الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2021-11-27
3 تَبَارَكَ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الـمَسِيح، الَّذي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ في السَّمَاوَاتِ في الـمَسِيح؛
"تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح": تفتتح هذه العبارة نشيدًا ينتهي في الآية 14. يُبارك الله جميع النَّاس ببركاتٍ ماديَّة إذ "يُرزِقُ كلَّ ذي بشرٍ خُبزَه" (مز 136: 5)، و"يُشرقُ شمسه على الأشرار والأخيار، ويسكب غيثَه على الأبرار والفجَّار" (متَّى 5: 45)، ولكنَّ "البركات الرُّوحيَّة" هي للَّذين "في المسيح". أمَّا "في السَّماوات" فهي المكان الَّذي "جلس فيه المسيح عن يمين الآبِ" (أف 1: 20)، وهي المكانُ الَّذي يجلس فيه "الَّذين هم في المسيح يسوع" (أف 2: 6)، حيث "تُعرَف من خلال الكنيسة حكمةُ الله المتنوّعة" (أف 3: 10)، وحيث نصارع مع "أرواح الشرّ" (أف 6: 12). لكن يجب الانتباه إلى أنَّ "السماوات" لا تشير إلى مسكنٍ ماديٍّ بقدر ما تشير إلى العالم الرُّوحيّ برمَّته.
4 فإِنَّهُ اخْتَارَنَا فيهِ قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَم، لِنَكُونَ في حَضْرَتِهِ قِدِّيسِين، لا عَيْبَ فينَا؛
البركة الروحيَّة الأولى هي أنَّه "اختارنا فيه". اختارنا الله لدعوةٍ معيَّنة، للقيام بمهمَّةٍ معيَّنة. لقد اختار الله أنَّ يفدي الجميع "قبل إنشاء العالم"، أي قبلَ خلقِ العالمِ المنظَّم وتاريخ البشر. في الأزليَّة سبق فعيَّن الآبُ الابنَ ليسفِك دمَه من أجلنا (راجع 1 بط 1: 20). "هو الحمل المذبوح... منذ إنشاء العالم" (رؤ 13: 8؛ 17: 8). إنَّه تصميمٌ خلاصيٌّ أزليٌّ ثابتٌ وشامل.
"لنكون في حضرته قدّيسين، لا عيب فينا": سبق ودعا بولس أهل أفسس في الآية الأولى. الإشارة الأولى هي إلى مكانة الَّذين "في المسيح" أمام الله، والثانية تشير إلى عيش الحالة الَّتي تليق بهذه المكانة. فقد قال الله: "كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس" (1 بط 1: 16). وعبارة "لا عيب فينا" معناها أن نكون أنقياء مثل التَّقدمة الَّتي كانت تُقرَّب ذبيحةً للرَّبّ "ولم يكن فيها عيب" (أح 22: 21). لكن لا يستطيع البشر أن يكونوا قدّيسين كما أنَّ الله قدَّوس أو بلا شائبةٍ ولا عيب (راجع 1 يو 1: 8). المسيح هو النموذج الكامل وينبغي للمسيحيّين أن يجتهدوا "ليسيروا على خطاه" (1 بط 2: 21). عدم كمال المسيحيّين لا يُبطل حقيقة أنَّه ينبغي لهم أن يستمرّوا في المحاولة ليعيشوا حياة القداسة. فعندما يسعون "للسَّير في نور الله، يطهّرهم دم يسوع ابنه من كلّ خطيئة" (1 يو 1: 7-9).
5 وقَدْ سَبَقَ بِمَحَبَّتِهِ فَحَدَّدَنَا أَنْ نَكُونَ لَهُ أَبْنَاءَ بِالتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الـمَسِيح، بِحَسَبِ رِضَى مَشِيئَتِهِ،
البركةُ الروحيَّةُ الثّانية هي أنَّ اللهَ قام بمبادرةٍ مدفوعةٍ بمحبَّته الإلهيَّة و"سبق فحدَّدنا أن نكون له أبناء بالتَّبنّي". توضح كلمة "بالتَّبنّي" القصد أو الهدف الَّذي من أجله سبق الله فاختارنا. ذكر بولس التبنّي في الرسالة إلى أهل غلاطية (غل 4: 4-7) في إشارةٍ إلى الَّذين كانوا مقيّدين بالشَّريعة بسبب عدم قدرتهم على الحفاظ عليها. وفي ذلك السياق ساوى التَّبنّي بالفداء، حيث يُدفع الثمن للتَّحرير. فالتَّبنّي أصبح ممكنًا لأنَّه، بموت المسيح، تمَّ دفعُ الثَّمن لإطلاق سراح الَّذين كانوا في الخطيئة.
عمل الله الآب، ليجعل الَّذين "في المسيح يسوع" أبناءه، تمَّ تنفيذه "بيسوع المسيح". يشير حرف الجرّ "باء" في كلمة "بيسوع" إلى الوسيط أو الوسيلة. كان عمل المسيح على الصَّليب هو الوسيلة الَّتي بها أُنجِزَ قصد الله للتَّبنّي "بحسب رضى مشيئته"، أي أنَّه سُرَّ بما قد فعل.
6 لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا في الـحَبِيب؛
إنَّها اللَّازمة المتكرّرة في النشيد بشكلٍ متشابه (راجع أف 1: 12، 14)، ولكنْ هنا، في المرَّة الأولى الَّتي تَرِد فيها اللَّازمة، يشدّد بولس على "نعمة الله" الَّتي تشمل شخصه فضلًا عن عمله. لذلك فإنَّ نعمتَه وروعتَه وبهاءَه كلُّها تدعو إلى عبادته وتمجيدِه من قِبَل شعبِه. كرَّرَ بولس في هذه الآية موضوع النّعمة إذ أضاف: "الَّتي أنعم بها علينا". "أنعم" الله علينا بهذه النّعمة "في الحبيبِ"، أي المسيحِ، كما سبق وعبَّر عنه في الآيَتَين الثالثةِ والخامسةِ.
7 وفيهِ لَنَا الفِدَاءُ بِدَمِهِ، أَي مَغْفِرَةُ الزَّلاَّت، بِحَسَبِ غِنَى نِعْمَتِهِ،
بعدما تكلَّم بولس على المسيحيّين الَّذين اختارهم الله ليكونوا قدّيسين بلا عيب، تابع كلامه ليوضح كيف يكون هذا الاختيار ممكنًا. أولاد الله الَّذين تبنَّاهم الله هم مُفتدَون "بدم المسيح"، وبالتَّالي غُفِرَت خطاياهم بسخاء. في الآية السَّابعة هنا، يذكّر بولس المسيحيّين بالبركة الرُّوحيَّة الثالثة: "لنا الفداء بدمه". لكلمة "فداء" خلفيَّة تاريخيَّة غنيَّة، وهي أحد المصطلحات ذات المعاني الغنيَّة لوصف علاقتنا بالله. فبدلًا من صيغة الماضي، استخدم بولس باللغة اليونانيَّة صيغة المضارع. فالبركة الَّتي تكلَّم عليها حدثت في وقتٍ سابق، بفوائد في الوقت الحاضر، وتستمرّ في المستقبل. الَّذين "في المسيح" هم الآن في الوقت الحاضر يتنعَّمون ببركة الفداء.
"مغفرة الزلَّات، بحسب غنى نعمته": الغفران هو البركة الرُّوحيَّة الرابعة. كلمة "مغفرة" باللغة اليونانيَّة (áfesis) تعني "يُرسل بعيدًا". هذا ما يذكّرنا بكبش الفداء الَّذي كان ينبغي على الشَّعب الَّذي تحت شريعة موسى أن يرسلَه بعيدًا إلى البرّيَّة حاملًا خطايا الشَّعب (راجع أح 16: 21). كلمة "الزلَّات" تصف الخطيئة على أنَّها انتهاكٌ للمعايير الأخلاقيَّة. عندما يكون الانسان "في المسيح"، تَغفرُ نعمةُ الله آثامَه وتجعله بارًّا، ويكون حرًّا من قوَّة الخطيئة وعواقبها؛ يضعه الله، برحمته، على المسار الصَّحيح ويمنحه القدرة على التحوُّل.
8 الَّتي أَفَاضَهَا عَلَيْنَا في كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْم؛
9 وقَدْ عَرَّفَنَا سِرَّ مَشِيئَتِهِ، بِحَسَبِ رِضَاهُ الَّذي سَبَقَ فَجَعَلَهُ في الـمَسِيح،
تشير كلمة "الَّتي" إلى نعمة الله. هذه النّعمة "أفاضها الله علينا"، فهي أكثر بكثير من مجرَّد كونها تكفي لتمدّنا باحتياجاتنا، وهذه هي البركة الرُّوحيَّة الخامسة. ترتبط عبارةُ "كلّ حكمةٍ وفهم" في الآية الثَّامنةِ بكلمةِ "عرَّفنا" في الآيةِ التَّاسعةِ. تشيرُ صلاةُ بولس، لأجلِ أهل أفسس، إلى أنَّ الله يمنحهم حكمةً وفهمًا إذ كانوا ممتلئين "بمعرفةِ سرّ مشيئتِه"، أي بعبارةٍ أخرى، يعطيهم الله القدرة على فهم سرّ مشيئته والعمل بها.
كلمة "سرّ" الواردة في الآية التَّاسعة تشير إلى الحقّ الإلهيّ الـمُعلَن وليسَ السِّرّ الَّذي لا يمكنُ فهمه أو إدراكه. "بحسب رضاه": ما أعلنه لنا الله نابعٌ من قصده المحبّ لعمل ما هو أفضل للقدّيسين (أف 1: 5). وهذه المسرَّة هي الَّتي "سبق فجعلها في المسيح يسوع" بإصرارٍ متأصّلٍ في قلبِه المحبِّ.
10 لِيُحَقِّقَ تَدْبِيرَ مِلْءِ الأَزْمِنَة، فَيَجْمَعَ في الـمَسِيحِ تَحْتَ رَأْسٍ وَاحِدٍ كُلَّ شَيء، مَا في السَّماوَاتِ ومَا عَلى الأَرْض؛
"ملء الأزمنة" هو الزَّمان الَّذي ظهر فيه المسيح، وقد عيَّنه الله ووعد به الآباء، وتنبّأ به الأنبياء، واشتهتهُ كلُّ الأمم. يختصر هذا الملءُ الطبيعة الشَّاملة لتدبير الله الخلاصيّ، أي أن يجمع كلَّ شيءٍ معًا في المسيح. وكلمة "يجمع" نادرة الاستعمال في رسائل القدّيس بولس. وردت هنا وفي الرسالة إلى أهل روما (روم 13: 9) فقط. في نصّ الرّسالة إلى أهل روما انطلق بولس "ليجمع" جميع الوصايا بالعلاقات البشريَّة. قال: تختصرها ]في اللغة اليونانيَّة (anakefalaiow): "مجموعةٌ في"[ هذه الكلمة: أحبب قريبك كنفسك". تُلخَّص جميع الوصايا بالمحبَّة؛ وبلغةٍ مماثلة يُلخَّص تدبير الله بالكامل في المسيح، الَّذي فيه يُصالَح كلّ "ما في السَّماوات وما على الأرض"، أي مصالحة الانسان مع الله نفسه.
11 وفيهِ أَيْضًا اخْتَارَنَا مِيرَاثًا لَهُ، وقَدْ سَبَقَ فَحَدَّدَنَا بِحَسْبِ قَصْدِهِ، هُوَ الَّذي يَعْمَلُ كُلَّ شَيءٍ بِقَضَاءِ مَشِيئَتِهِ،
إنَّ الَّذين تصالحوا مع الله في المسيح هم "ميراثٌ له"؛ وهذه هي البركة الروحيَّة السَّادسة. يأتي "قصد" الله لشعبه من "محبَّته" (أف 1: 5)، و"رضى مشيئته" (أف 1: 5، 9)، و"نعمته" (أف 1: 6-7). كلمة "قصد" تدلُّ على تصميمٍ أراده الله. ما أصبح عليه المؤمنون لم يكن عشوائيًّا أو عن طريق الصُّدفة، بل بتصميمٍ أزليّ إلهيّ. كلمة "رضى" تدلُّ على التداول والتَّفكير. لم يتصَّرف الله بشكلٍ تعسُّفيٍّ في قصدِه في المسيحِ، بل إنَّ تجسُّد المسيح تمّ باتّخاذ قرارٍ أن يأتي الابن إلى هذا العالم ليكون المخلّص. وجاء يعمل مشيئة الآب بكلّ سرور. بينما تشير كلمة "رضى" إلى قرارٍ لعمل شيء، إلَّا أنَّ كلمة "مشيئته" تدلُّ على الإرادة الَّتي تحثُّ على عَمَلِ الشَّيء. أمَّا كلمة "نعمته" فتشير إلى مجَّانيَّة الله اللَّامحدودة.
12 لِنَكُونَ مَدْحًا لِمَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ سَبَقْنَا فجَعَلْنَا في الـمَسِيحِ رجَاءَنَا؛
كلّ ما عمله اللهُ لنا في المسيحِ، قد عمله ليعطينا "رجاءً" إلى المنتهى، لكي نوجد "مدحًا لمجده". بمدح الله بسبب الرَّجاء، فضلًا عن الفداء والغفران (أف 1: 7)، لنا رجاءٌ لأنَّنا ميراثُ الله، ورجاؤنا هو في "شخص يسوع المسيح".
13 وفيهِ أَنْتُم أَيْضًا، بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُم كَلِمَةَ الـحَقِّ، أَي إِنْجِيلَ خَلاصِكُم، وآمَنْتُم، خُتِمْتُمْ بِالرُّوحِ القُدُسِ الـمَوعُودِ بِهِ،
إن كان الكلام هو وسيلة التواصل الَّتي يعبّر بها الانسان عن أفكاره، فعبارة "كلمة الحقّ" تشيرُ إلى أنَّ الكلامَ الَّذي كرزَ به بولس إلى أهل أفسس هو "حقّ"، لا بل "حقيقة إلهيَّة". و"كلمة الحقّ" هذه هي "الإنجيل"، أي بشرى "خلاصكم". في العهد الجديد، يرتبط الإنجيل، دائمًا، بالخلاص. لذلك، فإنَّ الرسالة هي "الإنجيل"، وحقُّ هذا الإنجيل يؤدّي إلى الخلاص. لكن ينبغي قبول الحقّ، أي الإنجيل، على أنَّه كلمةُ الله (راجع 1 تس 2: 13)، والإيمانُ به (راجع 2 تس 2: 12)، ومحبَّته (2 تس 2: 10)، وإطاعته (1 بط 1: 22). هذا الإنجيلُ هو "قوَّةُ الله للخلاص" لكلّ من يقبله (روم 1: 16).
بعد ما سمع أهل أفسس الإنجيل وآمنوا به، "خُتموا بالرُّوح القدس الموعود به". ما هي أهميَّة هذه البركة السَّابعة؟ كلمة "مختوم"، كما وردت باللغة اليونانيَّة (sfragízo) بصيغة الماضي التامّ، تعني أنَّه شيءٌ يعمله الله لنا مرَّةً واحدة فقط. يُختم المسيحيّ بالرُّوح القدس الموعود به عندما ينال غفران الخطايا والرُّوح القدس كعطيَّة، على شرط التَّوبة والمعموديَّة الَّتي تُمنح مرَّة واحدة.
14 وهُوَ عُربُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ شَعْبِهِ الَّذي اقْتَنَاه، ولِمَدْحِ مَجْدِهِ.
الروح القدس الَّذي خُتمنا به هو "عربون"، أي المدفوع سلفًا من ثمن الشَّيء لضمان الشّراء. هذا ما يعني أنَّ الله أعطى الرُّوح القدس في الوقت الحاضر ليؤكّد للمؤمن ضمان ميراثه الأبديّ عندما يتمجّد في السَّماء (راجع رأف 4: 30).
قدَّم بولس في هذه الآية سبَبَين لختم المؤمنين بالرُّوح القدس: أوَّلًا، "لفداء شعبه الَّذي اقتناه"، أي أنَّه بالفداء امتلك الله امتلاكًا تامًّا الَّذين هم خاصَّته؛ وثانيًا، "لمدح مجده"، القصد المماثل لذلك الَّذي ورد قبلًا (راجع أف 1: 6، 12). التتميم النهائيّ لتدبير الله الـمُعلَن هنا يجب أن يؤدّي إلى التَّمجيد من قِبَل جميع المؤمنين.