَّبُّ قلبكَ، لِتُحِبَّ الرَّبَّ إِلَهكَ بِكُلِّ قلبِكَ وَكُلِّ نَفْسِكَ، لكي تَحْيَا" (راجِع تث 30 / 2 - 6).
أَمَّا العِبَارَةُ الأَخيرَةُ "وتَكونونَ لي شَعبًا وأَكونُ لَكم إِلهًا" (راجِع إر 11 / 4؛ 30 / 22) فَهيَ مِنَ النّبِيِّ إِرميا الَّذي عَاصَرَ حزقِيّال. وَبيْنَما هذا الأَخيرُ كانَ يُعَايِنُ عن كَثَبٍ دمارَ أُورَشَليمَ، كانَ حزقِيَّالُ يَعِظُ الشَّعبَ الـمَجْلُوَّ عن أَرْضِهِ، في بابِلَ الوَثَنِيَّةَ. بِهَذهِ الكَلمات، كانَ النَّبِيُّ إرميا يُعَزِّي الشَّعْبَ الَّذي صَمَدَ في أَرضِهِ رَغْمَ الـمَخاطِرِ وَالجوعِ وَالاضْطِّهادِ وَالخوف وَالدَّمار. وَهكذا عَزَّى حزقيّالُ شعبَ إسْرائِيلَ الـمَجْلُوَّ عن أَرضِهِ، لِيُشَجِّعَهُم على الرَّغْبَةِ بِالعودَةِ إلى أَرضِهِم بعدَ انْتِهاءِ فترَةِ الجلاءِ وَالحرب البابِلِيَّةِ.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
يُعَلِّمُنا نَصُّ النّبيِّ حزقِيّال، أَنَّ عيدَ الدِّنْحِ هوَ عيدُ اعْتِلانِ الرَّبِّ عَلى حَقيقَتِهِ عَلى عُيونِ الشُّعوبِ كُلِّهَا. وَأَنَّنا نحنُ الـمُؤمِنونَ بِهِ، مَدْعُوِّينَ إلى الشَّهادَةِ لاسْمِهِ القُدُّوسِ وَللْحِفاظِ على سُمْعَةِ هذا الاسْمِ الـمُبَارَكِ، لِكي يَكونَ مُكَرَّمًا وَمُحْتَرَمًا منَ الجَميعِ. تُحَمِّلُنا هذِهِ القِراءَةُ منَ العَهْدِ القَدِيمِ مَسْؤُولِيَّةً كَبيرَةً اتُّجاهَ علاقَتِنا بِالرَّبِّ وَعَيْشِنا بِحسَبِ وَصَايَاهُ.
وَيَلْتَقي العَهدُ القَديمُ معَ العَهْدِ الجَديدِ، لِيُبَشِّرونا بِسِرِّ الـمَعْمودِيَّةِ بِالـمَاءِ وَالرَّوحِ، لِنولَدَ أَبْنَاءً للهِ جُدُدًا، بِقُلوبٍ مِلؤُها الحَياةُ وَالحُبُّ، مُنْفَتِحَةٌ على وَصايا الرَّبِّ وَعلى روحِهِ.
لِنَخْلَعَ عَنَّا الأَصْنَامَ الحَجَرِيَّةَ، فَتَرْتَاحَ قُلوبُنا وَيَسْرِي فيها الدَّمُ وَالحياةُ من جَديدٍ، بِقُوَّةِ الرُّوحِ وَبِسِرِّ كَلِمَةِ الله الَّذي صارَ بَشَرًا، وَحمَلَ خَطايَانا لِيُخَلِّصَنا.
في النِّهايَةِ، مِنَ الـميلادِ إلى الدِّنْحِ نَنْمو مَعَ الرَّبِّ بِالنِّعْمَةِ وَالـمَعْرِفَةِ وَالحِكْمَةِ. هَلاَّ عَرَفْنا ما الَّذي تَغَيَّرَ فينا مِنَ الميلادِ إلى الدِّنح؟ هلاَّ اكْتَشَفنا مَا حَقَّقَتْهُ فينا نِعْمة اللهِ؟