الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-08-06
2 تَعْلَمُونَ أَنَّكُم، عِنْدَمَا كُنْتُم وَثَنِيِّين، كُنْتُم تَنْقَادُونَ مُنجَرِفِينَ إِلى الأَوْثَانِ البُكْم.
كانت عبادة الأوثان وراء حوار بولس في الفصول السابقة لهذا النصّ، ولكنَّ الكلمات الواردة هنا هي جزءٌ من انتقاله إلى الحديث عن سلوك المسيحيّين أثناء الاجتماع للعبادة. ركّز بولس على الاختلافات الجوهريَّة في السلوك بين الَّذين يعتبرون الأوثان كآلهةٍ من جهة، والَّذين يعترفون بإله الكون الواحد الحقيقيّ، وأبو ربّنا يسوع المسيح الناصريّ. بالنسبة إلى اليهود أمثال بولس، كان لهذا التباين جذورًا عميقة في التاريخ اليهوديّ والأسفار المقدَّسة (راجع أش 44: 9-11؛ إر 10: 1-5؛ مز 115: 3-8). فكان البعض من أهل قورنتس قد خدموا "الأوثان البُكم"، الَّتي كانت عديمة القوَّة والتأثير لأنَّها لم تكن موجودة. لا يجب الخلط بين المواهب الروحيَّة الَّتي يتمتّع بها المسيحيُّون وبين ممارسات العبادة الوثنيَّة. ربَّما كانت للنبوءة، أو الشفاء، أو التكلُّم بالألسنة تشابهٌ سطحيّ مع الطقوس الوثنيَّة. لكن ما كان يختبره هؤلاء المسيحيُّون كان مختلفًا اختلافًا جوهريًّا.
3 لِذلِكَ أُعْلِنُ لَكُم أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَنْطِقُ بِرُوحِ الله، ويُمكِنُهُ أَنْ يَقُول: "يَسُوعُ مَحْرُوم!"؛ ولا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَقُول: "يَسُوعُ رَبّ!" إِلاَّ بِالرُّوحِ القُدُس.
ما أراد بولس أن يعرّف به الإخوة قد يبدو غامضًا في بادئ الأمر. لا يمكن تصوُّر أنَّ "مَن ينطق بروح الله" سيقول: "يسوع محروم" (anáthema Iêsou). كلام بولس هذا يدلُّ أنَّه كان هناك من يفعل شيئًا كهذا، وإلَّا لكان تحذيره زائدًا عن اللُّزوم. إن كان هناك بعض النَّاس يتوسَّلون إلى "روح الله" ويقولون "يسوع محروم"، فمن كانوا، وما الَّذي كان يدفعهم إلى ذلك؟
ربَّما لم يقصد بولس أن يعني ضمنًا أنَّ كلَّ مَن "يتكلَّم بروح الله" سيفعل ذلك. ربَّما كان يردُّ على اعتراضاتٍ طرحها البعض حول ممارسة المواهب الَّتي تبدو مُشابهة للتكلَّم بالألسنة والتنبؤ اللَّذان كانا يُمارسَان بين الطوائف الوثنيَّة. بالمظهر، لم تكن تلك الممارسات تتميَّز تمامًا بعبادة الله. كانت العواطف الـمُفرِطة والكثيرة بين عبَّاد ديونيسوس (إله الخمر عند قدماء الإغريق) وسيبيلي (إلهة الطبيعة عند قدماء شعوب آسيا الصغرى) سيّئة السُّمعَة. ربَّما كان بعض المسيحيّين يعترضون على التكلُّم بالألسنة، لأنَّ الَّذين يعبدون الأوثان كانوا يتصرَّفون بطرائق مماثِلة. إن كان هذا السبب هو الَّذي أدَّى إلى كلام بولس هنا، فإنَّه كان يدافع عن الَّذين يمارسون مواهب الروح؟ ربّما كان التكلُّم بالألسنة يُذكّر الـمُستمعين بجنون أنصار الآلهة الوثنيَّة. لكنَّ قوَّة الروح القدس قد جعلت التكلُّم بالألسنة مختلفًا تمامًا. لم تكن القوَّة الإلهيَّة الَّتي تعمل في المسيحيّين مثل التهييج الَّذي كان يحرّك عبَّاد الأوثان. لا أحد "يتكلَّم بروح الله"، يوقل ما كان يقوله عبَّاد الأوثان: "يسوع محروم". علاوةً على ذلك، الَّذين يعلنون من كلّ قلوبهم أنَّ "يسوع ربّ"، يَبَانُ أنَّهم تحت تأثير الروح القدس.
4 إِنَّ الـمَوَاهِبَ الرُّوحِيَّةَ عَلى أَنْوَاع، لـكِنَّ الرُّوحَ وَاحِد؛
كان الوحدة بين المؤمنين موضِع اهتمام بولس منذ افتتاحيَّة رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (راجع 1 قور 1: 10؛ 3: 3). لم يسأل هؤلاء الإخوة عن الوحدة؛ بل سألوا عن المواهب الروحيَّة وكيفيّة ممارستها وأهميَّتها. غير أنَّ بولس اعتبر هذه الأسئلة على أنَّها تحت موضوع الوحدة في جسد المسيح.
على ما يبدو، كانت "المواهب" (charísmata) الَّتي يقصدها بولس هنا هي نفسها "المواهب الروحيَّة" (pneumatikón) الَّتي كان قد ذكرها قبلًا (راجع 1 قور 12: 1). اختار بولس بحرصٍ كلمة charísma لتعني "مواهب". وهي تشترك في النطاق نفسه لمعنى كلمَتَي "نعمة" (charis) و"فرح" (chara). باستخدام هذه المصطلحات، كان بولس يشيير إلى أنَّ المواهب الَّتي أشار إليها، تمَّ توزيعها مِن قِبَل الله إضافةً إلى النعمة والفرح اللَّتان تُلازمان الاعتراف بالمسيح ربًّا.
رسَّخ "الروح الواحد" جميع المسيحيّين في قورنتس في جسدٍ واحد، بغضّ النظر عن طبيعة المواهب الفرديَّة. لذا رأى بولس من الضروريّ وضع حدٍّ للمنافسة بخصوص من يعتبر موهبته أفضل من الآخر.
5 والـخِدَمَ عَلى أَنْوَاع، لـكِنَّ الرَّبَّ وَاحِد؛
6 والأَعْمَالَ القَدِيرَةَ عَلى أَنْوَاع، لـكِنَّ اللهَ وَاحِد، وهوَ يَعْمَلُ في الـجَمِيعِ كُلَّ شَيء.
كانت "الخدمة" (diakonía) هي القصد من جميع المواهب الَّتي منحها الروح القدس، لأنَّ الربَّ هو مصدر كلّ خير. قال بولس إنَّه لا ينبغي للمسيحيّين أن يستغربوا بأنَّ هناك "خدَمًا على أنواع"، أو مواهب مختلفة، و"ربًّا واحدًا" يمنحُها. كان ينبغي على الإخوة أن يرَوا التنوُّع في مواهبهم، ويربطوها بمختلف "الخِدَم" الَّتي منحهم الرَّبُّ إيَّاها. فكان البعض رسلًا، والبعض شيوخًا، والبعض شمامسةً، والبعض مبشّرين (راجع 1 قور 12: 29؛ أف 4: 11). كانت الجهوزيَّة للخدمة هي النتيجة عندما قام الله بتوزيع مواهب الروح المختلفة.
يعطي "الروح الواحد"، ويسوع "الرَّبُّ الواحد"، و"الله الواحد"، "أنواع مواهب"، و"أنواع خِدَم"، و"أنواع أعمال" للمسيحيّين (1 قور 12: 4-6). إنَّ امتلاك موهبةٍ روحيَّة لم يكن علامةً على أنَّ الشخص يعيش على مستوىً روحيّ أرفع، ولا أنَّه وجد نعمةً خاصَّة عند الله. كانت المواهب الروحيَّة من أجل بنيان الكنيسة، لا لتباهي الأفراد. بِنَسْبِ كلّ هذه الأعمال إلى الله الآب، والمسيح، والروح القدس، شدَّد بولس على وحدة الثَّالوث الأقدس، لأنَّ همَّه كان أن يدعم المسيحيُّون بعضهم بعضًا، ويشجّعوا بعضهم بعضًا، ويجتمعوا معًا في جسدٍ واحد.
7 وكُلُّ وَاحِدٍ يُعْطَى مَوْهِبَةً يَتَجَلَّى الرُّوحُ فيهَا مِنْ أَجْلِ الـخَيْرِ العَام.
قال بولس إنَّ مواهب الروح كانت "من أجل الخير العام". لم يعطِ الله "تجلّي الروح" بغية تمجيد الأشخاص الَّذين يمارسونها. وبعيدًا عن أن تكون مواهب الروح سببًا للتنافس والانشقاق بين الإخوة، كان ينبغي أن تكون لمنفعة الجميع. وبدلًا من أن يكون عمل الروح القدس اختبارًا معزولًا، إلَّا أنَّه لتوحيد المؤمنين مع بعضهم البعض وتقوية الجسد.
سبَّب سلوك أهل قورنتس، في امتلاكهم للمواهب الروحية، وطريقة استخدامها، مشكلةً أساسيَّة في انقسام الكنيسة. وتحديد هذه المواهب، في الآيات التالية (1 قور 12: 8-10)، يقدّم نظرةً ثاقبة في مدى الانشقاقات الَّتي أصابت كنيسة قورنتس.
8 فوَاحِدٌ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَم الـحِكْمَة، وآخَرُ كَلاَمَ الـمَعْرِفَة، وَفْقًا لِلرُّوح عَيْنِهِ؛
لم يبدأ بولس بالمواهب الـمُذهِلة الَّتي كان أهل قورنتس يقدّرونها كثيرًا، ويتنافسون من أجلها. بل بدأ بالمواهب العاديَّة جدًّا "كلام الحكمة" و"كلام المعرفة"، ولكنَّها ذات قيمة لمصلحة الجسد. ربَّما "كلام الحكمة" الَّذي يُشير إليه بولس هنا، فهمه أهل قورنتس على أنَّه القدرة لرؤية آثار العلم المكشوف من خلال موهبة التنبؤ أو كلام العلِم. أو بتعبيرٍ آخر، القدرة على إرشاد الآخرين في كيفيَّة تطبيق كلام الحكمة على حياة الأفراد والجماعات الكنسيَّة. لكن ما يتَّضح من كلام بولس حول "الحكمة" و"المعرفة"، هو أنَّه لا يجب الخلط بينهما وبين حكمة الناس. فعِلمُ هذا الدهر لا علاقة له بمواهب الروح.
9 وآخَرُ الإِيْمَانَ في الرُّوحِ عَيْنِهِ؛ وآخَرُ مَوَاهِبَ الشِّفَاءِ في الرُّوحِ الوَاحِد؛
كان "الإيمان"، كالــ"الحكمة" و"المعرفة"، عطيَّةً طبيعيَّة، من المتوقَّع أن تكون لكلّ مسيحيّ. غير أنَّ "الإيمان" هنا، كان عطيةً خاصَّة "في الروح الواحد". فالإيمان كعطيَّة روحيَّة، هو القدرة على مقاومة التجارب، أو مواجهة تحدّياتٍ استثنائيَّة للإيمان.
بعد التعامل مع مظاهر الروح الأقل إثارة للدهشة (المواهب الَّتي ربَّما لم تُثِر أيَّة غيرةٍ ليدَّعي الشخص امتلاكها)، انتقل بولس إلى الحديث عن المواهب الَّتي كان يتنافس عليها أهل قورنتس. بإعطاء الإيمان، والحكمة، والعلم، أولويَّةً على "مواهب الشفاء"، أظهر بولس ليس فقط أنَّ كلَّها كانت مواهب إلهيَّة، بل أيضًا أنَّ تلك الَّتي ورد ذكرها أوَّلًا كانت مرغوبةً أكثر.
قد يكون استخدام بولس لصيغة الجمع في عبارة "مواهب الشفاء" مسألة أسلوبٍ مبسَّطٍ فقط، لكنَّ سياق النصّ يشير إلى أهميَّة كبرى في استعمال صيغة الجمع. ربَّما كان البعض لم يستطع شفاء المرضى إلَّا عندما تكون هناك ظروفٌ معيَّنة. الواضح، هو أنَّ "مواهب الشفاء" المختلفة كانت تسمح للَّذين يمتلكونها أن يكون لهم السيادة في الكنيسة. شدَّد بولس على أنَّ هذا لم يكن القصد من وراء المواهب؛ كانت جميع مواهب الروح من أجل بنيان الجسد كلّه، لأنَّ ذِكر "مواهب الشفاء" يُقدّم سلسلةً من القدرات الَّتي تثير ممارستها ضجَّةً في أَّة جماعةٍ مسيحيَّة.
10 وآخَرُ الأَعْمَالَ القَدِيرَة، وآخَرُ النُّبُوءَة، وآخَرُ تَمْييزَ الأَرْوَاح، وآخَرُ أَنْوَاعَ الأَلْسُن، وآخَرُ تَرْجَمَةَ الأَلْسُن.
قد يكون بولس قد وضع العطايا الروحيَّة الأقل شهرةً أوَّلًا (الحكمة، والمعرفة، والإيمان)، لكي يشدّد على أهميَّتها وليقلّل من أهميَّة المواهب الَّتي تُثير أهل قورنتس. موهبة "الأعمال القديرة" واسعة جدًّا وتشمل المواهب التالية. قد يتوقَّع القارئ أن تسبق "مواهب الشفاء"، لا أن تتبعها، لأنَّ هذه الأخيرة من المواهب الَّتي تُثير أهل قورنتس بالأكثر. ربَّما كان المسيحيُّون الَّذين في قورنتس يسعون إلى غيرها من المواهب. لكن بسبب الرغبة الشخصيَّة في إطالة أمدِ الحياة، كانت قوَّة الشفاء هي اشتهاءٌ أعظم من جميع المواهب الَّتي كان يوزّعها الروح.
بعد ذِكر "الأعمال القديرة"، جزَّأ بولس المواهب العجائبيَّة إلى مظاهرها المنفصلة كما كان يختبرها المسيحيّون في قورنتس. من بين هذه المواهب العجائبيَّة "النبوءة". كان للأنبياء احترامٌ خاصّ في الكنيسة الأولى. فإنَّهم كانوا يؤدُّون خدماتٍ حيويَّة (راجع أف 2: 20؛ 4: 11). لكن كان بإمكان النَّاس أن يدَّعوا بأنَّ لهم رسالةً من الله بينما كانوا في الحقيقة بتكلَّمون من عقولهم الخاصَّة. لذلك، كان من المناسب للرُّوح أن يمنح النَّاس موهبة "تمييز الأرواح".
كان المسيحيُّون في قورنتس يتنافسون على القدرة على التكلُّم بــ "أنواع الألسن". أدرك بولس أنَّ تلك الألسن كانت من "أنواعٍ" مختلفة. ما يُسمَّى بــ"التكلُّم بالألسن"، هو التكلُّم بلغةٍ واضحة المعنى، لبنيان الكنيسة، ولذا تحتاج إلى ترجمةٍ أو تفسير. بينما سوء استعمال الموهبة يُحدِثُ أصواتًا منطوقة متلعثمة بلا معنى، وبلا مغزى.
11 كُلُّ هـذَا يَعْمَلُهُ الرُّوحُ الوَاحِدُ عَيْنُهُ، مُوَزِّعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مَوَاهِبَهُ كَمَا يَشَاء.
تلوح وحدة جسد المسيح في خلاصة بولس للمواهب. فقد كتب قائلًا: "كلُّ هذا يعمله الروح الواحد عينه، موزّعًا لكلّ واحدٍ مواهبه كما يشاء". لذلك، إن تنافسَ المسيحيُّون للحصول على مزيدٍ من المواهب المرغوب بها، فسيؤدّي بهم الأمر إلى سوء فهمٍ لمواهب الروح الموزَّعة، وإلى سوء استخدامها.