الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-05-21
2 فأَنَا أَشْهَدُ لَهُم أَنَّ فيهِم غَيْرَةً لله، وَلـكِنْ بِدُونِ مَعْرِفَةٍ صَحيحَة.
كان باستطاعة بولس أن "يشهد لهم" بهذا الخصوص، لأنَّه اختبر ذلك في حياته، هو الَّذي صرَّح قائلًا لمجلس أورشليم: "إنّي رجلٌ يهوديٌّ، وقد وُلدتُ في طرسوس قيليقية، لكنّي تربَّيت هنا في هذه المدينة، وتأدَّبتُ بدقَّةٍ على توراة الآباء، عند قدمي جمليئيل، وكنتُ غيورًا لله كما أنتم اليوم جميعُكم" (أعمال 22: 3؛ راجع أيضًا غل 1: 13؛ فل 3: 6).
كلمة "غَيرة" العربيَّة هي ترجمة للكمة اليونانيَّة zêlos الَّتي تعني "يغلي، يسخن"، أي "الحماس في سبيل الله". لكن ينبغي السيطرة على هذه الغَيرة. لأنَّها عندما تخرج عن السَّيطرة تأتي بالخراب الَّذي قد تُسبّبه النار الخارجة عن السَّيطرة. لذا، ينبغي على "المعرفة" أن تتحكَّم بالغَيرة وتوجّهها. ما يؤكّد ذلك، هو استخدام بولس للكلمة اليونانيَّة للمعرفة (epígnôsis) المؤلَّفة من جزءَين: من كلمة gnôsis وحرف الجرّ epí. تُشير كلمة epígnôsis إلى المعرفة المضبوطة بالتَّمام. هذا ما يعني أنَّ غيرة اليهود كانت "من دون معرفة" أو "غير موجَّهة".
تعتقد الغالبيَّة بأنَّ الغيرة الدينيَّة هي كلُّ ما يُطلَب لإرضاء الله. لكن ما يطرحه القدّيس بولس هنا يوضح أنَّ هذا الاعتقاد ليس صحيحًا. الغيرة لا تفي بالغرض، لأنَّنا قد نكون مضَّللين من دون أن ندري. هنا يمكن توضيح حالة الغيرة الَّتي تكون "من دون معرفة" بعدَّة طرائق. يوازن بعض المفسّرين بين المعرفة والنُّور (راجع مز 119: 105)؛ فيقولون إنَّ الانسان الغيور، والَّذي يفتقر إلى المعرفة، هو مثل إنسانٍ يركض في الظَّلام بأقصى سرعةٍ من دون أن يعلم إلى أين يتَّجه. أنكر اليهود افتقارهم للمعرفة، إذ كانوا يعرفون بعض الأشياء، ولكنَّهم كانوا يجهلون الشيءَ الأهمّ. وهذا ما يطرحه بولس في الآية التالية.
3 فقَدْ جَهِلُوا بِرَّ الله، وحَاوَلُوا أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِم، فَلَمْ يَخْضَعُوا لِبِرِّ الله؛
لا تشير عبارة "برّ الله" إلى إحدى صفات الله، بل إلى الترتيب الَّذي وضعه الله ليُحسب الانسان بارًّا. كان اليهود يجهلون هذا عن قصدٍ لأنَّه يتضارب مع نظام الشَّريعة والأعمال الَّتي كانوا قد ابتكروها. لذا قال فيهم بولس هنا: "حاولوا أن يُبثتوا برَّ أنفسهم، فلم يخضعوا لبرّ الله".
يتحدَّث بولس هنا، مرَّةً أخرى، انطلاقًا من خبرته الشخصيَّة. عندما قدَّم في الفصل الثَّالث من رسالته إلى أهل فيليبّي قائمة بالأشياء الَّتي تخلَّى عنها لكي يتبع المسيح، عبَّر عن رغبته في أن "يوجد في المسيح" قائلًا: "وأوجَد فيه مبرَّرًا لا بالبرّ الَّذي هو من الشَّريعة، بل بالبرّ الَّذي هو بفضل إيمان المسيح، والَّذي هو من الله، والقائم على الإيمان" (فل 3: 9).
ما قاله بولس عن اليهود قد يُقال عن البشر بصفةٍ عامَّة: إذا لم يكتفِ النَّاس بطريق الله، مضَوا يحاولون البحث عن وسائل تجعلهم يَمضون إلى السماء بطرائقهم الخاصَّة. كان اليهود يعتمدون على حفظ الشَّريعة لكي يُحسَبوا أبرارًا. وأوضح بولس استحالة ذلك في الآيتين التاليتَين.
4 لأَنَّ غَايَةَ الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا هِيَ الـمَسِيح، لِكَي يَتَبَرَّرَ بِهِ كُلُّ مُؤْمِن.
الكلمة اليونانيَّة télos الـمُترجَمة هنا "غاية"، قد يكون لها معانٍ مختلفة، منها "نهاية". وقد تعني أيضًا "غاية" أو "هدف". هذان التفسيران صحيحان بما يختصُّ بشريعة موسى. كتب بولس في الفصل الثَّالث من رسالته إلى أهل غلاطية بما يختصُّ بالمسيح كغاية الشرَّيعة، أنَّ " الشَّريعة كانت لنا مؤدّبًا يقودنا إلى المسيح، لكي نُبرَّر بالإيمان. فلـمَّا أتى الإيمان، لم نعُد تحت مؤدّب" (غل 3: 24-25). كان ينبغي لليهود أن يتخلَّوا عن محاولتهم لحفظ الشَّريعة ويرجعوا إلى المسيح الَّذي هو "غاية الشَّريعة".
فإن كانت كلمة télos اليونانيَّة تعني "نهاية"، يُصبح معنى هذه الآية على النحو التالي: "لأنَّ المسيح هو نهاية حفظ الشَّريعة كوسيلة للحصول على البرّ الَّذي يمنحه الله لكلّ من يؤمن بيسوع".
5 وقَدْ كَتَبَ مُوسَى عَنِ البِرِّ الَّذي هُوَ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَقَال: "مَنْ يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ يَحْيَا بِهَا".
أظهر بولس، مرَّة أخرى هنا، العيب المميت في المحاولة للحصول على البرّ الذاتيّ بحفظ الشَّريعة؛ إذ كتب قائلًا: "من يعمل بأحكام الشَّريعة يحيا بها". يبدو أنَّ بولس كان يفكّر بما ورد في العهد القديم: "فاحفظوا فرائضي وأحكامي. فمن حفظها يحيا بها: أنا الرَّبّ" (أح 18: 5). قال الرَّبّ لليهود بأنَّهم سيجدون الحياة إذا حفظوا فرائضه. لكن ما كانت المشكلة؟ كان الحصول على الحياة يتطلَّب منهم حفظ الشَّريعة حفظًا كاملًا، ويكون "ملعونٌ مَن لا يحفظ كلمات هذه الشَّريعة غير عاملٍ بها" (تث 27: 26؛ راجع أيضًا غل 3: 12-13). لكن ما مِن أحدٍ يستطيع حفظ جميع الوصايا دائمًا. لهذا السَّبب، كان من المستحيل الحصول على البرّ على أساس نظام الشَّريعة والأعمال. لكن يمكن الحصول على البرّ المبني على أساس نظام نعمة الله بالإيمان.
6 أَمَّا عَنِ البِرِّ الَّذي هُوَ مِنَ الإِيْمَانِ فَيَقُول: "لا تَقُلْ في قَلْبِكَ: مَنْ يَصْعَدُ إِلى السَّمَاء؟"، أَيْ لِيُنْزِلَ الـمَسِيحَ مِنَ السَّمَاء.
7 ولا تَقُلْ: "مَنْ يَهْبِطُ إِلى الـهَاوِيَة؟"، أَيْ لِيُصْعِدَ الـمَسِيحَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات.
8 بَلْ مَاذَا يَقُول؟ "الكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ، في فَمِكَ وَقَلْبِكَ"، أَيْ كَلِمَةُ الإِيْمَان، الَّتي نُنَادِي بِهَا.
أشار بولس في الآية الخامسة إلى موسى ونظام الشَّريعة والأعمال. لكن، إن كان الحصول على البرّ مبنيًّا على نعمة الله بالإيمان، فكيف يكون ذلك؟ هذا ما سيشرحه بولس في هذه الآيات بناءً على ما ورد في سفر تثنية الاشتراع عن وداع موسى للإسرائيليّين: "إنَّ هذه الوصيَّة الَّتي آمركَ بها اليوم ليست فوق طاقتِك ولا بعيدةً منكَ. لا هي في السماء فتقول: من يصعد لنا إلى السماء فيتناولها لنا ويُسمعُنا إيَّاها فنعمل بها؟ ولا هي عبر البحر فتقول: مَن يعبر لنا البحر فيتناولها لنا ويُسمعُنا إيَّاها فنعمل بها؟ بل الكلمة قريبةٌ منكَ جدًّا، في فمكَ وفي قلبكَ لتعمل بها" (تث 30: 11-14).
نلاحظ في الآية السَّابعة أنَّ بولس استبدل كلمة "البحر"، الواردة في تثنية الاشتراع (30: 13) بكلمة "هاوية". استخدم بولس كلمة "السماء" ليعني أقصى حدّ يمكن الصعود إليه، و"الهاوية" كأدنى حدّ يمكن النزول إليه.
إلى جانب استبدال بولس كلمة "البحر"، كاد أن يُطابق المصطلحات المستخدمة في تثنية الاشتراع. ولكنَّه أعاد الصياغة بالتفسير الَّذي يخدم غرضه. في الآيات 6-8 تعرض متطلّبات الإنجيل الَّتي ليست بصعبة كثيرًا. لا يأمرنا الله بأن نقوم بمهمَّاتٍ خارقة مثل الصعود إلى السماء لنُنزل المسيح، ولا أن ننزل إلى الهاوية لنُصعد المسيح. بل يطلب منَّا فقط أن نؤمن ونعبّر عن إيماننا. لذلك، فالحصول على البرّ ليس بعيدًا من أحد، لأنَّ الجميع يستطيع أن يثق بالرَّبّ وبطرقه. كان باستطاعة بولس أن يؤكّد لليهود أنَّ "الكلمة قريبة"، لأنَّه كان كلَّما يذهب إلى مكانٍ جديد للتبشير، يعطي اليهود أوَّل فرصةٍ لسماع الإنجيل، قبل الوثنيّين (راجع أعمال 13: 14؛ 14: 1؛ 17: 1؛ 18؛ 19؛ روم 1:16).
بما أنَّ اليهود لم يقبلوا يسوع كالمسيح الموعود به، لم يؤمنوا بأنَّ المسيح قد أُنزِل" من السماء (أي إنَّه تجسَّد). علاوةً على ذلك، لم يؤمنوا بأنَّ يسوع "أُقيم" من بين الأموات. وما قاله موسى عن "الكلمة قريبةٌ منكَ جدًّا، في فمكَ وفي قلبكَ لتعمل بها" (تث 30: 14)، طبَّقها بولس على الإنجيل. طبعًا، لم يَقل بولس إنَّ الإنجيل كان في قلوب اليهود وأفواههم، بل إنَّه قد يكون كذلك، وهكذا ينبغي أن يكون. فما أراد تأكيده هو سهولة الحصول على الإنجيل ووفرته.
9 فَإِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الرَّبّ، وآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، تَخْلُص.
كان بولس قد صلَّى لأجل خلاص "بني إسرائيل" (روم 10: 1)، ويوضح الآن كيف يمكنهم أن يخلُصوا: "بالاعتراف بالفم والإيمان بالقلب". الترتيب الكرونولوجي يجب أن يكون الإيمان بالقلب وبعده يأتي الاعتراف بالفم. لكنَّ بولس عكس التَّرتيب أمانةً للآية التي اقتبسها من سفر تثنية الاشتراع (30: 14)، لأنَّه في ذلك النصّ وردت كلمة "بفمكَ" قبل "بقلبكَ".
تتطرَّق هذه الآية إلى عاملَين للإنجيل لا غنى عنهما، ولا يمكن استبدالهما: حقيقة أنَّ الله أقام يسوع من بين الأموات (راجع 1 قور 15: 17)، وحقيقة أنَّ يسوع ربّ (راجع قول 2: 6).
10 فالإِيْمَانُ بِالقَلْبِ يَقُودُ إِلى البِرّ، والإعْتِرَافُ بِالفَمِ يَقُودُ إِلى الـخَلاص؛
يؤكّد بولس هنا على أهميَّة الإيمان بهاتَين الحقيقتَين والاعتراف بهما: لأنَّ القلب يؤمن للبرّ، والفم يعترف للخلاص. فالإيمان والاعتراف كلاهما للهدف نفسه: الخلاص والتبرير. استُخدم هنا فعل "الاعتراف" بصيغة المضارع ليدل على استمرار العمل. فالكتاب المقدَّس لا يتكلَّم على التلمذة للرَّبّ في الخفاء، بل بجرأةٍ حتَّى في مواجهة الموت. لذا، يُعتبر الإيمان من دون اعترافٍ جُبنًا، والاعتراف من دون إيمان رياء.
11 لأَنَّ الكِتَابَ يَقُول: "كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لا يُخْزَى".
12 فلا فَرْقَ بَيْنَ يَهُودِيٍّ ويُونَانِيّ، لأَنَّ الرَّبَّ هُوَ نَفْسُهُ لِجَميعِهِم، يُفِيضُ غِنَاهُ عَلى جَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ.
13 فَكُلُّ مَنْ يَدْعُو إسْمَ الرَّبِّ يَخْلُص.
يقتبس بولس، مرَّةً أخرى، نصًّا من العهد القديم، قد استخدمه قبلًا في الرسالة إلى روما (راجع 9: 33): "كلُّ من يؤمن به لا يُخزى" (أش 28: 16). بعدما رجع بولس إلى فكرته الرئيسيَّة للتبرير على أساس الإيمان، قال إنَّه "لا فرق بين يهوديّ ويونانيّ، لأنَّ الرَّبَّ هو نفسه لجميعهم، يُفيض غناه على جميع الَّذين يدعونه" (روم 10: 12)، وكان قد قال ذلك أيضًا في الفصل الثَّالث من الرسالة (راجع 3: 22). ما كان يوضحه في الفصل الثالث أنَّه لا فرق في ما يختصّ بالحاجة إلى الخلاص "لأنَّ الجميع خطئوا، وينقصهم مجد الله" (روم 3: 23). أمَّا هنا فالفرق لا يكمن في أساس الخلاص لأنَّ الجميع سيخلصون على أساس الإيمان. فهي إذًا عبارة مُفرحة تُعلن لليهود والأمم معًا أنَّ باب رحمة الرَّبّ مفتوحٌ، وواسعٌ لدخولهم، وأنَّ غفرانه المجَّانيّ مضمونٌ في المسيح لجميع الَّذين يطلبونه بإيمان.