في أحد الثَّالوث الأقدس، وهو الأحد الثَّاني من زمن العنصرة، نقرأ من رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما (11: 25-36). نجد في هذا المقطع، أنَّ القدّيس بولس الَّذي اختبر حكمة الرومانيّين، الَّتي هي محض بشريَّة، يُقابلها تفكيرٌ آخر هو "حكمة الله ومعرفته" (روم 11: 33)، على مستوىً آخر لا يُدرَك. ونحن اليوم لا نقلُّ حكمةً عن الرومان. فمار بولس الَّذي وجَّه رسالته إلى أهل روما، يوجّهها إلينا اليوم وفي طيَّاتها فحوى البيت الشعريّ الشَّهير: "وقلْ لمن يدّعي بالعلم فلسفةً، علِمتَ شيئًا وغابت عنكَ أشياءُ".
الأقسام الرئيسيَّة لهذا النصّ (روم 11: 255-36)، مأخوذة من كلماته الافتتاحيَّة: "لا أريد أيُّها الإخوة أن تجهلوا..." (روم 11: 25). تكلَّم بولس على بعض الحقائق الَّتي يمكن أن نعرفها عن الخلاص وعن الله. لكنَّه ذكر أيضًا بعض الحقائق الَّتي لا يمكن أن نعرفها لأنَّها تفوق العقل البشريّ.
ما يمكن أن نعرفه أوَّلًا، هو أنَّ الله وضع تدبيرًا خلاصيًّا لشعبه. يبدأ النصّ على النحو التَّالي: "لا أريد أيُّها الإخوة، أن تجهلوا هذا السرّ، لئلَّا تكونوا حكماء في عيون أنفسكم، وهو أنَّ التصلُّب أصاب قسمًا من بني إسرائيل، إلى أن يؤمن الأمم بأكملهم. وهكذا يخلص جميع بني إسرائيل، كما هو مكتوب: "من صهيون يأتي الـمُنقِذ، ويردُّ الكفر عن يعقوب؛ وهذا هو عهدي معهم، حين أزيلُ خطاياهم" (روم 11: 25-26).
تشير كلمة "سرّ" (روم 11: 25) إلى ما لم يكن معلومًا في الماضي، ولكنَّ الله كشف عنه. فجزءٌ من السرّ العجيب (الوحي) هو استخدام الله قبول الأمم للإنجيل ليحثَّ اليهود على الإيمان (راجع روم 11: 25-26أ). دعَم بولس قوله هذا "بما هو مكتوب" في العهد القديم: "من صهيون يأتي الـمُنقِذ، ويردُّ الكفر عن يعقوب" (روم 11: 26ب-27). هذا الاقتباس مأخوذٌ من عدَّة مراجع في العهد القديم. المرجع الأساسيّ هو النبيّ أشعيا (59: 20، 21)، الَّذي تنبّأ بتجديد إسرائيل. طبّق بولس هذه الكلمات على يسوع الَّذي يوفّر الوسيلة لليهود كي يرجعوا إلى الله. هناك أيضًا مرجعٌ آخر من أشعيا النبيّ (27: 9)، يذكّر القارئ بوعد النبيّ إرميا بــ "عهدٍ جديد" (إر 31: 31).
إن قارنّا الاقتباس الوارد في الرسالة إلى أهل روما مع النصوص الواردة في العهد القديم، الَّتي عرضناها أعلاه، نجد ما يلي: أحد الفروقات الأكثر وضوحًا بين مراجع العهد القديم واقتباس بولس هو أنَّ أشعيا قال: "ويأتي الفادي من صهيون" (أش 59: 20)، بينما قال بولس: "من صهيون يأتي الـمُنقِذ" (روم 11: 26). وما تبديل كلمة "فادي" بكلمة "مُنقذ" سوى أنَّ سياق النصّ من الرسالة إلى أهل روما يتعلّق بالمجيء الأوَّل للمسيح عندما "صار جسدًا"، قبل أن يتمَّ الفداء. زد على ذلك، أراد بولس أن يبيّن أنَّ الأنبياء كانوا قد تنبّأوا بأنَّ "المنقذ/الفادي" (أي المسيح) كان سيأتي ليخلّص إسرائيل (أي ليُعيدهم إلى مقاصد الله)، بيسوع المسيح.
28 فَهُم مِنْ جِهَةِ الإِنْجِيلِ أَعْدَاءٌ مِنْ أَجْلِكُم، أَمَّا مِنْ جِهَةِ إخْتِيَارِ الله، فَهُم أَحِبَّاءُ مِنْ أَجْلِ الآبَاء؛
29 لأَنَّ اللهَ لا يَتَرَاجَعُ أَبَدًا عَنْ مَوَاهِبِهِ ودَعْوَتِهِ.
يمكننا أن نعرف ثانيًا، ما يختصُّ بالخلاص، أي إنَّ الله ما زال يريد لليهود أن يخلُصوا. قال بولس الرسول: فهُم (اليهود) من جهة الإنجيل أعداءُ من أجلكم (الأمم)، أمَّا من جهة اختيار الله، فهم (اليهود) أحبَّاء من أجل الآباء؛ لأنَّ الله لا يتراجع أبدًا عن مواهبه ودعوته" (روم 11: 28-29).
تبدأ الآية 28 هكذا: "فهم من جهة الإنجيل أعداءٌ من أجلكم". كان الَّذين صلبوا يسوع هم رعاع من اليهود يقودهم قادتهم. وبعد انطلاقة الكنيسة، عارض معظم اليهود بشدَّة الكرازة عن يسوع (راجع على سبيل المثل، أعمال 17: 5، 13). لو كان بعضهم قد حقَّق أمنيته، لأسكتوا كلَّ مبشّرٍ بالإنجيل، ولَمَا أُتِيحَت لكلّ منَّا الفرصة ليصل الإنجيل إليه. هذا التأكيد يُذكّر بالحقيقة المذكورة عدَّة مرَّاتٍ في الفصل الحادي عشر من الرسالة إلى أهل روما، وهي: إنّ رفض اليهود الإنجيل قد أتاح الفرصة للأمم كي يقبلوا الإنجيل ويخلصُوا.
لكن ما هي الخلاصة الَّتي يجب التوصُّل إليها من حقيقة أنَّ اليهود كانوا "أعداء الإنجيل" (روم 11: 28)، وبالتَّالي أعداء المسيح الَّذي أتى بالإنجيل (البشرى السَّارة)؟ يمكننا توسيع الجزء الأوَّل من الآية 28 على النحو التالي: "هم أعداء من جهة الإنجيل" ولم يستحقُّوا غير العقاب. فلماذا لم يمحُهم الله ببساطةٍ عن وجه الأرض؟ ينقلنا هذا السؤال إلى الجزء الثَّاني من الآية 28: " أمَّا من جهة اختيار الله، فهم أحبَّاء من أجل الآباء". تشير كلمة "اختيار" هنا إلى اختيار الله لإسرائيل ليكون شعبه المختار الَّذي به سيتمّم مشيئته. فهل كانوا أحبَّاء لأنَّهم كانوا محبوبين، أو لأنَّهم أبدوا المحبَّة دائمًا نحو الرَّبّ؟ كلَّا، بل كانوا "أحبَّاء من أجل الآباء". كان إبراهيم من الآباء (راجع روم 4)، لا بل "خليل الله" (2 أخ 20: 7؛ أش 41: 8؛ يع 2: 23).
كان الله قد وعد إبراهيم بوعودٍ معيَّنة، ولم يتراجع عمَّا وعد به "لأنَّ الله لا يتراجع أبدًا عن مواهبه ودعوته" (روم 11: 29؛ راجع أيضًا عد 23: 19). عبارة "لا يتراجع أبدًا عن" مُترجمة هنا من كلمةٍ يونانيَّة (metamélêta) معناها في الأساس "الندامة، التأسُّف، والتوبة" ويسبقها حرف النَّفي اليونانيّ (alpha). وكلمة "توبة" معناها ببساطة "تغيير الفكر". لم يغيّر الله فكره بما يختصُّ بالوعود الَّتي كان قد وعد بها إبراهيم، لأنَّ نسل إبراهيم لم يكُن كما ينبغي له أن يكون، بل تمَّم الله كلَّ ما وعد به اليهود (راجع الفصول السابقة من الرسالة إلى أهل روما). لذلك، إن أردنا فهم ما يقول الرسول بولس يمكننا توسيع الجزء الأخير من الآية 28 على الشكل التالي: " أمَّا من جهة اختيار الله، فهم أحبَّاء من أجل الآباء"، ويعطيهم الله الآن فرصةً أخرى ليسمعوا الإنجيل ويقبلوه، بغضّ النظر عمَّا عملوه سابقًا. لأنَّ الله ما زال يريدهم أن يخلصوا (راجع روم 11: 29).
30 فكَمَا عَصَيْتُمُ اللهَ أَنْتُم في مَا مَضَى، وَرُحِمْتُمُ الآنَ مِنْ جَرَّاءِ عُصْيَانِهِم،
31 كَذلِكَ هُمُ الآنَ عَصَوا اللهَ مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكُم، لِكَي يُرْحَمُوا الآنَ هُم أَيْضًا؛
32 لأَنَّ اللهَ قَدْ حَبَسَ جَمِيعَ النَّاسِ في العُصْيَان، لِكَي يَرْحَمَ الـجَميع.
ثالثًا، يمكننا أن نعرف ما يختصُّ برحمة الله. كلمة "رحمة" هي كلمة رئيسيَّة في الرسالة إلى أهل روما، خاصَّة في القسم الثَّالث منها (روم 9–11). وردت كلمة "رحمة" (eleos) أربع مرَّات في هذه الآيات (روم 11: 30-32)، وهي على صلةٍ قويَّة بكلمة "نعمة" (charis)، ومن الصعب التمييز بينهما. لكن يمكننا شرحهما بالشكل التالي: "النعمة" هي أنَّ الله لا يعطينا ما نستحقّه من العقاب، بينما "الرحمة" هي أن يعطينا الله البركات الَّتي لا نستحقُّها. إنَّ الرحمة هي جانبٌ من محبَّة الله الَّذي يحثُّه ليغفر للمُذنِب من دون استثناء لأنَّ الله "يرحم الجميع" (روم 11: 32)، اليهود والأمم على حدٍّ سواء.
اختتم بولس هذه الآيات الثلاث بقوله: "لأنَّ الله قد حبس جميع النَّاس في العصيان، لكي يرحم الجميع" (روم 11: 32). لا تعني عبارة "حبس الله جميع النَّاس في العصيان"، أنَّ الله يتصرَّف بطريقةٍ استبداديَّة، بل هو نتيجة إثم الانسان. بسبب خطاياه، أصبح الانسان مأسورًا بالخطيئة وعبدًا لها، فوصل إلى حالة اليأس: الخطيئة تُزعجه، والنَّاموس يدينه ويثقّل ضميره، وضميره يُقلقه ويُخيفه من العقاب، والدينونة تهدّده... لكنَّ الظَّلام تبدَّد فجأةً، والله نفسه هو الَّذي فتح باب سجن العبوديَّة هذا، وأضاء داخل الانسان. بما أنَّنا جميعًا قد عصينا، فالأساس الوحيد، الَّذي عليه سيخلص كلٌّ منَّا هو رحمة الله ونعمته، شرط أن نعود إليه.
33 فَيَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ ومَعْرِفَتِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الإِدْرَاك، وطُرُقَهُ عَنِ الإسْتِقصَاء!
34 فَمَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبّ؟ أَو مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟
عندما عَلِم بولس تدبير الله ورحمته الَّتي ما زال يُظهرها لإسرائيل، ورغبته في إظهار الرحمة للجميع، شرع في التَّسبيح. الكلمة الرئيسيَّة في الجزء الأوَّل من الآية 33 هي "عمق" (bathos). حكمة الله ومعرفته عميقتان جدًّا، بحيث لا يمكن للإنسان أن يستوعبهما. استمرَّ بولس قائلًا: "ما أبعد أحكامه عن الإدراك، وطُرقه عن الاستقصاء!" (روم 11: 33ب). هذا ما يذكّرنا بأشعيا النبيّ عندما قال على لسان الله: "فإنَّ أفكاري ليست أفكاركم، ولا طُرقكم طُرقي، يقول الرَّبّ. كما تعلو السماوات عن الأرض، كذلك طُرقي تعلو عن طرقكم، وأفكاري عن أفكاركم" (أش 55: 8-9).
اقتبس بولس كلامه من العهد القديم لكي يعزّز كلامه. لكنّ اقتباسه يحتوي على مبادئ من عدَّة نصوص (راجع أي 15: 8؛ أش 40: 13؛ إر 23: 18). قال: "فمَن عرف فكر الرَّبّ؟ أو من صار له مشيرًا؟" (روم 11: 34). كلمة "مشير" هنا مُترجمة من الكلمة اليونانيَّة boulos بمعنى "يستشير، يوصي"، بالإضافة إلى حرف الجرّ اليونانيّ sûn، أي "مع". فمن الَّذي طلب منه إلهه الاستشارة ؟ الإجابة على كلا السؤالَين في الآية 34 هي "لا أحد!".
قال بولس إنَّ الحقيقة الأولى الَّتي يمكن أن نعرفها عن الله هي أنَّنا لا نقدر أن نعرف كلَّ شيءٍ عنه. كما أنَّه لا يمكن للكوب أن يتَّسع للمحيط، هكذا أيضًا أفكارنا المحدودة لا تقدر أن تفهم حكمة الله ومعرفته اللَّامحدودَتَين.
35 أَو مَنْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا فَيَرُدَّهُ اللهُ إِلَيْه؟
الحقيقة الثَّانية الَّتي يمكن أن نعرفها هي أنَّ الله ليس مديونًا لنا. قدَّم بولس في الآية 35 جوهر ما ورد في سفر أيُّوب: "مَن بادأني بنعمةٍ فأوفيَ له" (أي 41: 3). الإجابة هنا مرَّةً أخرى هي "لا أحد!". لا يمكننا أن نعطي الله شيئًا، لأنَّ كلَّ شيءٍ هو له، وما حصلنا عليه هو منه؛ نحن وكلاء فقط.
36 لأَنَّ كُلَّ شَيءٍ مِنْهُ وَبِهِ وَإِلَيْه. لَهُ الـمَجْدُ إِلى الدُّهُور. آمين.
كلام بولس هنا يذكّرنا بِمَا فعله الملك داود. عندما قَدَّم الملك داود موادَّ لاستخدامها في بناء الهيكل، صلَّى إلى الله قائلًا: "ما أنا وما شعبي حتَّى نستطيع أن نتبرَّع هكذا؟ وإنَّما كلُّ شيءٍ منكَ، ومِن يدكَ أعطينَاكَ" (1 أخ 29: 14).
لم يقدّم بولس أجوبةً بسيطة على كلّ الأسئلة المحيّرة الَّتي ذكرها، لكنَّه قدَّم لنا إشارةً بأنَّ لله الإجابة، يكفي الاتكّال عليه "لأنَّ كلَّ شيءٍ منه وبه وإليه" (روم 11: 36).
خلاصة روحيَّة
في هذه الرسالة الَّتي يوجّهها إلى أهل روما، يطرح بولس الرَّسول المشكلة، وهي أنَّ التصلُّب أصاب قسمًا من بني إسرائيل. ليس هذا وحسب، بل إنَّ التصلُّب أصاب من يجب أن لا يُصيبهم لأنَّهم يعرفون كلمة الله. أمَا كُتِبَ في المزمور: "اليوم إذا سمعتُم صوته، فلا تقسُّوا قلوبكم؟" (مز 95: 7ب-8أ).
أشار بولس إلى التصلُّب أمام طواعيَّة الله ولينه، أمام رحمته ومحبَّته. فالله ما نبذ شعبه، ولم يندم على عطاياه، بل أبقاها مفتوحة للجميع، ليُعلِن أنَّه يريد خلاص الجميع، وأنَّ رحمته يُغدقها على الجميع بغضّ النظر عن الأشخاص. لذلك، يُنهي بولس رسالته بنشيد تسبيح: "يا لَعُمق غنى الله وحكمته ومعرفته! ما أبعد أحكامه عن الإدراك، وطرقه عن الاستقصاء!" (روم 11: 33)؛ كلماتٍ نُنشدها في أحد الثَّالوث الأقدس: "مَن يستقصي؟ مَن يحوي سرَّ الثَّالوث الأرفع؟ ربُّ العمق والعلوِ للتَحديدِ لا يخضَع!" (نشيد الدخول في خدمة قدَّاس أحد الثَّالوث الأقدس).
لم يُطالِب الله أحدًا بشيء لأنَّه لا يحتاج لشيء. لم يُعاقِب أحدًا، لأنَّه عالِمٌ بكلّ شيء، ولأنَّه بغناه وحكمته، أتاح الخلاص للجميع. هو الَّذي دبَّر، وهو الَّذي أعطى، ولولاه لما كنَّا بشيء.