الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-06-25
12 وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ العَالَم، بَلِ الرُّوحَ الَّذي مِنَ الله، حَتَّى نَعْرِفَ مَا أَنْعَمَ بِهِ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ مَوَاهِب.
الحكمة الَّتي بشَّر بها بولس في قورنتس، كانت نتيجة مشاركة أهلها في "الروح الَّذي من الله". لذا، كشفُ الله عن ذاته، مختلفٌ تمامًا عن الحكمة الآتية من "روح العالم". فــ "روح العالم" هو فكرةٌ مجرَّدة ميَّالة إلى الاكتفاء الذاتيّ. وبينما يزعم النَّاس أنَّهم حكماء، أصبحوا مأسورين مِن قِبَل "روح العالم"، وأثبتوا أنَّهم جهلاء (راجع روم 1: 22).
على عكس "روح العالم"، فإنَّ "الروح الَّذي من الله" هو متميّزٌ ويكشف عن الله الحقيقيّ. لقد سكب "الروح الَّذي من الله" محبَّة الله في قلوب البشر" (روم 5: 5). وقد مكَّن هذا الروح المؤمنين في قورنتس من التعرُّف إلى الأصوات الخادعة والمدمّرة ليميّزوا "ما أنعم به الله عليهم من مواهب".
كان هدف بولس طمأنة أولئك المسيحيّين. قد لا تكون لرسالة الصَّليب زخارف الحكمة الدنيويَّة. ولكن ينبغي عدم رفضها، لأنَّه من خلاله يعمل "الروح الَّذي من الله" ليهب المؤمنين المطيعين معرفةً للعطايا الصَّالحة الَّتي وعد بها الله شعبه، والَّتي لا يستطيع "روح العالم" أن يقدّمها.
13 ونَحْنُ لا نَتَكَلَّمُ عَنْ تِلْكَ الـمَوَاهِبِ بِكَلِمَاتٍ تُعَلِّمُهَا الـحِكْمَةُ البَشَرِيَّة، بَلْ بِكَلِمَاتٍ يُعَلِّمُهَا الرُّوح، فَنُعَبِّرُ عَنِ الأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ بِكَلِمَاتٍ رُوحِيَّة.
كان بولس قد أعلن لأهل قورنتس "الأشياء الموهوبة من الله" بواسطة الروح القدس. وهنا يتكلَّم عليها قائلًا: "بكلماتٍ يعلّمها الروح". كان بولس يعلم أنَّ الروح يعمل من خلاله لإيصال ما قاله وكتبه (راجع أف 3: 3، 4). كان يجب أن يتلقَّى أهل قورنتس، ما كتبه بولس، كوصيَّةٍ من الله (راجع 1 قور 13: 37). لم تكن تحذيراته لأهل قورنتس "بكلماتٍ تعلّمها الحكمة البشريَّة، بل بكلماتٍ يعلّمها الروح". الأقوال الَّتي تجد مصدرها في الروح القدس، تشفي جراح كنيسة قورنتس، لأنَّها تضع أعضاء الجماعة في مسارٍ سليم ليكونوا "ملتئمين بفكرٍ واحدٍ ورأيٍ واحد" (1 قور 1: 10).
14 فَالإِنْسَانُ الأَرْضِيُّ لا يتَقَبَّلُ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ الله، لأَنَّ ذلِكَ عِنْدَهُ حَمَاقَة، ولا يَسْتَطيعُ أَنْ يَعْرِفَ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ الله، لأَنَّ الـحُكْمَ في ذلِكَ لا يَكُونُ إِلاَّ بِالرُّوح.
15 أَمَّا الإِنْسَانُ الرُّوحَانِيُّ فَيَحْكُمُ عَلى كُلِّ شَيء، ولا أَحَدَ يَحْكُمُ عَلَيْه.
16 فَمَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ لِيُعَلِّمَهُ؟ أَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الـمَسِيح!
عندما يلبس الانسان المسيح في المعموديَّة، يصبح تلميذًا له. لكنَّ الانسان، بدلًا من حبّ المسيح والثقة به، يميل إلى التراجع عندما يواجه الخصومات الَّتي في العالم. يتناول بولس هذا الموضوع في هذه الآيات (1 قور 2: 14-16)، مبيًّنًا أنَّ "الانسان الأرضي" (2 قور 2: 14)، الَّذي يعيش على مستوىً سطحيّ، تكون فيه الرغبة الطبيعيَّة هي المسيطرة. يأكل، وينام، ويسعى إلى المتعة، ويجاهد من اجل الامتيازات، ويهتمُّ بقليلٍ من المحبَّة والأخلاق والسبب في وجوده. كلُّ ما يُتاحُ له من المفاهيم حول طبيعة الكون أو البشر، يستحضره في ذهنه من خلال تكهُّناته الخاصَّة. وهذه التكهُّنات تُلقَّب بــ "فلسفة". بالنسبة إلى مثل هذا الانسان، يأتي كشف الله عن ذاته غير متَّصلٍ بماهية الحياة. لذلك، فإنَّه لا يقبل كلمة الله، إذ يعتبرها حماقة. بينما الله في تباينٍ مع ذلك، ينظر إلى الامتيازات والتكهُّنات المتمحورة حول الذات كحماقة (راجع 1 قور 3: 19).
لذا، لا توجد أرضيَّةٌ مشتركة بين "الانسان الأرضيّ" و"الانسان الروحانيّ" (1 قور 2: 15). وهذا يفسّر لامبالاته بالصَّليب أو عداءه له. والاهتمام الروحيّ "عنده حماقة" (1 قور 2: 14). فإن اعتمد الانسان على حكمة جسده، سيفتقر إلى الموارد اللّازمة لتقييم كشف الله عن ذاته وتقديره. ما كشف عنه "روح الله" يجب ألَّا يُحكَم فيه "إلَّا بالروح" (1 قور 2: 14).
أكَّد بولس لمؤمني قورنتس أنَّهم عندما سمحوا لأنفسهم بأن يتعلَّموا من "روح الله"، كانوا يشاركون في المعرفة الإلهيَّة؛ ولا يمكن فهم هذا التمييز إلَّا من الداخل.
فئتا الناس، المذكورتان في هذه الآيات: "الروحيّين" (pneumatikoí)، أي المتجدّدين الناضجين روحيًّا، وبالتالي يساندون بولس؛ و"الأرضيّين" (psuchikoí)، أي غير الناضجين؛ ينظر إليهما بولس على أنَّهما الجماعة نفسها، الَّتي تسير "بحسب الجسد"، ولكنَّه يراها من جانبَين مختلِفَين. فكلتاهما تخدمان رغباتٍ جسديَّة وغير مباليَتَين بدعوة الله الَّتي تقودهم إلى حياةٍ أسمى. فإنَّ كلَّ العظمة، والثروة، والحكمة الفلسفيَّة، وقدرة العالم، مرفوضة تمامًا مِن قِبَل الله، ويجب أن يرفضها شعب الله.
ميَّز بولس هنا بين نوعين من الناس: "الأرضي" و"الروحيّ"، غير أنَّه لم يصف نموّ الانسان وكيفيَّة انتقاله من فئةٍ إلى أخرى. لكن إن أخذنا بشارة بولس ، وإرشاداته إلى أهل قورنتس، بعين الاعتبار، نفهم أنَّه ما من "إنسانٍ أرضيّ" من دون توبة، وما من "إنسانٍ روحانيّ" من دون سقوط. لكن إن عاش الانسان وفقًا لمتطلّبات الإنجيل، وحزم أمره في خياراته، تغيّر ونما لكي يصير إنسانًا روحانيًّا، لأنَّ "روح الله" يسكن فيه، ويجعله "يحكم على كلّ شيء" (1 قور 2: 15)، أي أن يميّز بين ما يُكرِم الله ويرفع عبءَ الخطيئة، وما يشلُّ ويهلك.
"فمَن عرف فكر الرَّبّ ليُعلّمه؟" (1 قور 2: 16)، سؤالٌ اقتبسه بولس من العهد القديم (أش 40: 13). من الواضح أنَّه لا أحد يعرف "فكر الرَّبّ". الإجابة على مثل هذا السؤال، لا تترك مجالًا للجدال. أكَّد بولس أنَّه من المستحيل "للانسان الأرضيّ"، بحكمته الطبيعيَّة، أن يفحص فكر "الانسان الروحانيّ"، كما يستحيل لأيّ إنسانٍ أن يفحص فكر الله، وأن يكون له مشيرًا. يشارك المؤمنون في "فكر المسيح" (1 قور 2: 16) في كون أنَّ الرَّبَّ قد اختار الكشف عن ذاته. فلا يقترب "الانسان الأرضيّ" من معرفة فكر "الانسان الروحانيّ" إلَّا بقدر اقترابه من معرفة فكر الله.
بعدما اقتبس بولس من سفر أشعيا النبيّ، أكَّد قائلًا: "أمَّا نحن فلنا فكر المسيح" (1 قور 2: 16). باستخدام ضمير المتكلّم الجمع "نحن"، أظهر بولس أنَّه يدرك مشاركته في واقعٍ روحيٍّ مُشتَرك مع أهل قورنتس. فأن يكون للإنسان "فكر المسيح"، يعني أن يتوب عن الخطيئة، ويتَّخذ موقفه تحت الصَّليب، ويتخلَّى عن التباهي والاكتفاء الذاتيّ. إنَّ الخلاف حول مسائل الرأي والانشقاقات بسبب المعلّمين المفضَّلين؛ كلُّها أمورٌ لم تكن متماشية على الإطلاق مع "فكر المسيح". إذا كان على أهل قورنتس أن يتغلَّبوا على المشاكل الَّتي أصابتهم، فينبغي أن تكون نقطة البداية هي الرغبة في أن يتحلَّوا بالتواضع.