الخوري أنطوان القزي
مقالات/ 2021-08-14
1- مجال التسامي
تتحدّثُ هذه الآياتُ الثلّاثُ عن تسامي اللهِ. ونجدُ هذا التّسامي، بخاصّةٍ، في التّسميتين اللّتين نجدُهما في هذه المقدّمةِ: "الرَّبُّ" (كيريوس) (آ 46)، "اللهُ" (ثيوس) (آ 47). هاتان اللّفظتان تدلاّن على إسمِ شخصيِّ. ونقرأُ تأكيدًا في (آ 49) "إسمُه قدّوسٌ". فقداسةُ اسمِ اللهِ تُظْهِرُ في تدخّلِه. حينئذٍ نعتَرِفُ أنّ يدَ اللهِ هي هنا. وهذا اليقينُ ينتجُ من قدرةٍ خارقةٍ يفترضُها الحدثُ. ولكن لا شيءَ يمنعُ أن يرتَبِطَ هذا اليقينُ برحمةِ اللهِ الّتي تخدِمُها قدرتُه.
2- مجال الرحمة
يظهرُ هذا المجالُ أيضًا في البدايةِ، حينَ يسمَّى اللهُ "مخلّصي". إذ يتدخّلُ اللهُ ليخلّصَ الّذين يهلكون لولا عونُه، فهو بذلك يدلُّ على رحمتِه. تُذكرُ هذه الرحمةُ مرّتين: في (آ 50) يمنَحُ اللهُ رحمتَه لخائفيه. وفي (آ 54) يمارسُها حينَ يُعِيْنُ إسرائيلَ عبدَه. ويصوِّرُ الشَّكلَ الملموسَ الّذي تتّخذُه رحمةُ اللهِ بواسطةِ فعلين: "نظرَ بعطفٍ إلى حالةِ أمَتِهِ الوضيعةِ" (آ 48). "أعانَ إسرائيلَ عبدَه" (آ 54)، فتذكَّرَ رحمتَه. ما يقابِلُ التَّذَكُّرَ هو النِّسيانُ: اللهُ ينسى مَنْ لا يهتمُّ به، ولكنَّ أمانتَه لا تسمحُ بأنْ ينسى التزاماتٍ ارتبطَ بها حين وعدَ الآباءُ (آ 55). هذا التَّذكُّرُ هو الوجهُ الملموسُ لرحمةِ اللهِ، كما أنَّه سببُ التّدخّلِ الّذي به يدلُّ الله على هذه الرَّحمةِ.
3- مجال القدرة
في (آ 49) يُسمّى اللهُ "القديرُ". نحن لا نجدُ هذه التَّسميةَ إلاّ في موضعٍ واحدٍ في التَّرجمةِ السَّبعينيّةِ، وتحديدًا في كتاب صفنيا "تشجّعي يا صهيون، ولا ترتخي يداكِ. الربّ إلهك هو فيكِ، القدير يخلّصكِ ويجلب لكِ السعادة ويجدّ>كِ في حبّه" (صف 3: 17). إنّ اللهَ إذًا حين يخلِّصُ يُظهِرُ قدرتَه.
حين تحدّثَتْ مريمُ عن القديرِ أعلنتْ أنّه صَنَعَ لها "عظائم" (آ 49). لا تَرِدُ هذه اللَّفظةُ إلاّ قليلاً، وهي تدلُّ على مآثرَ أتمَّها اللهُ ليحرّرَ شعبَه من عبوديّةِ المصرييّن: "هو فخرُك وهو إلهُك الّذي صنعَ لك تلك العظائمَ والأمجادَ الَّتي رأتْها عيناك" (تث 10: 21). قد تكونُ مفارقةً في تقريبِ حدثِ البشارةِ من حدَثِ الخروجِ، ولكن هذا التّقريبُ له مدلولُه: فمجيءُ المخلّصِ لا يقلُّ أهميّةً عن الخروجِ من مِصرَ.
إنّ تأكيدَ (آ 49) "القديرُ صنعَ لي العظائمَ" يُعادُ بألفاظٍ أخرى في (آ 51) "صنعَ قدرةً بذراعِهِ". إنّ العبارةَ تذكِّرُنا بما قالَتْ التَّوراةُ عن التَّدخّلِ الَّذي به أخرجَ اللهُ شعبَه من مِصْرَ "بيدٍ قديرةٍ وذراعٍ ممدودةٍ" (تث 4: 34 و 5: 15). وهكذا يرتَسِمُ توازٍ بين التَّحريرِ الأوّلِ للشَّعبِ المختارِ، وهذا التَّحريرِ الّذي يُدشّنُه سرُّ البشارةِ. أمّا الصُّورةُ الّتي يشيرُ إليها فعلُ "بدّدَ" في (آ 51) هي صورةُ انتصارٍ عسكريٍّ يتبدَّدُ على إثْرِه جيشُ العدوِّ: "بدّدتَ المتكبّرين بأفكار قلوبهم".
والتأكيداتُ الأربعةُ في (آ 52-53) هي صدًى لنشيدِ حنّة: "أنزلَ الجبابرةَ عن عروشِهم (1صم 2: 8) ورفعَ المتواضعين (1صم 2: 7). أشبعَ الجياعَ من خيراتِه (1صم 2: 5) وصرَفَ الأغنياءَ فارغي الأيدي" (1صم 2: 7). إنّ النتائجَ المؤلمةَ لتدخُّلِ اللهِ مع المقتدرين والأغنياءِ تنعكِسُ نتائجُ خيّرةً على الصِّغارِ والمُعدَمين. تحدّثَ النَّصُّ عن فشلِ الأوّلين ليُبرزَ خلاصَ الآخرين، ونحنُ نجدُ عربونَ هذا الخلاصِ في اختيارِ اللهِ لعذراءِ النّاصرةِ الوضيعةِ.
قد يَظِنُّ البعضُ أنَّ القِدرة َتُمارَسُ ضدّ المقتدرين، والرَّحمةَ مع الوضعاءِ. لا، فالقدْرةُ تسيرُ في اتّجاهِ الرَّحمةِ: إنّها أوّلاً قدرةٌ من أجلِ الوضعاءِ، ولنْ تكونَ ضدَّ المتكبّرين إلاّ بصورةٍ ثانويّةٍ. اللّهجةُ واضحةَ في (آ 49): إنَّ القديرَ صنعَ لي عظائمَ. ولن نجدَ الأعداءَ إلاّ في الخاتمةِ ووقتِ الحديثِ عن الخلاصِ الّذي حمَلَه اللهُ لشعبِه.
نحن بذلك لا نقلّلُ من عنفِ الأقوالِ المتعلّقةِ بالمصيرِ الَّذي يؤولُ إليه المُتكبّرون، والمقتدرون، والأغنياءُ. ولكنَّنا نضعُ هذا العنفَ الكلاميَّ في موضِعِهِ الصّحيحِ. إنّه عنفُ مَنْ يريدُ أن يخلِّصَ المسحوقين فيُجبَرُ على معاقَبَةِ الَّذين يسحقونَهم. فاللهُ لا يقدِرُ أن يضعَ قدرتَه في خدمةِ رحمتِه من أجلِ الوضعاءِ، دون أن تتصارعَ هذه القدرةُ مع عظماءِ هذا العالمِ.