الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-03-19
6 فأَرْجُو أَنْ تَعْرِفُوا أَنَّنا نَحْنُ لَسْنا مَرْفُوضِين!
يرجو بولسُ أن يقتنعَ أهلُ قورنتس بأنَّه "ليس مرفوضًا"، بل هو "سفيرٌ حقيقيٌّ للمسيح" (راجع 2 قور 5: 20). فإيمان أهل قورنتس وإيمان بولس الحقيقيَّان مرتبطَان ارتباطًا وثيقًا؛ فإمَّا أن يقفا معًا أو أن يسقطا معًا. فإن كانوا هم مؤمنين حقيقيّين، كان هو رسولًا حقيقيًّا، لأنَّهم آمنوا على يده (راجع 2 قور 1: 19؛ 3: 1-3؛ 11: 2). أمَّا إن كان إيمانهم مزيَّفًا، فكذلك تكون رسوليَّة بولس.
7 ونُصَلِّي إِلى اللهِ كَيْ لا تَفْعَلُوا أَيَّ شَرّ، لا لِنَظْهَرَ نَحْنُ مَقْبُولِين، بَلْ لِكَي تَفْعَلُوا أَنْتُمُ الـخَيْر، ونَكُونَ نَحْنُ كَأَنَّنا مَرْفُوضُون!
قد تكون الآيةُ السَّابقة قد تركَتْ انطباعًا لدى أهل قورنتس بأنَّ قَصْدَ بولس تزكيةُ نفسِهِ لا منفعتهم. لذلك، يشرعُ في هذه الآيةِ بتصحيحِ سوءِ الفهمِ المحتمَلِ من خلالِ طمأنتِهم عن أولويَّةِ خلاصِهِم. كان همُّ بولسُ الأساسيُّ، كما يتَّضحُ من صلاتِه، أن يرفضَ أهل قورنتس كلَّ الخلافاتِ، وأن يسعوا وراءَ السّلوكِ الصَّحيحِ، بدل الانشغالِ بتأكيدِ أصالةِ بولسَ الرَّسوليةِ.
8 فَإِنَّنا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ شَيْئًا ضِدَّ الـحَقّ، بَلْ لأَجْلِ الـحَقّ!
يكمّل بولس توضيحه أنَّه، كخادمٍ للمسيح، لا يستطيع أن يقدّم لهم تعاليم باطلة "ضدّ الحق"، إنَّما ما يستطيع فعله هو "لأجل الحق". والحقّ هو "المسيح نفسه"، حيث يجذب بولس النُّفوس إلى المسيح، لا إلى شخصه.
عندما يسودُ الحقّ أو السلُّوك المسيحيُّ الأصيلُ، وعندما تكون هناك توبةٌ واستقامةٌ، فما من داعٍ للتأديبِ. لكن عندما يكونُ الحقُّ غائبًا، وعندما يكونُ هناك عصيانٌ وعدمَ توبةٍ، يتطلَّبُ الوضعُ، عندها، إجراءاتٍ تأديبيَّة. وكأنَّ بولس هنا يؤكّد أنَّه إن كان يعاملهم بلطفٍ وحنوّ أو إن أمسك عصا التأديب، فلا يشغله أمرٌ آخر سوى "إنجيل المسيح".
9 أَجَلْ، إِنَّنا نَفْرَحُ عِنْدَما نَكُونُ نَحْنُ ضُعَفَاء، وتَكُونُونَ أَنْتُم أَقْوِيَاء. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا نُصَلِّي لِكَي تَكُونُوا كَامِلِين.
ما يقولُه بولسُ هنا دليلٌ على التزامه في العملِ "من أجل الحقّ" (2 قور 13: 8). وهو يفرح عندما يكونُ مؤمنو قورنتس أقوياء في الإيمان. من المحتمل أن يكون الضّعف الَّذي يتكلَّم عليه بولس هنا هو الخدمة والتكرُّس الكليّ الَّذي ميَّز خدمته الرَّسوليَّة بكاملها. لكنَّ سياقَ النصّ يشيرُ إلى معنىً آخرَ أكثرَ تحديدًا؛ يكون بولس ضعيفًا عندما يبدو أنَّه مرفوض، ولا يحتاج إلى إظهار سلطته الرَّسوليَّة في ممارسة التأديب.
بمعنىً آخر، يؤكّدُ الرسولُ بولسُ هنا أبوَّته في قبولِ الحكمِ عليه بالضعف والخطأ، لأجل أن يكون أهل قورنتس أقوياء وصالحين. لا بل يتمنَّى أن ينموا في حياتهم "ليكونوا كاملين".
10 أَكْتُبُ هـذَا وأَنا غَائِب، لِئَلاَّ أُعَامِلَكُم بِقَسَاوَةٍ وأَنا حَاضِر، بِالسُّلْطَانِ الَّذي أَعْطَانِي إِيَّاهُ الرَّبّ، لِبُنْيَانِكُم لا لِهَدْمِكُم.
إن كان القسم الأوَّل من هذا الفصل من الرسالة (2 قور 13: 1-4) هو تحذيرٌ بشأن التأديب الوشيك، فالقسم الثَّاني منها (2 قور 13: 5-10) هو إرشادٌ لتجنُّب هذا التأديب. من خلال الإشارة هنا إلى هدف كتابته، يُظهر بولس رغبته الشَّديدة في أن يجعل أهل قورنتس تأديبه غير ضروريّ، من خلال توبتِهم وارتدادِهم. هذا ما يعني أنَّ هدفَ بولسَ من الكتابة هو تجنُّب الاضطرارِ إلى ممارسةِ التأديبِ الصَّارمِ.
كذلك، ومن دون شكّ، فإنَّ صلاة بولس الَّتي رفعها سابقًا من أجل أهل قورنتس (راجع 2 قور 13: 7-9) تعكسُ أيضًا هدفه من الكتابة. بعبارةٍ أخرى، يودُّ بولس أن يُظهر سلطانه في كلماته، لكنَّه لن يستخدمها عمليًّا. فقد ترك المجال لأهلَ قورنتس كي"يختبروا أنفسهم" و"يمتحنوا أنفسهم" ليبلغوا إلى النتيجة المرجوَّة في أنَّهم إن لم يصحّحوا الوضع، فسيأتي حتمًا ويضطرّ إلى استعمال "القساوة...لبنيانهم لا لهدمهم"، أي لتأديبهم، لا لمعاقبتهم.
11 وبَعْدُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، إِفْرَحُوا، وَاسْعَوا إِلى الكَمَال، وتَشَجَّعُوا، وكُونُوا عَلى رَأْيٍ وَاحِد، وعِيشُوا في سَلام، وإِلـهُ الـمَحَبَّةِ والسَّلامِ يَكُونُ مَعَكُم!
كما افتتحَ الرسالةَ بالتَّشجيع والتعزيةِ، هكذا يختم بولس الرّسالة بالفرح، مؤكّدًا محبَّته للجميعِ والبركةِ الرسوليَّة الَّتي لا تستثني أحدًا. فكلّ ما تبقَّى لبولس هو أن يختم رسالته متمنّيًا أن يتمتَّع الكلّ بالفرح، لا الفرح الموقَّت، بل السعادة الدَّائمة. فهو لم يكتب لهم ليبعث فيهم روح الحزن، بل يطلب لهم أن "يفرحوا"، وأن "يسعوا إلى الكمال" معًا، أي أن يرتبطوا معًا برباط الحبّ والمشاركة، وهذا ما يبني الكنيسة. كما وينصحهم أن "يتشجَّعوا" ويقبلوا نصيحته ليمتلئوا بسلامٍ داخليّ، حتَّى إذا تعرَّضوا لاضطهاداتٍ أو إلى ضيقاتٍ أيًّا كان مصدرُها يمكنهم أن "يكونوا على رأيٍ واحد"، من دون انقسامٍ أو انشقاق. فيكون لهم إيمانٌ واحد وهدفٌ واحد هو "المسيح يسوع". هذا ما يجعلهم يتعهَّدون بأن "يعيشوا في سلام" باحثين عن سلام الجميع، من دون أن يسمحوا للَّذين يختلفون معهم في الرأي بأن يُفقدوهم سلامهم الداخليّ. وفوق كلّ ذلك، "إله المحبَّة والسَّلام" هو مصدر الحبّ والوحدة، ويشتهي أن يتمتَّعوا بالسَّلام معه، ومع أنفسهم، ومع إخوتهم. "يكون معهم" ويثبت فيهم.
12 سَلِّمُوا بَعْضُكُم عَلى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَة. جَمِيعُ القِدِّيسِينَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكُم.
اعتاد المؤمنون في الكنيسة الأولى أن يقبّلوا بعضُهم بعضًا علامةَ الحبِّ والوفاقِ والوحدةِ، فهم قلبٌ واحدٌ (أعمال 2: 46)، وروحٌ واحدةٌ (أعمال 4: 32). فلا خلاف بين أعضاء الجماعة، وإلَّا لأُجبروا على ترك تقدمتهم على المذبح قبل أن يشاركوا في عشاء الربّ. في هذا المجال نفهمُ كلامَ بولسَ في نهايةِ الرسالةِ: "سلّموا بعضكم على بعضٍ بقبلةٍ مقدَّسة" (2 قور 13: 12). ولكن لماذا الكلام على القبلة هذه في أحد مَثَل الابن الشَّاطر؟
هذه القبلة هي علامة المحبّة. يمنحُها اللهُ لكلّ واحد منَّا، فنمنحها بدورِنا إلى الآخرين. إذا كان الله ينبوعَ المحبّةِ، فكلُّ محبّةٍ في الكونِ تصدُرُ عنه. هو أحبّنا أوّلاً، ويدعونا إلى أن نُبرهِنَ عن حبِّنا عبرَ موقفٍ عمليٍّ. العودةُ إلى البيتِ الأبويِّ بالتَّوبةِ والاعترافِ بالخطيئةِ. اقترابٌ من الوالد بدالّة الأبناء الأحبّاءِ، اقترابٌ من أخٍ قد لا يريد عودتَنا. ذاك هو جوّ "القبلة المقدّسة" (رتبة السَّلام في نوافير القدَّاس المارونيّ) في احتفالنا بعشاءِ الربّ، بالقدّاس الإلهي، ولا سيّما يوم الأحد.
13 نِعْمَةُ الرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح، ومَحَبَّةُ الله، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَكُم أَجْمَعِين!
إنَّها البركة الَّتي منها اقتُبِسَت بدايةِ الصَّلاةِ القربانيَّة في القدَّاس: "محبَّة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وحلول الرَّوح القدس مع جميعكم يا إخوتي إلى الأبد" (بداية الصلاة القربانيَّة في القدَّاس المارونيَّ)، ولكنَّ بولس عكس هنا التَّرتيب إذ بدأ بالابن قبل الآب. لماذا؟
تعكس هذه البركة ثلاثة أسبابٍ لأولويَّة المسيح:
1. مشكلة أهل قورنتس الأساسيَّة هي في انتمائهم إلى المسيح. هذا ما عبَّر عنه بولس سابقًا في النَّص: "ألا تعرفون أنَّ المسيح يسوع فيكم؟" (2 قور 13: 5).
2. نعمة المسيح هي الوسيلة الَّتي يصل بها المؤمن إلى محبَّة الله، كما يعبّر عنها بولس في مكانٍ آخر: "ما من شيءٍ يفصلنا عن محبَّة الله الَّتي في المسيح يسوع ربّنا" (روم 8: 39). من خلال نعمة المسيح الَّتي بانت على الصَّليب، أظهر الله محبَّته، وهكذا يشاركُ المؤمنُ في حياة الرَّوح القدس وتتكوَّن الجماعة.
3. لا تصفُ هذه الآيةُ الأخيرةُ من الرِّسالةِ التّراتبيَّةِ في الثَّالوثِ الأقدسِ، إنَّما ترتيب اختبار المؤمن في الله: فهو يتعرَّف إلى المسيح ليلتقي بالله الآب ويقبل الرَّوح القدس.