مُقَدّمَة عَامَّة لِقِراءاتِ العَهْدِ القَدِيم
"أللّيتُورجِيا المارونيّةُ هيَ في عُمقِها بيبليَّةٌ"، أَي مُؤسَّسةٌ على كَلمةِ الله في الكتابِ المقدَّس، في عَهدَيهِ القَديمِ والجَدِيدِ. وهَذَانِ يُؤلِّفانِ وِحدةً مُتكامِلةً. لِذَا، أَضافَت كَنيسَتُنا على قِراءَتَي العَهدِ الجَديد (الرِّسالَة والإِنجيل)، نُصوصًا منَ العَهدِ القَديمِ تَتنَاسَبُ مَعَ السَّابِقَتَينِ، لِعدَّةِ أَسبابٍ، نَذكُرُ مِنْها: إِعْلانُ إيمانِنَا الكاثولِيكيِّ بِوِحدَةِ الوَحيِ الإِلَهيِّ في العَهْدَينِ القَديمِ وَالجَديد، إِذ كلمةُ الله هي واحِدةٌ مُنذُ سِفرِ التَّكوينِ حَتَّى سِفْرِ الرُّؤيا، لأَنَّ اللهَ لا يَتَغيَّر. وَأَيضًا، إِعلانُ إِيمانِنا بِوِحْدَةِ مَشروعِ اللهِ الخَلاصِيِّ، إِذ إِلهُ العَهْدِ القَديمِ هُوَ نَفسُهُ إِلهُ العَهدِ الجَديدِ الَّذي عَرَفْناهُ في شَخصِ الاِبْنِ الوَحيدِ، رَبِّنا يَسوعَ المسيحِ، الآتِي لِيُبشِّرَنا بِمحبَّةِ الآبِ وَبِرَحْمَتِهِ العَظيمَةِ لِلخَطَأَة. وَأَيضًا، تَسْتَعيدُ كَنيسَتُنا المارونِيَّةُ قِراءاتَ العَهْدِ القَديمِ تَعْبيرًا عَن اسْتِعادَةِ تَقليدِ الكَنيسَةِ الرَّسوليَّةِ الأُولى، الَّتي سَلَّمَتْنا بِأَمانَةٍ وَدِيعَةَ الإِيمانِ الَّتي تَجْمَعُ بينَ العَهْدَيْنِ القَديمِ وَالجَديدِ وَتَتَجَدَّدُ بِقُوَّةِ كَلِمَةِ اللهِ.
إِذًا، بِإِضَافَةِ قِرَاءَاتِ العَهْدِ القَدِيمِ تَدْعُونَا كَنِيسَتُنَا لِلتَّتَلْمُذِ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَنَتَعَلَّمَ أَنْ نُخِرِجَ مِنْ كَنْزِنَا كُلَّ جَدِيدٍ وَقَدِيمٍ (راجِعْ متى 13 / 52).
أحد تقديس البيعة
أشعيا 54/ 1+ 3 + 5 – 8 + 10
1 تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تُنْجِبْ، أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ وَالْهُتَافِ يَا مَنْ لَمْ تُقَاسِي مِنَ الْمَخَاضِ، لأَنَّ أَبْنَاءَ الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَبْنَاءِ ذَاتِ الزَّوْجِ، يَقُولُ الرَّبُّ.
3 لأَنَّكِ سَتَمْتَدِّينَ يَمِينًا وَشَمَالًا، وَيَرِثُ نَسْلُكِ أُمَمًا وَيُعَمِّرُونَ الْمُدُنَ الْخَرِبَةَ،
5 لأَنَّ صَانِعَكِ هُوَ بَعْلُكِ، وَالرَّبُّ الْقَدِيرُ اسْمُهُ، وَفَادِيكِ هُوَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي يُدْعَى إِلهَ كُلِّ الأَرْض.
6 قَدْ دَعَاكِ الرَّبُّ كَزَوْجَةٍ مَهْجُورَةٍ مَكْرُوبَةِ الرُّوحِ، كَزَوْجَةِ عَهْدِ الصِّبَا الْمَنْبُوذَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ.
7 لَقَدْ هَجَرْتُكِ لَحْظَةً، وَلَكِنِّي بِمَرَاحِمَ كَثِيرَةٍ أَجْمَعُكِ.
8 فِي لَحْظَةِ غَضَبٍ جَامِحٍ حَجَبْتُ وَجْهِي عَنْكِ، وَلَكِنِّي بِحُبٍّ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ، يَقُولُ الرَّبُّ فَادِيكِ.
10 إِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ وَالتِّلاَلَ تَتَزَحْزَحُ، أَمَّا رَحْمَتِي الثَّابِتَةُ فَلا تُفَارِقُكِ، وَعَهْدُ سَلاَمِي لا يَتَزَعْزَعُ، يَقُولُ الرَّبُّ رَاحِمُكِ.
مُقَدِّمَة
أَليَومَ، تُفْتَتَحُ السَّنَةُ الطَّقسّيَّةُ وَتُعْلِنُ زَمَنًا لِيتورجِيًّا جَدِيدًا. زَمَنًا، فيهِ جَميعُ الـمُؤمِنينَ مَدْعُوِّينَ إِلَى تَجْديدِ الأَذْهَانِ وَالتَّحَرُّرِ مِنْ شَريعَةٍ، لَطَالَمَا كَانَتْ عِبْئًا عَلى كَاهِلِنَا، لِأَنَّهَا حَكَمَتْ عَلَيْنا بِنِيرِ الخَطِيئَةِ (عب 9 / 9 - 10). وَزَمَنًا، نُبَشَّرُ فيهِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَغُفْرانِهِ لِلخَطَايا وَالزَّلاّت (أش 54 / 7). هَذَا كُلُّهُ، لأَنَّ الـمَسِيحَ رَبَّنا قَدْ جَاءَ وَطَهَّرَ خَطَايا كُلِّ الشُّعوبِ بِدَمِهِ وَحَقَّقَ لَنا فِداءً أَبَدِيًّا، وَوَهَبَنَا سِرَّ مَعْرِفَتِهِ بِروحِ الآبِ القُدُّوسِ، الَّذي أَوْحَى لِبُطْرُسَ الرَّسُول أنَّهُ هُوَ "يَسوعُ الـمَسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16 / 15). وَعَلَى إِيمَانِ بُطْرُسَ، تُعَيِّدُ الكَنيسَةُ لِلقُدُّوسِ الَّذي قَدَّسَهَا، طَالِبَةً مِنْهُ: أَنْ يَحْفَظَها مِنَ الشُّرورِ وَالانْقِسَامَاتِ، لِكَي لا تَقْوَى عَلَيْها أَبْوابُ الجَحِيمِ (متى 16 / 18).
إِنَّ عيدَ تَجْديدِ البيعَةِ وَتَقْديسِهَا، كانَ مَعْروفًا في العَهْدِ القَديمِ بــ"يَومِ تَطْهيرِ الهَيكَلِ وَتَدْشينِهِ". وَقَدْ احْتَفَلَ فيهِ الشَّعْبُ اليَهودِيُّ بَعدَ انْسِحَابِ القَائِدَينِ الوَثَنِيَّينِ، أَنْطْيُوخُسُ إِبِيفَانُوسُ وَأَبُلّونْيوسُ اللَّذَينِ هَدَّمَا الهَيكَلَ وَقَتَلا عَدَدًا كَبيرًا مِنَ اليَهودِ (1مك 1/ 21-25. 29-40). فِي ذاكَ اليَومِ العَظيمِ، يَومِ التَّطْهِيرِ، نُزِعَتِ الحِجَارَةُ الـمُدنَّسَةُ مِنَ الهَيكَلِ ووُضِعَ مَكَانَها حِجَارَةٌ غَيرُ مَنْحُوتَةٍ. كَمَا بُنِيَ مَكَانَ المذْبَحِ القَدِيمِ، مَذْبحًا جَدِيدًا، وَأُضِيءَ الهَيْكَلُ وَالـمَنَارَةُ، فَكَانَ كُلُّ شيءٍ جَدِيدًا وَفَرِحَ الشَّعبُ وَسَبَّحَ اللهَ بِالأَناشيدِ وَآلاتِ العَزْفِ. وَنَحْنُ اليَوْمَ، نَحْتَفِلُ بِهَذا العِيدِ، مَعَ الحِفَاظِ عَلَى رُوحِ رُتْبَةِ التَّجْدِيدِ الَّتي كَانَ يُمَارِسُها أَسْلافُنا، إِذ: تُنْزَعُ الشَّراشِفُ القَدِيمَةُ عَنِ الـمَذْبَحِ، لِيُزَيَّنَ بِشَراشِفَ جَدِيدَةٍ خَاصَّةٍ بِالعِيدِ، ثُمَّ تُوضَعُ الـمَنائِرُ الذَّهبِيَّةُ وَتُضَاءُ لِتَنْشُرَ النُّورَ في الكَنَائِس. وَتَتَرَافَقُ هَذِهِ الرُّتْبَةُ بِالأَنَاشِيدِ الخَاصَّةِ بِالعِيدِ مَعَ الأَلْحَانِ وَجَوِّ البَهْجَةِ.
أَمَّا لِيتورجِيَّتُنا الـمَارُونِيَّةُ فَتَخْتَارُ لِهَذِهِ الـمُنَاسَبَةِ، نُبُوءَةً مِنَ النَّبِيِّ أَشَعْيَا تُبَشِّرُ بِعَوْدَةِ الرَّبِّ إِلى مَدِينَتِهِ أُورَشَلِيمَ، وَبِتَجْديدِ مَا قَدْ هُدِّمَ وَفُقِدَ خِلالَ سِنِي السَّبِي الطَّوِيلَةِ. إِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ لَأَعْظَمُ مِنْ خَطَايَانَا وَزَلاَّتِنَا الـمُتَوَاصِلَةِ، وَبِهَا تَنْتَصِرُ الحَيَاةُ عَلى الـمَوتِ، وَالفَرَحُ عَلى الكَآبَةِ والتَّعْزِيَةُ عَلى فُقْدَانِ الرَّجَاءِ.
تَفسيرُ الآياتِ
1 تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تُنْجِبْ، أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ وَالْهُتَافِ يَا مَنْ لَمْ تُقَاسِي مِنَ الْمَخَاضِ، لأَنَّ أَبْنَاءَ الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَبْنَاءِ ذَاتِ الزَّوْجِ، يَقُولُ الرَّبُّ.
يُنْشِدُ النَّبِيُّ أَشَعْيَا نَاقِلاً كَلاَمَ الرَّبِّ الـمَلآنَ تَعْزِيَةً إِلى "أُورَشَليمَ" أَو "شَعْبِ إِسْرائِيلَ" الَّذي يُحِبُّهُ بِمَحبَّةِ زَوْجٍ لِامْرَأَتِهِ. أَمَّا صِفَةُ "العَاقِرِ"، فَهِيَ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّعْبِ الغَائِبِ عَن مَوْطِنِهِ، الَّذي خِلالَ وَقْتِ السَّبِي قَلَّ عَدَدُهُ كَثيرًا، كَمَا يُخْبِرُنا النَّبِيُّ عَزْرَا: "كُلُّ الجُمْهُورِ مَعًا، إِثْنانِ وأَربَعُونَ أَلْفًا وَثَلاثُمِئَةٍ وَسِتُّون" (عز 2 / 64).
تَتَأَلَّفُ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ قِسْمَيْنِ: الدَّعْوَةُ إِلى الفَرَحِ وَسَبَبُ الدَّعْوَةِ. تَطَالُ الغَرَابَةُ القِسْمَ الأَوَّلَ، إِذِ الرَّبُّ يَدْعُو مَدِينَتَهُ أَنْ تَتَرَنَّمَ وَتَهْتِفَ فَرَحًا وَبَهْجَةً، رَغْمَ وَاقِعِهَا الصَّعْبِ الَّذي فَرَضَهُ عَلَيها أَلَمُ السَّبِي أَيْ "العُقْمْ"! أَمَّا القِسْمُ الثَّانِي، الـمَلِيءُ بِالصُّوَرِ الـمَجَازِيَّةِ "أَبْناءَ الـمُسْتَوْحِشَةِ" وَ"أَبْنَاءِ ذَاتِ الزَّوْجِ"، فَيَأتِي لِيُوضِحَ دَعْوَةَ اللهِ لِلبَهْجَةِ في وَسَطِ الآلامِ وَيَحُلَّ الغَرَابَةَ. فَأَبْناءُ الـمُسْتَوْحِشَةِ هُم شَعْبُ إِسْرائِيلَ الـمَسْبِيِّينَ عَنْ أُمِّهِمِ الـمُسْتَوحِشَةِ أَي مَدِينَةِ أُورَشَلِيم، وَأَبْنَاءُ ذَاتِ الزَّوجِ هُم شَعْبُ إِسْرَائِيلَ قَبْلَ السَّبِي، أَيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ سَكَنُوا المدِينَةِ وَكَانَ عَدَدُهُم كَبِيرًا. دَعْوَةُ اللهِ لِلفَرَحِ إِذًا، هِيَ لِلإِيمَانِ وَالرَّجَاءِ لِأَنَّ مَدينَةَ أُورَشَلِيمَ الخَارِجَةَ مِن وَاقِعِ ذُلِّهَا، سَتَكُونُ أَفْضَلَ بِكَثيرٍ مِن الأَيَّامِ السَّالِفَة، حِينَ كَانَتْ قَوِيَّةً وَمُتَرَفِّهَةً. لِمَاذَا؟ لِأَنَّ القَائِلَ وَالـمُبَشِّرَ بِالفَرَحِ هُوَ "الرَّبّ". مَا يَعْنِي، أَنَّ الرَّبَّ قَرِيبٌ مِنْهَا أَكثَر حِينَ تَكُونُ مُتَأَلِّمَةً وَضَعِيفَة، لِأَنَّهُ حِينَهَا، يَفْتَقِدُها بِرَحْمَتِهِ وَيَهَبُ الحَيَاةَ لِأَحْشَائِهَا العَاقِرَة وَيُحَوِّلُ كَآبَتَهَا إِلى بَهْجَةٍ. فالرَّبُّ هُوَ نَبْعُ الحَياةِ وَالفَرَحِ: "أَلعَاقِرُ وَلَدَتْ سَبْعَةً وَكَثيرَةُ البَنِينِ ذَبُلَتْ" (1صم 2 / 5).
3 لأَنَّكِ سَتَمْتَدِّينَ يَمِينًا وَشَمَالًا، وَيَرِثُ نَسْلُكِ أُمَمًا وَيُعَمِّرُونَ الْمُدُنَ الْخَرِبَةَ،
هَذِهِ الآيَةُ تُخْبِرُنَا عَنْ مَا يَتَضَمَّنَهُ وَعْدُ الرَّبِّ لِأُورَشَلِيمَ، كَمَا تَشْرَحُ أَحَدَ أَسْبَابِ دَعْوَةِ الرَّبِّ لِلبَهْجَة. فَالرَّبُّ يَعِدُ شَعْبَ إِسْرَائِيلَ بالِامْتِدَادِ أَيْ بِالتَّوَسُّعِ عَلَى مَسَاحَاتٍ كَبيرَةٍ. أَمَّا الجِهَتَانِ "يَمِينًا وَشِمَالاً" فَتَعْنِيَانِ كُلَّ الجِهَاتِ. هَذِهِ العِبَارَاتُ الشَّامِلَةُ هِيَ دَلالَةٌ عَلى أَنَّ وَعْدَ الرَّبِّ سَيَشْمُلُ أَقْطَارَ الأَرْضِ بِطُولِهَا وَبِعَرْضِهَا، وَأَنَّ أُورَشَلِيمَ الّتي تَضُمُّ شَعْبَ الرَّبِّ الـمُؤْمِنِ سَتَتَّسِعُ حُدُودُهَا وَتَشْمَلُ الأُمَمْ: "فَتَأْتي شُعُوبٌ كَثيرَةٌ وَأُمَمٌ قَوِيَّةٌ لِالْتِمَاسِ رَبِّ القُوَّاتِ في أُورَشَلِيمَ وَاسْتِرْضَاءِ وَجْهِ الرَّبِّ" (راجع زك 8 / 20-23). أَمَّا شَعْبُ إِسْرائِيلَ "نَسْلُكِ" فَسَيَرِثُ كُلَّ مَا هُوَ لِلأُمَمِ الغَرِيبَةِ، لِأَنَّهُ سَيَغْلِبُ بِوَفْرَةِ عَدَدِهِ، وَبِقُوَّةِ إِيمَانِهِ سَيَجْذِبُ الأُمَمَ إِلى الإِيمَانِ بِالرَّبِّ وَبِعَظَمَةِ مَحَبَّتِهِ وَعَطْفِهِ. وَهَذَا الشَّعْبُ الضَّعِيفُ القَلِيلُ الـمُؤْمِنُ، العَائِدُ مِنْ مِحْنَةِ السَّبِي، سَيُعِيدُ بِنَاءَ مُدُنِ يَهوذَا وأُورَشَلِيمَ الَّتي هَدَّمَهَا الأَعْدَاءُ. هَذِهِ الآيَةُ تُبَشِّرُ بِآفَاقِ خَلاصٍ مَشيحِيِّ مَلِيءٍ بِالـمَجْدِ وَالعَظَمَةِ.
حُضُورُ الرَّبِّ يُعِيدُ الحَيَاةَ وَيُشَدِّدُ العَزِيْمَةَ وَيَنْشُرُ الرَّجَاءَ والأَمَلَ. فَلاَ سَبِيٌ وَلاَ جَلاَءٌ يَمْنَعَانِهِ مِنْ تَحْقيقِ الخَلاَصِ لِلمؤمِنِينَ بِهِ.
5 لأَنَّ صَانِعَكِ هُوَ بَعْلُكِ، وَالرَّبُّ الْقَدِيرُ اسْمُهُ، وَفَادِيكِ هُوَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي يُدْعَى إِلهَ كُلِّ الأَرْض.
هَذِهِ الآيَةُ تَذْكُرُ أَلْقَابَ الرَّبِّ الخَاصَّةِ بِالرِّبَاطِ الَّذي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَدِينَتِهِ "صَانِعُكِ، بَعْلُكِ، فَاديكِ، قُدُّوسُ إِسْرَائِيل"، وَتُعْلِنُ سَبَبًا آخَرَ لِبَهْجَةِ الشَّعْبِ في وَسَطِ آلاَمِهِ. وَكَأَنَّ النَّبِيَّ أَشَعْيَا يُذَكِّرُ الشَّعْبَ بِمحبَّةِ الرَّبِّ لَهُ وَبِقُدْرَةِ أُلُوهِيَّتِهِ، لِيُشَجِّعَهُ عَلَى الوُقُوفِ مِنَ الهَزِيمَةِ وَالرَّغْبَةِ بِالحَيَاةِ مِنْ جَدِيد. كُلُّ الوُعُودِ السَّابِقَةِ (آ 3) إِنَّمَا هِيَ حَقِيقِيَّةٌ، لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ "صَانِعُكِ" الَّذي انْتَقَى شَعْبَ إِسْرائِيلَ مِنْ بَينِ جَميعِ الشُّعُوبِ وَأَعْطَاهُ الحَيَاةَ بِالشَّرِيعَةِ، وَمَدِينَتُهُ أُورَشَلِيمَ هُوَ ثَبَّتَهَا بِحُضُورِهِ فيهَا فَهُوَ سَيِّدُهَا الوَحِيدُ "بَعْلُكِ"، وَلاَ وُجُودَ لِغَيْرِهِ. أللَّقَبُ الآخَرُ "القَدِيرُ اسْمُهُ" يَصِفُ قُدْرَةَ الرَّبِّ واسمِهِ: "وَيَكُون الرَّبُّ مَلِكًا عَلَى كُلِّ الأَرْضِ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ الرَّبُّ وَحْدَهُ وَاسْمُهُ وَحْدَهُ" (زك 14 / 9). وَالرَّبُّ العَظيمُ هُوَ اخْتَارَ أُورَشَليمَ وَمُسْتَعِدٌّ لِأَنْ يَفْدِيَهَا وَيُخَلِّصَهَا "فَادِيكِ". وَيُعَبِّرُ عَنْ مَحَبَّتِهِ الخَاصَّةِ لَها بِجَمْعِ اسْمِهِ بِاسْمِهَا "قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ" فَاخْتَارَهَا مِنْ بَينِ كُلِّ الأَرْضِ كَزَوْجَةٍ لَهُ حَبِيبَةٌ.
6 قَدْ دَعَاكِ الرَّبُّ كَزَوْجَةٍ مَهْجُورَةٍ مَكْرُوبَةِ الرُّوحِ، كَزَوْجَةِ عَهْدِ الصِّبَا الْمَنْبُوذَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ.
7 لَقَدْ هَجَرْتُكِ لَحْظَةً، وَلَكِنِّي بِمَرَاحِمَ كَثِيرَةٍ أَجْمَعُكِ.
8 فِي لَحْظَةِ غَضَبٍ جَامِحٍ حَجَبْتُ وَجْهِي عَنْكِ، وَلَكِنِّي بِحُبٍّ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ، يَقُولُ الرَّبُّ فَادِيكِ.
هَذِهِ الآيَاتُ تَصِفُ مُعَاطَاةَ الرَّبِّ مَعَ مَدِينَتِهِ أُورَشَلِيمَ أَيْ شَعْبِهِ خَاصَّتِهِ، الَّذي خَطِئَ بِابْتِعَادِهِ عَنْ وَصَايَا الرَّبِّ وَالْتِحَاقِهِ بِالغُرَبَاءِ.
فَأُورَشَلِيمُ هِيَ حَبِيبَةُ الرَّبِّ وَيُسَمّيهَا "زَوجَةُ عَهْدِ الصِّبَا" أَي الحَبِيبَةُ الَّتي أَحَبَّهَا مُنْذُ القِدَمِ دُونَ غَيْرِهَا وَقَدْ مَلَكَتْ قَلْبَهُ. هَذِهِ الحَبِيبَةُ خَانَتِ الرَّبَّ مَحْبُوبَهَا بِخَطَايَاهَا، فَسُبِيَتْ بَعِيدًا عَنْهُ "في لَحْظَةِ غَضَبٍ جَامِحٍ حَجَبْتُ وَجْهِي عَنْكِ"، وَأَصْبَحَتْ مَهْجُورَةً، مَكْروبَةً وَمَنْبُوذَةً، وَلَكِن لِلَحْظَةٍ فَقَطْ. مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَضَبُ الرَّبِّ هُوَ لِوَقْتٍ مَحْدُودٍ: "ألرَّبُّ، الرَّبُّ، أللهُ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الأَنَاةِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالوَفَاءِ" (خر 34 / 6)، أَمَّا رَحْمَتُهُ فَأَبَدِيَّةٌ: "بِحُبٍّ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ".
10 إِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ وَالتِّلاَلَ تَتَزَحْزَحُ، أَمَّا رَحْمَتِي الثَّابِتَةُ فَلا تُفَارِقُكِ، وَعَهْدُ سَلاَمِي لا يَتَزَعْزَعُ، يَقُولُ الرَّبُّ رَاحِمُكِ.
فِي النِّهَايَةِ، يُجَدِّدُ الرَّبُّ أَمَانَتَهُ لِعَهْدِهِ مَعَ أُورَشَلِيمَ. فَـمِنَ الـمُمْكِنِ أَنْ تَزُولَ الجِبَالُ أَوْ تَتَزَحْزَحَ التِّلالُ، أَيْ أَنْ تَتَبَدَّلُ الـمَعَالِمُ الجُغْرَافِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَيَتَغَيَّرْ مَعَهُم شَكْلُ الأَرْضِ. لِأَنَّ الخَلِيقَةَ كُلَّهَا خَاضِعَةٌ لِلتَّغَيُّرِ وَالزَّوالِ، أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ وَعَهْدَهُ بِالسَّلاَمِ الشَّامِلِ الـمَشِيحِيِّ، فَلَنْ يَتَبَدَّلَ أَبَدًا. "فَالرَّبَّ هُوَ هُوَ أَمْسِ وَاليَومِ وَإِلَى الأَبَدِ" (عب 13 / 8)، وَلاَ تَغْيِيرَ فِيهِ وَلاَ تَبْدِيلَ. فَالرَّبُّ هُوَ الرَّحِيمُ إِلى الأَبَدِ وَرَحْمَتُهُ ثَابِتَةٌ كَالصَّخْرِ، وَاسْمُهُ "الرَّبُّ رَاحِمُكِ". مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِأُورَشَليمَ كَبِيرَةُ إِلَى هَذَا الحَدِّ، فِيُسَمِّي نَفْسَهُ: "ألرَّبُّ رَاحِمُكِ" عَلاَمَةً وَاضِحَةً أَمَامَ الكَوْنِ وَلِكُلِّ الأَجْيَالِ. إِلاَّ أَنَّهَا مَدْعُوَّةٌ لِلإِيمَانِ بالعُهُودِ الـمَشِيحِيَّةِ الَّتي تُعْلِنُهَا هَذِهِ النُّبُوءَةُ.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
لِنُشَرِّعَ أَبْوَابَ قُلوبِنَا لِاسْتِقْبَالِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ الآتِي لِيَرْحَمَنَا وَيَنْتَشِلَنَا مِنْ كَآبَتِنَا الَّتِي سَبَّبَتْهَا خَطَايَانَا. فَالرَّبُّ قَرِيبٌ مِنَّا دَائِمًا وَأَبَدًا، إِلاَّ أَنَّنَا بِخَطِيئَتِنَا نَهْجُرُهُ، حِينَئِذٍ يُسَيْطِرُ عَلَيْنَا الاضْطِّرَابُ وَالكَآبَةُ.
هَذِهِ النُّبُوءَةُ تُحَاكِي وَاقِعَنَا الغَرِيقَ بِأَمْوَاجِ التَّجَارِبِ، إِلاَّ أَنَّها تَدْعُونا َلْنَنْظُرَ مِنْ خِلاَلِ وُعُودِ الرَّبِّ. فَالرَّبُّ يُحَاوِلُ أَنْ يَكْشِفَ لَنَا عَنْ حُضُورِهِ وَقُرْبِهِ مِنَّا فِي أَوقَاتِ الـمَضَايِق: "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِن، كُلُّ شَيءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلـمُؤْمِن" (مر 9/ 23)، "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لِأنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تَكْمُلُ" (2قور 12 / 9). فَبِالإِيْمَانِ نَنْتَصِرُ عَلى الكَآبَةِ بِالفَرَحِ، عَلَى الهُمُومِ بِالاسْتِسْلاَمِ لِعِنَايَةِ الرَّبّ وَعَلى الـمَوتِ بِالحَيَاةِ. لِأَنَّ الرَّبَّ أَمِينٌ لِوَعْدِ خَلاَصِهِ الَّذي حَقَّقَهُ بِموتِ وَقِيَامَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ المسِيحِ.