الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2021-11-13
14 فلَوْ كَانَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ هُمُ الوَارِثِين، لأُبْطِلَ الإِيْمَان، وأُلْغِيَ الوَعْد؛
لو كان نيلُ الوعد يعتمد على الشَّريعة لكانت هناك نتيجَتان: الأولى، لكان الإيمان قد "أُبطِل"، أي بحسب الكلمة اليونانيَّة kenos يكون قد أصبح فارغًا من دون أيّ محتوى. هذا يعني أنَّنا كلَّنا سنهلك، لأنَّه لا يستطيع أحدٌ منَّا حفظ النَّاموس حفظًا كاملًا. الثّانية، "يُلغى الوعد" نفسه. كما ورد الفعل باللغة اليونانيَّة katargeo الُذي يُشير إلى الإلغاء بمعنى اللافعاليَّة. لم يُعطَ الوعد لإبراهيم لأنَّه حفظ شرائع الله حفظًا كاملًا، بل لأنَّه آمنَ. لكن لماذا يكون الحال هكذا؟ هذا ما توضّحه الآية 15.
15 لأَنَّ الشَّرِيعَةَ تُسَبِّبُ غَضَبَ الله؛ وحَيْثُ لا شَرِيعَة، فَلا تَعَدِّيَ لِلشَّرِيعَة.
لا بدّ من أن تواصل الشَّريعة إعطاءُ بركاتِ الله لأنَّ الله نفسه هو الَّذي أعطاها. فعندما قال بولس إنّ "الشريعة تسبّب غضب الله"، لم يعنِ بذلك أنَّه ليست هناك قيمة في الشَّريعة، وإلَّا لما كان الله أعطاها. لكن ما دام ليس هناك من يحفظ الشَّريعة حفظًا كاملًا، فكلّ ما تفعله الشَّريعة في نهاية المطاف هو إنشاء الغضب (هذا ما يوضحه بولس بالتفصيل في روم 7). "تسبّبُ الشَّريعة غضب الله" لأنَّها كالمرآة تدلُّ على خطأ الانسان، ولكن لا تشفيه؛ تحدّد مشكلته، ولكنَّها لا تقدّم له الدواء؛ تعرّفه إلى خطيئته، ولكنَّها لا تزيلها. لذا يحتاج الانسان إلى من هو أعلى من الشَّريعة ليخلّصه.
بعد أن قال بولس إنَّ "الشريعة تسبّب غضب الله" أضاف عبارةً مذهلة: "حيث لا شريعة، فلا تعدّي للشَّريعة". كلمة "تعدّي" تدلّ عادةً على الانتهاك المباشر للشَّريعة. لكنّ ورود العبارة بصيغة "النكرة (من دون الـ التعريف)" يدلّ على أنَّ بولس يشير إلى مبدأ يتعلّق بأيّ قانون بصفةٍ عامَّة. فهناك قوانين لجميع النَّاس، أمكتوبةً كانت أم غيرَ مكتوبةٍ، ولكن لم يحفظْ أحدٌ قطّ هذه القوانين بحذافيرها حفظًا كاملًا. فيكون الجميع في نهايةِ المطافِ منتهكين للقانون، وهذا ما يجلبُ "غضبًا" للجميعِ. لذا يستخلصُ بولس في الآية 16 مبدأً مهمًّا جدًّا.
16 لِذـلِكَ فَأَهْلُ الإِيْمَانِ هُمُ الوَارِثُون، لِكَي تَكُونَ الوِرَاثَةُ هِبَةً مِنَ الله. وهـكَذَا تَحَقَّقَ الوَعْدُ لِكُلِّ نَسْلِ إِبْرَاهيم، لا لِلنَّسْلِ الَّذي هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ فَحَسْب، بَلْ أَيْضًا لِلنَّسْلِ الَّذي هُوَ مِنْ أَهْلِ الإِيْمَان، إِيْمَانِ إِبْرَاهِيم، الَّذي هُوَ أَبٌ لَنَا أَجْمَعِين؛
إن كانت الشَّريعة تُلغي الوعد، فالإيمانُ يوطّدُه. كلمةُ "نسلٍ" هنا لا تشير إلى نسلٍ بحسبِ الجسدِ، إنَّما إلى نسلٍ روحيٍّ. ليس الضَّمانُ "لمن هم من أهلِ الشَّريعةِ فحسبِ، بل أيضًا للنَّسلِ الَّذي هو من أهلِ الإيمانِ، إيمانُ إبراهيم، الَّذي هو أبٌ لنا أجمعين". ليس الضَّمان لليهود الَّذين سيؤمنون بيسوع فحسب، بل أيضًا للأمم الَّذين "يسلكون على خُطى الإيمان الَّذي كان لأبينا إبراهيم" (روم 4: 12).
17 كَمَا هُوَ مَكْتُوب: "إِنِّي جَعَلْتُكَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَة". فَإِبْرَاهِيمُ الَّذي آمَنَ باللهِ هُوَ أَبٌ لَنَا أَمَامَ الله، الَّذي يُحْيي الأَمْوَات، ويَدْعُو غَيْرَ الـمَوْجُودِ إِلى الوُجُود.
يُشير بولس هنا إلى الوقت الَّذي ظهر فيه الله لإبراهيم عندما كان في نحو مئة سنةٍ من عمره، وجدّد وعده له قائلًا: "إنّي أجعلك أبًا لأممٍ كثيرة" (تك 17: 4، 5). يحدّد القسم الثَّاني من الآية حقيقتَين عن الله "الَّذي آمن به إبراهيم":
"يحيي الموتى"، أي جسَدَي إبراهيم وسارة "الميّتين" (روم 4: 19)؛ سيُحيي الله جسدَيهما ويجعلهما قادرَين على إنجاب ابنٍ. ربَّما هنا أيضًا تلميحٌ لحدثٍ لاحقٍ في حياة إبراهيم، عندما طلب منه الله أن يقدّم إسحق ابنه ذبيحة (راجع تك 22). قال كاتب الرّسالة إلى العبرانيّين: "بالإيمان إبراهيم... لـمَّا امتحنه الله، قرَّب إسحق... إنَّ الله قادرٌ أن يُقيم أيضًا من بين الأموات" (عب 11: 17، 19). ما يلفت الانتباه هنا هو أنَّ إبراهيم آمن بأنَّ الله قادرٌ على إحياء الموتى، مع أنَّه ليس هناك في سفر التكوين ما يدلّ على أنَّ إبراهيم قد رأى من قبل إنسانًا أقِيم من بين الأموات. ومع ذلك آمن بأنّ الله يستطيع كلّ شيء!
آمن إبراهيم أيضًا بأنَّ الله "يدعو غير الموجود إلى الوجود". قد يكون هذا إشارة إلى الفصل الأوَّل من سفر التكوين، حيث تكلَّم الله ودعا إلى الوجود عالـمًا لم يكن موجودًا من قبل. ربَّما يشير في هذا السّياق إلى الوعد أو الوعود الَّتي أعطيت لإبراهيم. لم يكن إسحق موجودًا بعد، ولكنَّ الله دعاه إلى الوجود. المقصود من ذلك هو أنَّ إبراهيم كان يعتبر إنَّه إذا قال الله شيئًا فسينفّذه من دون شكّ.
18 وقَدْ آمَنَ إِبْرَاهيمُ رَاجِيًا عَلى غَيرِ رَجَاء، بِأَنَّهُ سَيَصيرُ أَبًا لأُمَمٍ كَثيرَة، كَمَا قِيلَ لَهُ: "هـكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ".
بما أنَّ إبراهيم كان مركّزًا على الله «آمن راجيًا على غير رجاء، بأنَّه سيصير أبًا لأممٍ كثيرة، كما قيل له: "هكذا يكون نسلُكَ"». للرَّجاءِ علاقةٌ وثيقةٌ بالإيمانِ (راجع عب 11: 6)، ولكن هناك فرقٌ بينهما. الرَّجاءُ الَّذي كتبَ عنه بولس يجمع بين الرَّغبة والتَّوقُّعِ. قد أرغبُ في الحصول على شيء، ولكن ما دمْتُ لا أتوقَّعُ ذلك، فهذا ليس رجاءً. لم يكن لإبراهيم سببٌ بشريّ ليولَدَ له ابنٌ. أمَّا من وجهة النَّظرِ السَّماويَّةِ، فإنّ وعد اللهِ له، لم يجعله يرغب بابنٍ وحسب، بل توقَّع أن يكونَ له ذلك.
19 ولَمْ يَضْعُفْ بِإِيْمَانِهِ، بِرَغْمِ أَنَّهُ رأَى، وهُوَ ابنُ نَحْوِ مِئَةِ سَنَة، أَنَّ جَسَدَهُ مَائِت، وأَنَّ حَشَا سَارَةَ قَدْ مَات.
عندما وعد الله إبراهيم الَّذي كان "ابن نحو مئة سنة" بأنَّه سيكون له ابنٌ، لم يتجاهل إبراهيم حقيقة أنَّ "جسده مائت، وأنَّ حشا سارة قد مات" من ناحية إنجاب البنين. واجه إبراهيم هذه الحقيقة أنَّه من الناحية الجسديَّة لم يكن بمقدورهما هو وسارة امرأته إنجاب البنين. لكن برغم ذلك آمن بأنَّه هو وسارة سيُنجبان ابنًا. لماذا آمن؟ لأنَّه أدرك أنَّ الحقيقة الماديَّة ليست الحقيقة كلَّها؛ بل هناك حقيقةٌ أسمى من حقيقة هذا العالم هي "حقيقة الله". لم يتجاهل إبراهيم الحقيقة الدنيويَّة، ولكنَّه لم يدعها تخيفه وتقيّده. بل آمنَ بإلهٍ قديرٍ، إلهٍ قادرٍ على أن يعملَ ما قالَ إنَّه سيعمله.
20 وبِنَاءً عَلى وَعْدِ الله، مَا شَكَّ وَلا تَرَدَّد، بَلْ تَقَوَّى بالإِيْمَان، ومَجَّدَ الله.
لم يؤمن إبراهيم بقوَّة الله فحسب، بل وثق أيضًا بوعوده: "ما شكَّ ولا تردَّد". بدل من أن يرتاب إبراهيم من الحقيقة الدنيويّة البشريَّة، "تقوَّى بالإيمان، ومجَّد الله". نسب إلى الله ما كان له من المجد بعكس الَّذين "برغم معرفتهم لله، ما مجَّدوه ولا شكروه كما يليق بالله" (روم 1: 21). هذا ما ينقلنا إلى الآية 21 الَّتي هي خلاصة إيمان إبراهيم.
21 وأَيْقَنَ مِلْءَ اليَقِينِ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُنْجِزَ مَا وَعَدَ بِهِ.
تعبّر هذه الآية عن اتّكال إبراهيم التَّام على الله. اقتنع إبراهيم ووثق "ملء اليقين" بأنَّ الله "قادرٌ أن يُنجز ما وعد به". لم يؤمن إبراهيم بأنَّ الله "قادرٌ أن يُنجز" فحسب، بل أنَّه سيعمله فعلًا. آمن بأنَّ الله أمينٌ، صادقٌ (راجع تث 7: 9؛ 1 قور 1: 9)، لا يكذب (طي 1: 2؛ عب 6: 18).لم يكن من السهل على إبراهيم أن يؤمن بأنَّ الله سيتمّم وعده. فلا بدّ من أنَّ مرورَ السّنين من دونِ أن يُنجبَ ابنًا شيءٌ مثبطٌ للعزيمةِ. بالطَّبع صارَعَ إبراهيم إيمانَه، وكان ضعيفًا، أو حتَّى مرَّ بلحظاتِ شكٍّ، ولكنَّه لم يحوّل نظره عن الله أبدًا.
22 فَلِذـلِكَ حُسِبَ لَهُ إِيْمَانُهُ بِرًّا.
اختتم بولس النَّظرة الشَّاملة لحياة إبراهيم باقتباسٍ من تك 15: 6. لم يكن إيمان إبراهيم كاملًا، ومع ذلك، آمنَ، وبسببِ ذلك الإيمانِ برَّره اللهُ.
23 ولَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ "حُسِبَ لَهُ بِرًّا"،
24 بَلْ كُتِبَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا بِرًّا، لأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِالَّذي أَقَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ يَسُوعَ رَبَّنَا،
25 الَّذي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ زَلاَّتِنَا، وأُقيمَ مِنْ أَجْلِ تَبْريرِنَا.
بعد ذلك، قدّم بولس التّطبيقَ إلى قرَّاءِ هذه الرِّسالة وإلينا نحن أيضًا. لم يكتب ما ورد في تك 15: 6 كذكرى لإبراهيم فحسب، بل ليبقى حيًّا في ذاكرة النَّاس، لأنَّ الله ما زال يريدُ من النَّاسِ أن يتعلَّموا من إبراهيمَ. لم يطمحْ بولسُ كثيرًا في إعادةِ كتابةِ تاريخِ إبراهيمَ، ولكن كانت له رغبةٌ عظيمةٌ في تغييرِ قلوبِ النَّاسِ وحياتِهم إنطلاقًا من المسيحِ.
قيامة المسيح شيءٌ أساسيٌّ لإيماننا. قال بولس في بداية الرّسالة إلى أهل روما: "جُعِل بحسب روح القداسة ابن الله بقوَّة أيْ بالقيامة من بين الأموات" (روم 1: 4). وقال في الفصل العاشر: "فإنِ اعترفتَ بفمِكَ أنَّ يسوع هو الرَّبّ، وآمنتَ بقلبكَ أنَّ الله أقامه من بين الأمواتِ تخلصْ" (روم 10: 9). ومن ثمَّ قال عن يسوع إَّنه "أُسلِمَ لأجلِ زلاَّتِنا وأُقيمَ من أجلِ تبريرنا" (روم 4: 25) رابطًا، بذلك، الصَّلبَ والقيامةَ معًا كفَصلَين يدور عليهما باب الخلاص.