الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-10-15
مقدّمة
لقد كتب بولس الرَّسول، الرسالة إلى أهل فيليبّي، إلى الكنيسة الَّتي أحبّ. ونحن نعلم، من خلال قراءة جميع رسائله، أنَّه ما قبلَ مساعدةً ماديَّة من أيَّة جماعةٍ بشرَّها، إلَّا من تلك الَّتي في فيليبّي، لأنَّها كانت كمشاركة في الإنجيل، لا لمصروفه الخاصّ.
ونستشفُّ من خلال هذه الرسالة، كم كان يعوّل على هذه الجماعة، خاصَّةً وأنَّه كتبها وهو في السجن. فأعلن في هذه الرسالة، أنَّ "الحياة لي هي المسيح، والموت ربحٌ لي" (فل 1: 21). لذلك، طلب التواضع على مثال المسيح الإله، الَّذي تنازل من علاه، وذاق الموت على الصَّليب من أجل البشر (راجع نشيد فل 2: 6-11)؛ ويأتي في هذا المقطع، الَّذي يُقرأ في هذا الأحد (فل 2: 12-18)، ليضعنا أمام مفترق طُرق: فإمَّا أن نعيش على خلاف ما علَّمنا إيَّاه المسيح المصلوب القائم، فنعيش على "التذمُّر" وعدم الطَّاعة، أو أن نطيع، فنكون "النيّرات" الَّتي تكسر ظلمة هذا العالم.
13 فَاللهُ هُوَ الَّذي يَجْعَلُكُم تُرِيدُونَ وتَعْمَلُونَ بِحَسَبِ مَرْضَاتِهِ.
بالعودة إلى النصّ اليونانيّ، من المستحسَن ترجمة الآية على النحو التالي: "فالله هو العامِل فيكم، لتريدوا وتملوا بحسب مرضاته". فالفعل اليونانيّ energôn، الـمُترجَم إلى "العامِل"، يعني "طاقة" أو "تنشيط". وقد ورد الفعل مرَّةً أخرى في الآية لترجمة فعل "تعملون" (energeîn). الله هو الَّذي يزوّدهم بالطَّاقة، لكي "يعملوا بحسب مرضاته". فهم يحتاجون إلى الرغبة في أن يعملوا له، وإلى القدرة ليعملوا من أجله. لكنَّ الله لا يفعل فيهم بطريقةٍ عجائبيَّة، بل يضع فيهم الرغبة للعمل، ويحثُّ إرادتهم ليقوموا هم بدورهم.
14 إِفْعَلُوا كُلَّ شَيءٍ بِغَيْرِ تَذَمُّرٍ وَجِدَال،
تشير هنا كلمة "تذمُّر" (باللغة اليونانيَّة goggusmôn)، إلى "التعبير عن الاستياء والشكوى". استخدمت الترجمة السبعينيَّة هذه الكلمة لوصف تذمُّر الإسرائيليّين في البرّيَّة وشكواهم (راجع خر 15: 24؛ 16: 7، 8؛ عد 11: 1؛ 16: 4). استخدم بولس مثال الإسرائيليّين ليقدّم التحذير التَّالي: "لا تتذمَّروا كما تذمَّر أيضًا أناسٌ منهم فأهلكهم الـمُهلِك" (1 قور10: 10).
إنَّ كلمة "جدال"، مُترجَمة من كلمة يونانيَّة مُركَّبة dialogismôn، تجمع حرف الجرّ día مع كلمة logismós، ومعناها "حجَّة" أو "منطق". تشير هذه الكلمة إلى "حجَّة داخليَّة"، ولكن معناها السَّائد، في العهد الجديد، هو "أفكار شرّيرة".
15 لِكَي تَصِيرُوا بُسَطَاءَ لا لَومَ عَلَيْكُم، وأَبْنَاءً للهِ لا عَيْبَ فيكُم، وَسْطَ جِيْلٍ مُعْوَجٍّ ومُنْحَرِف، تُضِيئُونَ فيهِ كالنَّيِّراتِ في العَالَـم،
بعد ذلك، يجب أن يعمل أهل فيليبّي بطريقةٍ مسالِمة. فبعدما قال بولس: "إفعلوا كلَّ شيءٍ بغير تذمُّر وجدال" (فل 2: 14)، استمرَّ قائلًا: "لكي تصيروا بسطاء لا لوم عليكم، وأبناءً لله لا عيب فيكم، وسط جيلٍ معوجٍّ ومنحرف، تُضيئون فيه كالنيّرات في العالم" (فل 2: 15).
استخدم بولس هنا كلمةً غير متوقَّعة "بسطاء"، إذ لا يقدّر الكثيرون في فيليبّي الـ"بسطاء" تقديرًا كبيرًا. بل تتمُّ مساواتهم بالجهلاء، وعديمي الخبرة والسَّاذجين، مع أنَّ وصيَّة الرَّبّ أن نكون "ودعاء كالحمام" (متَّى 10: 16). الكلمة اليونانيَّة akéraioi، المترجَمة إلى "بسطاء"، مكوَّنة من بادئة تدلُّ على النفي a، وفعل keránnumi، أي "يمزج" أو "يخلط"، ومعناها "غير ممزوج" أو "غير مخلوط". كان اليونانيُّون يستخدمون هذه الكلمة للإشارة إلى الخير غير الممزوج بالماء، أو المعدن غير المخلوط بمعادن أخرى. أمَّا هنا، في هذه الآية، فهي تشير إلى لبّ ما يطلبه الرَّبّ: الخير غير الممزوج بالشرّ. ينبغي على أهل فيليبّي أن يكونوا صالحين في الخارج ("لا لوم عليهم")، كما ويجب أيضًا أن يكونوا صالحين من الدَّاخل ("بسطاء").
أمَّا عبارة "لا عيب فيكم"، فتكمّل عبارة "لا لوم عليكم". تُرجِمَت عبارة "لا عيب"، من كلمةٍ يونانيَّة واحدة هي ámemptoi، بإضافة الصيغة السلبيَّة a، مع كلمة mômos، ومعناها "عيب"، أو "غلطة"، أو "سخرية"، أو "عار". ينبغي على أهل فيليبّي أن لا يفعلوا شيئًا يؤدّي إلى سخرية الآخرين، لا بل أن يؤثّروا تأثيرًا حسنًا، في العالم "المعوجّ والمنحَرِف"، من أجل الخير. فإن كانوا بلا لوم، سيضيئون "كالنيّرات". استُخدمَت الكلمة اليونانيَّة "نيّرات" في الترجمة السبعينيَّة، بمعنى "النيّرات" الَّتي في السماء: الشمس، والقمر، والنجوم (راجع تك 1: 14-18). والخلفيَّة المعتمة لكلمة "نيّرات"، الواردة هنا، هي "جيلٌ معوجٌّ ومنحرف". استخدِمَت هذه المصطلحات نفسها، في العهد القديم، لوصف الإسرائيليّين المتمرّدين (راجع تث32: 5).
16 مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الـحَيَاة، لافْتِخَارِي في يَومِ الـمَسِيح، بِأَنِّي مَا سَعَيْتُ ولا تَعِبْتُ بَاطِلاً.
ينبغي أيضًا على أهل فيليبّي، أن يعملوا بثبات. بعدما طلب بولس منهم أن يضيئوا "كالنيّرات في العالم"، أضاف قائلًا: "متمسّكين بكلمة الحياة". يتحوَّل التشبيه بـ"النيّرات"، من النجوم، إلى النُّور الَّذي يُحمَل باليد. يشدّد بولس هنا على إضاءة الطريق للآخرين، لمساعدة الَّذين في العالم ليجدوا الطريق. الكلمة اليونانيَّة epéchontes ، المترجَمة هنا إلى "متمسّكين"، تعني أن يُمسكوا النُّور بطريقةٍ آمنة حتَّى يستطيع الآخرون أن يروا ويتبعوا. وما يجب أن "يتمسَّكوا" به هو "كلمة الحياة"، أي "كلمة الله".
قدَّم بولس باعثًا آخر لأهل فيليبّي، كي يكونوا ثابتين "لافتخاره في يوم المسيح، بأنَّه لم يسعَ ولا تعب باطلًا". تشير هنا عبارة "يوم المسيح" إلى المجيء الثَّاني. أراد بولس أن يكون له في ذلك اليوم، سببٌ ليفتخر. لم تكن لبولس رغبةٌ في الافتخار بنفسه، ولكن أراد أن يفتخر بأهل فيليبّي الثَّابتين والأمناء حتَّى النهاية. وإن كانوا كذلك، فيعرف بولس أنَّه "لم يسعَ ولم يتعب باطلًا".
17 لو أَنَّ دَمِي يُرَاقُ على ذَبِيحَةِ إِيْمانِكُم وخِدْمَتِهِ، لَكُنْتُ أَفْرَحُ وأَبْتَهِجُ مَعَكُم جَمِيعًا.
18 فَافْرَحُوا أَنْتُم أَيْضًا وابْتَهِجُوا مَعِي.
أشار بولس في الآيتَين الأخيرَتين من هذا النصّ، إلى أنَّه كان واثقًا بأنَّ جهوده مع أهل فيليبّي لن تكون عبثًا. ينتهي النصُّ بفكرةٍ رئيسيَّة متكرّرة عن الفرح. وردت الكلمة اليونانيَّة للفرح (chará)، أربع مرَّات في الآيتَين ("أفرح"، و"أبتهج" (فل 2: 17)؛ "افرحوا" و"ابتهجوا" (فل 2: 18).
استخدم بولس هاتَين الآيتَين للتشبيه بالذَّبيحة الَّتي يقدّمها الكاهن. بدأ بالحديث عن نفسه، بأنَّه كان "يُراق سكيبًا" من أجل أهل فيليبّي. لقد استخدم هذا المصطلح نفسه في وقتٍ لاحق، خلال سجنه الثَّاني في روما، بعدما حُكم عليه بالموت (راجع 2 طيم 4: 6). استخدم بولس، باللغة اليونانيَّة، الفعل المضارع، ليدلَّ على مدى تفكيره بالفكرة باستمرار.
استمرَّ بولس في التشبيه الكهنوتيّ بالحديث عن "الدم المراق على ذبيحة إيمان وخدمة" أهل فيليبّي. اعتبر بولس "دمه الَّذي كان سيُسفَك" مثل قربان خمرٍ مسفوكٍ أمام الله (راجع ما يختصّ بقرابين اليهود في عد 15: 5، 7، 10؛ 28: 7، 14؛ هو 9: 4). كذلك، إيمان أهل فيليبّي، لا يعني قبولهم المسيح، وتوكّلهم عليه وحسب، بل يعني كلّ ما عبَّروا به عن إيمانهم. اعتبر بولس الإيمان المطيع، الَّذي كان لأهل فيليبّي كذبيحة مقدَّمة لله (راجع روم 12: 1، 2؛ عب 13: 15، 16). وبالتالي، ينتهي النصّ بنغمة "فرح" مشترك، بين بولس وأهل فيليبّي.