الأحد الأوَّل بعد الدنح:
إعتلان سرّ المسيح ليوحنَّا المعمدان
(2 قور 10: 1-11)
1 أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ الـمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا الـمُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والـجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا.
2 وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين.
3 أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الـجَسَد، ولـكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛
4 لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلى هَدْمِ الـحُصُونِ الـمَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الـخَاطِئَة،
5 وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ الله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ الـمَسِيح.
6 ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم.
7 إِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى الـمَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.
8 فَأَنا لا أَخْجَلُ إِنْ بَالَغْتُ بَعْضَ الـمُبَالَغَةِ في الاِفْتِخَارِ بِالسُّلْطَانِ الَّذي وَهَبَهُ الرَّبُّ لَنا لِبُنْيَانِكُم لا لِهَدْمِكُم.
9 ولا أُرِيدُ أَنْ أَظْهَرَ كأَنِّي أُخَوِّفُكُم بِرَسَائِلي؛
10 لأَنَّ بَعْضًا مِنْكُم يَقُولُون: "رَسَائِلُهُ شَدِيدَةُ اللَّهْجَةِ وقَوِيَّة، أَمَّا حُضُورُهُ الشَّخْصِيُّ فَهَزِيل، وكَلامُهُ سَخِيف!".
11 فَلْيَعْلَم مِثْلُ هـذَا القَائِلِ أَنَّنا كَما نَحْنُ بِالكَلامِ في الرَّسَائِل، عِنْدَما نَكُونُ غَائِبين، كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا بِالفِعْل، عِنْدما نَكُونُ حَاضِرين.مقدّمة
في الأحدِ الأوَّلِ بعد الدِّنحِ تدعونا الكنيسة، من خلال رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس (10: 1-11) إلى عيشِ واقعيَّةٍ روحيَّةٍ مبنيَّةٍ على التَّواضعِ حيثُ نتجاوزُ محدوديَّتنا الجسديَّةَ لندخُلَ في مسيرةٍ شخصيَّةٍ مع المسيحِ. فإنْ كانَ الرَّبُّ قد "جعلَ له يوحنَّا البتولُ صوتًا صارخًا في القفرِ يقول: توبوا، اعتمدوا والإثمُ يزول!" (لحن البخور في قدَّاس خدمة الدنح الأولى لأيَّام الأسبوع)، فما ذلك إلَّا ليدلّ تلاميذَه على يسوعَ "حمل الله الَّذي يرفعُ خطيئةَ العالمِ" (يو 1: 19)، حيثُ تنتهي مهمَّة يوحنَّا المعمدان – وفقًا لإنجيل يوحنَّا – حتَّى تبدأُ مسيرةُ المسيحِ الَّذي "هو النور الرَّئيس ذو السُّلطان والسَّابق النور الكوكب المعمدان: بعده يأتي العريس ويخطبُ البيعةَ في ملءِ الأزمانِ" (لحن الدخول في قدَّاس خدمة الدنح الأولى لأيَّام الأسبوع). لدى قراءةِ نصِّ الرّسالةِ (2 قور 10: 1-11)، ينطبعُ في ذهنِ القارئ أنَّه ربَّما كان بولس الرَّسول يحاولُ الدِّفاعَ عن نفسه إزاءَ اتّهاماتِ خصومِهِ، نتيجةَ تعرُّضِهِ لهجومٍ خاطئٍ مِن قِبَلِهم في قورنتس. يُدرك بولسُ تمامًا أنَّ هدفَهم هو إظهارُ أنَّ طريقتَه في الخدمةِ الرَّسوليَّةِ لا تتناسَبُ ومعاييرَهم الأرضيَّةَ. فتنبُّهًا منه لذلك، يردُّ في مرحلةٍ أولى على الانتقاداتِ، رافضًا أن يكونَ رسولًا يسلُكُ سلوكًا "جسديًّا" (2 قور 10: 2). ثمَّ يواصلً دحضه للاتّهاماتِ القائلةِ بأنَّه ينوي هدمَ كنيسةِ قورنتس، وأنَّه ضعيفٌ عندما يكتبُ إليهم بينما يتظاهرُ بأنَّه قويٌّ (2 قور 10: 7-11). وما كلُّ ذلك إلَّا ليرسُمَ أمامَهم علاماتِ الرَّسولِ الحقيقيِّ الَّذي لا يُساومُ ولا يتغيَّرُ بحسَبِ المواقفِ، ويُبنَى تبشيرُه الرَّسوليُّ على التَّواضعِ.
شرح الآيات
1 أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ الـمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا الـمُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والـجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا.الاتّهامُ الأوَّلُ الَّذي يطلقُه معارضو بولس، يمكنُ استنتاجه من هذه الآيةِ الأولى حيثُ كتبَ هو نفسُه: "أنا المتواضعُ بينَكم عندما أكونُ حاضرًا، والجريءُ عليكم عندما أكونُ غائبًا". بالطَّبع، من الممكن أن تُبنى الإشاعات على جرأةِ بولسَ في كتاباتِهِ إلى أهل قورنتس، بخاصَّةٍ ما ذكَرَه في رسالتِه الأولى لهم (1 قور 5: 9-11) حولَ مخالطةِ الفجَّارِ. مع ذلك، فإنَّ القَولَ بأنَّ رسائلَ بولسَ كانت شديدةَ اللَّهجةِ، فيه خبثٌ، واتَّهامه بأنَّه هزيلٌ لا يدلُّ على صدقِ نوايا معارضيه: فالَّذين يحاولون تشويهِ سمعتِه، يعتبرون أنَّ بولس يقولُ شيئًا ويفعلُ شيئًا آخر، أو بالأحرى إنَّه غيرُ منسجِمٍ مع نفسِهِ. غيرَ أنَّ تصرُّفَ بولسَ الَّذي يُعرف من بدايةِ الرِّسالةِ (2 قور 1: 23–2: 11) كان دافِعُه الرَّغبةَ في التَّعاونِ مع أهلِ قورنتس بدلًا من أن يتكبَّرَ، ليتركَ بينَه وبينَهم مسافةً حكيمةً لحلّ مشاكلهم بدلًا من أن يزيدَها.
وربّما يعودُ اتّهامُ بولسَ بأنَّه هزيلٌ إلى ما قاله لهم قبلًا: "جئتُ إليكم بضعفٍ وخوفٍ ورعدةٍ شديدة" (1 قور 2: 3). زدْ على ذلك، أنَّه عندمَّا بَشَّر قورنتس لأوَّل مرَّة كرَزَ بالمسيحِ مصلوبًا (1 قور 1: 23؛ 2: 2) من دونِ اللُّجوءِ إلى خطاباتِ الحكمةِ الدُّنيويَّةِ المقنعةِ (راجع 1 قور 2: 4). لكنَّ التَّفسيرَ الَّذي عزاهُ خصومُ بولسَ إلى أسلوبِه هذا، فيه تحريفٌ: كان بولسُ، بالنِّسبةِ إليهم، رجلًا ضعيفًا!
على الرغم من عِلمه بهذه الشائعات الَّتي رُوّجَت عنه من قِبَل منافسيه، بدأ بولس النصّ بــ "وداعة المسيح وحلمه" (2 قور 10: 1؛ راجع أيضًا فل 2: 1)؛ كلمتان مترادفتان، تحملان باللغة اليونانيَّة (praútetos kai epieikeías) معنى "التواضع والغفران". وبالتَّالي، فهو يُجيب ضمنيًّا على انتقادات خصومه مُتَّخذًا موقف المسيح نفسه الَّذي "أخلى ذاته" (فل 2: 8) و"افتقر من أجلهم" (2 قور 8: 9). ومع ذلك، حتَّى ولو كان تواضع بولس على مثال المسيح، فقد اعتبرَه المعارضون حقارةً.
2 وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين.
3 أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الـجَسَد، ولـكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛
4 لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلى هَدْمِ الـحُصُونِ الـمَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الـخَاطِئَة،
5 وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ الله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ الـمَسِيح.
6 ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم.
هو اتّهامٌ آخر وجّهه البعضُ لبولسَ أنَّه "يسلكُ سلوكًا جسديًّا" (2 قور 10: 2)، أي وِفْق معاييرَ محضٍ بشريّةٍ، أساسُها الأنانيَّةُ. يعترفُ بولسُ أنَّه إنسانٌ ضعيفٌ لا يزالُ "يعيشُ في الجسدِ" (2 قور 10: 3)، ولكنَّه يُبرهِنُ لهم أنَّ الأساليبَ الرّاعويَّةَ الَّتي يستخدِمُها "ليست جسديَّةً"، لأنَّها مبنيَّةٌ على "قدرةِ اللهِ" (2 قور 10: 4؛ راجع أيضًا فل 4: 13).
يصف بولس الخدمة الرسوليَّة كقتالٍ ضدَّ "حصون العدوّ" (2 قور 10: 4)، ويوضح أنَّ "أسلحتَه" تهدُمُ وتبني في الوقتِ نفسِه. فمن جهةٍ أولى، إنّ الوسائلَ الرَّاعويَّةَ الَّتي يستخدِمُها قادرةً على كلِّ ما يحُوْلُ دون معرفةِ اللهِ (2 قور 10: 4-5). ومن جهةٍ أخرى، تستطيع هذه الأسلحةُ أن "تأسرَ كلَّ فكرٍ لطاعةِ المسيح" (2 قور 10: 5). على أيّ حالٍ، يدرك بولس أنَّ أسلحته فعَّالة بفضلِ "القدرةِ الإلهيَّةِ" (2 قور 10: 4؛ راجع أيضًا 1 قور 1: 18، 24)، لدرجةٍ أن "تهدم الأفكارَ الخاطئةَ" المتعارضةَ مع الوحيِ الإلهيِّ، والَّتي يبثُّها المعارضون في كرازتِهم بالإنجيلِ. وتزدادُ أهميَّةَ إعلانِ بولس هذا في مواجهةِ الوسطِ الثقافيِّ اليونانيّ-الهلّينيّ في قورنتس، حيث كان بعضُ المسيحيّين مفتونين بالحكمةِ البشريَّةِ، ومتردّدين في قبولِ "حماقةِ" (moría) صليبِ المسيحِ (راجع 1 قور 1: 17-25) الَّذي يكرزُ به بولسُ.
من بين العوائق الَّتي اعترضَتِ الكنيسة أيَّامَ بولس كان التبشيرُ "بمسيحٍ مختلفٍ" و"روحٍ مختلفٍ" و"إنجيلٍ مختلِفٍ" مقارنةً بما بشَّرَ به بولسُ أثناءَ إقامَتِه في قورنتس (راجع 2 قور 11: 4). من المحتمَلِ أنْ يكونَ بولس قد لـمَّحَ في هذا الإطار إلى البدعِ الَّتي نشرَها "الرُّسلِ الكذبةِ" (2 قور 11: 13)، وهو مستعدٌّ "لمعاقَبةِ كلّ عصيانٍ" (2 قور 10: 6). لذلك، يذكّر بولسُ كنيسةَ قورنتس بواجبِ طاعةِ المسيحِ (2 قور10: 5)، وبالتَّالي، يذكّر نفسه كونه "رسول المسيح يسوع بمشيئة الله" (2 قور1: 1).
7 إِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى الـمَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.
8 فَأَنا لا أَخْجَلُ إِنْ بَالَغْتُ بَعْضَ الـمُبَالَغَةِ في الاِفْتِخَارِ بِالسُّلْطَانِ الَّذي وَهَبَهُ الرَّبُّ لَنا لِبُنْيَانِكُم لا لِهَدْمِكُم.
بعد أن طلبَ بولسُ من أهلِ قورنتس الطَّاعةَ للهِ، اضطُرَّ إلى أن يُشير إلى سمَتَين أساسيَّتَين لسلطته الرَّسوليَّة: مصدرُها الإلهيّ، "السلطان الَّذي وهبه الرَّبُّ لنا"، وغايتها الرَّسوليَّة "لبنيانكم لا لهدمكم" (2 قور 10: 8). فبإعادة التأكيد على سلطتِه الرَّسوليَّة يستبعد بولس كلَّ اجتهادٍ شخصيّ بشريّ. في الواقع، إذا كان بولس قد عرَّف عن ذاته في مستهلّ الرسالة، على أنَّه "رسولُ المسيحِ يسوع" (2 قور 1: 1)، فهو يؤكّد الآن أنَّه ينتمي إلى المسيحِ، على الأقلّ بالطَّريقةِ نفسِها الَّتي يدَّعي بها الآخرون أنَّهم للمسيحِ (2 قور 10: 7). ليس هذا وحسب، بل بالعودةِ إلى ادّعاءِ خصومِه أنَّهم "خدَّامُ المسيح"، يُعلن بولس تفوقّه عليهم: "أقول كمَن فقد صوابَه: أنا أكثر!" (2 قور 11: 23).
انطلاقًا من هذه التفاصيل الَّتي يعرضها بولس، فسَّر البعضُ أنَّ ادّعاءَ خصومِ بولسَ بأنَّهم "واثقون بأنفسِهم أنَّهم للمسيح" (2 قور 10: 7)، قد يكون مُستمدًّا من المعرفةِ المباشرةِ ليسوعَ التَّاريخيِّ، وقد حُدّدوا بأتباعِ المسيحِ الَّذين عارضوا مجموعاتٍ أخرى في كنيسةِ قورنتس المُشارِ إليها ببولسَ وأبلُّوس وكيفا (راجع 1 قور 1: 12).
علاوةً على ذلك، فقد أجاب بولس سابقًا على ما يخصُّ أيَّ ادّعاءٍ لخصومِه مؤسَّسٍ على معرفتِهم المباشرةِ ليسوعَ التّاريخيّ، إذ قال: "منذ الآنَ لا نعرِفُ أحدًا معرفةً بشريَّةً، وإن كنَّا قد عرَفنا المسيحَ معرفةً بشريَّةً، فالآنَ ما عدنا نعرِفُه كذلك. إذًا، إن كان أحدٌ في المسيح فهو خلقٌ جديدٌ" (2 قور 5: 16-17). بعبارةٍ أخرى، انتماءُ بولسَ للمسيحِ (2 قور 10: 7) وممارستُه لرسالته المسيحيَّة (2 قور 11: 23) يؤسَّسان بالدّرجةِ الأولى على لقائِه بالمسيحِ القائمِ على طريقِ دمشق. لذلك، يمكنه أن يطالبَ بحقِّ السُّلطانِ الَّذي مَنَحَهُ إيَّاه المسيحُ القائمُ من بينِ الأمواتِ (2 قور 10: 8؛ راجع أيضًا 13: 10).
9 ولا أُرِيدُ أَنْ أَظْهَرَ كأَنِّي أُخَوِّفُكُم بِرَسَائِلي؛
10 لأَنَّ بَعْضًا مِنْكُم يَقُولُون: "رَسَائِلُهُ شَدِيدَةُ اللَّهْجَةِ وقَوِيَّة، أَمَّا حُضُورُهُ الشَّخْصِيُّ فَهَزِيل، وكَلامُهُ سَخِيف!".
11 فَلْيَعْلَم مِثْلُ هـذَا القَائِلِ أَنَّنا كَما نَحْنُ بِالكَلامِ في الرَّسَائِل، عِنْدَما نَكُونُ غَائِبين، كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا بِالفِعْل، عِنْدما نَكُونُ حَاضِرين.
إذا كانَ على بولسَ أنْ يبنيَ الكنيسةَ بدلًا من أن يهدِمَها (راجع 1 قور 3: 16-17)، فلا فائدةٌ من أن تهْدَف رسائلُه إلى تخويفِ أهلِ قورنتس، كما قد يبدو لهم (2 قور 10: 9)، أو كما ادَّعى "هذا القائلُ" (2 قور 10: 11) الَّذي كانَ يبثُّ شائعاتٍ ضدَّ بولسَ. وفي هذا الصَّددِ، نقلَ بولسُ مباشرةً الشّائعة الَّتي تمّ تداوُلُها في قورنتس، والَّتي في جوهرِها، تكرّرَ أوَّلُ اتهامٍ (راجع 2 قور 10: 1) وردَ قبلًا: "رسائلُه شديدةُ اللَّهجةِ وقويَّةٍ، أمَّا حضورُه الشّخصيُّ فهزيلٌ، وكلامُه سخيفٌ" (2 قور 10: 10). لقد سبَقَ بولسُ وأجابَ على هذا الانتقادِ (2 قور 10: 2)، والآن يكرِّرُ ذلك مبيّنًا صِدْقَ رسالتِه وانسجامِه مع ذاتِه عندما يكونُ غائبًا وعندما يكونُ حاضرًا" (2 قور 10: 11).
خلاصة روحيَّة
وجدت جماعةُ قورنتس تبشيرَ بولسَ بالإنجيل ضعيفًا للغاية، كما أنَّها اعتبرَتْ منهجَه في الخدمة مُشكّكًا. بعد أن بشّر بولس أهل قورنتس بالمسيح، وصل إلى المدينةِ رسلٌ آخرون يعزّزون مواقفَ الجماعةِ، ويستوعبون ثقافتها المعاصرةِ. فاتَّضحَ عدمَ رضى العديدِ من الجماعةِ على بشارةِ بولس، بسببِ افتقارِه إلى الموهبةِ، ورفَضَ الدَّعمَ المادّيَّ ورسائل التّوصية؛ كما وأنَّ أسلوبه الحياتيّ يتميّز بالألم والمعاناةِ والضّعفِ.
من هذا المنطلق، كان معيار بولس لتقييم الخدمة الرسوليَّة مختلفًا عن الباقين. فهناك آياتٌ أساسيّة كــ 2 قور 1:9؛ 3: 5؛ 4: 7؛ 6: 7؛ 12: 9؛ 13: 4 تشير إلى أنَّه بالنِّسبة إلى بولس ينبغي للحياة المسيحيَّة والخدمة الرسوليّة أن تتمَّا بقوّةٍ إلـهيّة لا بقوًى البشريَّة. كانت خدمة بولس الرسوليّة صالحةً لأنَّه قام بها في حضورِ الله (2 قور 2: 17)، ومع الله (2 قور 5: 10)، وكنتيجةٍ لرحمةِ الله نحوه (2 قور 4: 1)، وليس نتيجةً لقوَّته، أو لسلطته، أو لإتقانٍ بلاغيّ، أو لمواهب خاصَّة.
ما دعم نهج بولس هذا نجده في المسيح الَّذي "صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ، لكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ اللهِ. فَنَحْنُ أَيْضًا ضُعَفَاءُ فِيهِ، لكِنَّنَا سَنَحْيَا مَعَهُ بِقُوَّةِ اللهِ مِنْ جِهَتِكُمْ" (2 قور 13: 4). المسيح هو نموذج بولس الَّذي اشترك في ضعف المعاناة ونجاح الخدمة من خلال قوّة الله. وهكذا، فالمعاناة، والضعف، والشدة، بدلاً من أن تكون سببًا للتنحّي عن الخدمة، أصبحَتْ في الواقعِ دليلًا على أصالةِ بولس الرسوليَّة الَّتي تأتي من اللهِ وليس منه (2 قور 3: 6).
انطلاقًا من اختبارِ بولسَ نفهمُ ما قد سبَقَ وعاشَه يوحنَّا المعمدانُ الَّذي كان شاهدًا للمسيحِ، وآمَنَ بأنَّ الملكوتَ يشقُّ الطَّريقَ عَبْرَ الأمانةِ والطَّاعةِ للهِ. فإنْ كان يوحنَّا قد أحسَنَ الأداءَ على حسابِ حياتِه، حتَّى وصل إلى الاستشهادِ، فلا بدَّ من أن يكونَ هناك أعداءٌ ارتكبوا أخطاءً فادحةً قد عاشوا حولَه، مع أنَّه لا يحقُّ للانسانِ تصنيفُ البشرِ؛ لأنَّه ما من شيءٍ يساوي الانسانَ إلَّا حبُّ اللهِ المجانيُّ.