الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2021-09-18
36 فقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَصْنَعَ لَكُمَا؟».
37 قالا لَهُ: «أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ في مَجْدِكَ، واحِدٌ عَن يَمِينِكَ، ووَاحِدٌ عَنْ يَسَارِكَ».
يُجاوِبُ يَسوعُ بِسُؤالٍ يُعَبِّرُ عَنِ الإِيجَابِيّةِ والاسْتِعْدَادِ لِلإِصْغاءِ بِانْتِباهٍ إِلى مَطْلَبِ تِلْميذَيْهِ. بِاُسْلوبِهِ هَذا، يُشْعِرُهُمَا بالرَّاحَةِ والطَّمَأنِينَةِ في كَشْفِ رَغْبَتِهِمَا أَمَامَهُ، بِحُرِّيَّةٍ كَامِلَة. فَحِينَئِذٍ، قَالا لَهُ: " أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ في مَجْدِكَ، واحِدٌ عَن يَمِينِكَ، ووَاحِدٌ عَنْ يَسَارِكَ ".
إنّ َتجَاوُبَ يَسوعَ مَعَ تِلْميذَيْهِ، كَشَفَ خَفَايَا قَلْبَيْهِما، فَهُما يَطْلُبَانِ مُنْذُ الآنَ، مُقَاسَمَةَ مُعَلِّمِهِما بِمَجْدِهِ، وَهُمَا يَبْحَثانِ عَن الكَرامَةِ والتَّمايُزِ عَن باقِي التَّلاميذ. فَأَفْكارُهُمَا إِذًا، غَيرُ صَافِيَةٍ وَنَوايَاهُمَا غَيْرُ مُسْتَقيمَة. هَذا مَا يُفَسِّرُ طَلَبِهِمَا الـمُلِحَّ الَّذي يَفْرِضَاهُ بِشِدَّةٍ عَلى مُعَلِّمِهِمَا.
38 فقَالَ لَهُمَا يَسُوع: «إِنَّكُمَا لا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَان: هَلْ تَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الكَأْسَ الَّتي أَشْرَبُها أَنَا؟ أَو أَنْ تَتَعَمَّدَا بِالمَعْمُودِيَّةِ الَّتي أَتَعَمَّدُ بِهَا أَنَا؟».
بَعْدَمَا اكْتَشَفَ الـمُعَلِّمُ يَسوعُ نَوايَا تِلْميذَيْهِ، تَصَرَّفَ بِحِكْمَةٍ تَعْليمِيَّة. فَلِكَي يُنْقِذَهُما مِنْ أَفْكارِهِما غَيْرِ الصَافِيَة، حَوَّلَ انْتِبَاهَهُما إِلَى مَوْضوعٍ جَديد، مُسْتَخْدِمًا عِبارَاتٍ مُبَطَّنَة. فقَالَ: "إِنَّكُما لا تَعْلَمانِ مَا تَطْلُبَان"، بِهَذِهِ الكَلِماتِ يُوحِي يَسوعُ لِتِلْميذَيْهِ أَهَمِّيَّةَ طَلَبِهِما، فَأَثارَ فيهِما الدَّهْشَةَ الَّتي هَدَّأَت رَغْبَتَهُما الـمُلِحَّةَ. لَكِنَّ الـمَوضُوعَ الـمُهِمَّ الَّذي يُريدُ يَسوعَ أَنْ يَجْذِبَ إِلَيْهِ ابْنَي زَبَدى، هُوَ سُؤالُهُ: "هَلْ تَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الكَأْسَ الَّتي أَشْرَبُها أَنَا؟ أَو أَنْ تَتَعَمَّدَا بِالـمَعْمُودِيَّةِ الَّتي أَتَعَمَّدُ بِهَا أَنَا؟" أَلكَأسُ وَالـمَعْمودِيَّةُ، عِبَارَتانِ مَجازِيَّتَانِ يَقْصُدُ مَرْقُسُ بِهِما أَلأَلَمَ وَبَذْلَ الذَاتِ حَتَّى الدَّمِّ، أَي الاسْتِشْهادَ. وَيَسوعُ يُحَدِّدُ مِثالاً مُعَيَّنًا لِلِاسْتِشْهَادِ، أَيْ عَلى مِثالِ اسْتِشْهادِهِ هُوَ، الرَّبُّ ومُعَلِّمَّهُما.
بِجَوابِهِ الحَكيمِ هَذا، يُحاوِلُ يَسوعُ أَنْ يُعيدَ تِلْميذَيْهِ إِلى دَعْوَتِهِمَا الأَسَاسِيَّة وَهْيَ: "اتِّباعُهُ"، هُوَ الـمُعَلِّمُ الَّذي دَعَاهُما وَعَلَّمَهُمَا وَصَاياهُ.
39 قالا لَهُ: «نَسْتَطِيع». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوع: «أَلْكَأْسُ الَّتي أَنَا أَشْرَبُها سَتَشْرَبَانِها، والمَعْمُودِيَّةُ الَّتي أَنَا أَتَعَمَّدُ بِهَا ستَتَعَمَّدَانِ بِهَا.
40 أَمَّا الجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي أَوْ عَنْ يَسَارِي، فلَيْسَ لِي أَنْ أَمْنَحَهُ إِلاَّ لِلَّذينَ أُعِدَّ لَهُم».
جَوابُ ابْنَي زَبَدى الـمُخْتَصَرُ وَالسَّريعُ، يُعَبِّرُ عَنْ اسْتِعْدادِهِما الكَامِلِ، بِالقِيامِ بِكُلِّ أَمْرٍ يَلْزَمُ لِلْوُصولِ إِلى غايَتِهِما الـمَنْشودَةِ، أَيْ الجلوسُ عَن يَمينِ وَعَن يَسَارِ الرَّبِّ في مَجْدِهِ. الأَمْرُ الَّذي يُبَيِّنُ جَهْلَهُمَا لِلْمَجْدِ الَّذي يَطْلُبانِهِ. حينَئِذٍ، يُجاوِبُهُما يَسوعُ بِصَراحَةٍ، أَنَّ اتِّبَاعَهُ في طَريقِ الاسْتِشْهادِ سَيَحْصَلانِ عَلَيْهِ بِالتَّأكيد. وَلَكِنَّ طَلَبَهُمَا الأَساسِيَّ لِلْحُصولِ عَلى الـمَراكِزِ الأُولَى، فَـمُسْتَحيلٌ تَنْفيذُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُحْصَلُ عَلَيْهِ بِالوِسَاطَاتِ أَو بِالجَهْدِ الذَّاتِيِّ، بَلْ هُوَ مُعَدٌّ مِنْ قِبَلِ اللهِ الآبِ لِلَّذينَ يَسْتَحِقُّونَهُ.
نُلاحِظُ في هَذَا القِسْمِ مِنَ النَّصّ، طَريقَةَ الرَّبِّ يَسوعَ في مُرافَقَةِ تِلْميذَيْهِ اللَّذَيْنِ أَغْوَتْهُما أَفْكارَهُما الخَاطِئَةُ عَنْ مَجْدِهِ. فَقَدْ سَمَحَا لِأَهْوائِهِما وَلِرَغَباتِهِما أَنْ تسيطرَ عَلى ضَميريهما، فَأُعْمِيَتْ أَعْيُنَهُما عَنْ الـمَجْدِ الَّذي يُبَشِّرُ بِهِ يَسوع، أَيْ ذَاكَ الَّذي يَمُرُّ بِالأَلَمِ وَالـمَوتِ فِداءً عَنِ الآخَرِين. كَما نُلاحِظُ حِكْمَةَ الرَّبِّ يَسوعَ، الَّتي قَادَ بِها تِلْميذَيْهِ إِلى طَريقٍ جَديدَةٍ، فَلَم يَسْمَحْ بِأَنْ يَذْهَبَا فَارِغَي اليَدَيْنِ، خَائِبَيْ الظَّنِّ أَو يائِسَيْنِ، بَلْ وَهَبَهُما الِاسْتِعْدادَ لِلاسْتِشْهادِ، كَمَرْحَلَةٍ سَابِقَةٍ قَبْلَ الِالْتِحاقِ بِهِ في مَجْدِهِ.
41 ولَمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ الآخَرُون، بَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فدَعَاهُم يَسُوعُ إِلَيْهِ وقَالَ لَهُم: «تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذينَ يُعْتَبَرُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُم، وَعُظَمَاءَهم يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِم.
إِنَّ الحِوارَ الَّذي كَانَ يَدورُ بَيْنَ يَسوعَ وابْنَي زَبَدى، كَانَ بِحُضورِ جَماعَةِ التّلاميذِ العَشَرَةِ الآخَرين. شُعورُهُم بالِاغْتِياظِ أَمْرٌ طَبيعِيٌّ، لِأنَّ الأَخَوَيْنِ كَانَا يَطْلُبَانِ مِنَ الرَّبِّ حُظْوَةً، كَرامَةً وتَعالِيًا عَنِ الأَفْرادِ البَاقِين، الأَمْرُ الَّذي يُهَدِّدُ الوِحْدَةَ بَيْنَ أَعْضاءِ الجَماعَة. هَذا التَّصَرُّف يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ العَشَرَةِ البَاقينَ، أَيْضًا، لِلْـمَجْدِ وَلِلْمَراكِزِ الأُولَى الَّتي يَقْصِدُها الرَّبُّ يَسوعُ. فَلِذا، دَعَاهُم يَسوعُ لِيُعَلِّمَهُم وَيُفْهِمَهُم الـمَعْنى الصَّحيحَ لِلْسُّلْطَةِ. فَبَدَأَ يَصِفُ لَهُمُ الواقِعَ العَالَمِيَّ لِلرِّئاسَاتِ وَالسُّلُطاتِ. فَهَذِهِ الـمَراكِزُ الأُولَى في الـمُجْتَمَعاتِ العالَمِيَّةِ، يَحْصَلُ عَلَيْها الأَشْخاصُ العُظَماءُ وَالرُّؤَساءُ وَحُكْمُهُم يَسودُ وَيَتسَلَّطُ، أَيْ يَأتِي مِنَ الأَعْلَى، يُهَيْمِنْ، لا يَعْتَبِرُ مَنْ هُم في الأَسْفَلْ أَي الشَّعْب.
42 أَمَّا أَنْتُم فلَيْسَ الأَمْرُ بَيْنَكُم هكَذا، بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُم عَظِيمًا، فلْيَكُنْ لَكُم خَادِمًا.
43 ومَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الأَوَّلَ بيْنَكُم، فَلْيَكُنْ عَبْدًا لِلْجَمِيع؛
44 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَم، بَلْ لِيَخْدُم، ويَبْذُلَ نَفْسَهُ فِداءً عَنْ كَثِيرين».
بَعْدَ وَصْفِهِ لِواقِعِ سُلُطاتِ هَذا العَالَم، يَتَوَجَّهُ يَسوعُ إِلى تلاميذِهِ مُمَيِّزًا إِيَّاهُم، بِقَوْلِهِ: "أَمَّا أَنْتُم فلَيْسَ الأَمْرُ بَيْنَكُم هكَذا". بِهَذا التَّمْيِيزِ، يُذَكِّرُ الرَّبُّ تَلاميذَهُ بِفَرادَتِهِم وَبِالتَّعْليمِ الجَديدِ الَّذي يَتَلَقُّوهُ والَّذي يَخْتَلِفُ عَن مَفاهيمِ العَالَمِ. هذا التَّعْليمُ الجَديدُ يَقْلِبُ الـمَفاهيمَ الَّتي يَضَعُها العالَمُ، فَيَجْعَلَ العَظَمَةَ في التَّواضُعِ وَالـمَرْكَزَ الأَوَّلَ في خِدْمَةِ لِلْجَميعِ. وَهَذا التَّعْليمُ هوَ في اتِّباعُ الرَّبِّ يَسوعَ الَّذي جاءَ لِيَخْدُمَ النَّاسَ ويَتَواضَعَ حَتَّى أَقْصَى دَرَجاتِ التَّواضُعِ، باذِلاً ذاتَهُ كَفِدْيَةٍ لِخَلاصِ الكَثيرين.